الرغم من أنّ الحكومة أرسلت ملف ما يُعرف بقضية الدخان المهرّب إلى القضاء، إلاّ أنّ التداعيات السياسية والجدل المجتمعي حولها ما يزالان يتدحرجان يومياً، ويزداد اللغط حول الأسماء المتورطة فيها، حتى وصل الأمر إلى إرسال قوائم على مواقع التواصل الاجتماعي تتضمن أسماء لوزراء ومسؤولين ونوّاب بزعم أنّهم ضمن لوائح الاتهام، من دون وجود مصدر مؤكّد أو دقيق!
الخشية أن تتحول هذه القضية إلى الجانب الآخر الخطير المرتبط بتصفية الحسابات الشخصية والسياسية، وتبادل الاتهامات والتجريح، من دون وجود ما يؤكّد أو ينفي ذلك، مع عدم وجود معلومات دقيقة واضحة، وفي ظل استمرار النظر القضائي فيها.
معلومات وتسريبات أخرى تحدثت عن وجود جذور للقضية منذ العام 2008، وعن تراخٍ وتجاهل من قبل المسؤولين، وربما تواطؤ من بعضهم، تجاه تمويت تلك الدعاوى، وفتح الباب لمافيات كبيرة أن تنمو، وتمارس التزوير أولاً، والتهرب الضريبي ثانياً، والأهم من كل ذلك الاستقواء على القانون والدولة، وتعزيز انطباعات شعبية متراكمة عبر الأعوام الماضية بأنّ هنالك من هم فوق القانون، ومن هم تحته.
جزء من القضية تمّ إرساله إلى محكمة الدولة، والجزء الآخر تستكمل فيه هيئة مكافحة الفساد التحقيق والبيّنات، لبناء رواية قانونية متماسكة، لكن المطلوب أن لا يطول الصمت لدى هذه الجهات والمؤسسات عن تفاصيل القضية وحيثيات التحقيق وأين وصلت، على الأقل ما لا يتعارض مع بند السريّة، بما يحدّ من الإشاعات والاتهامات التي تلقى جزافاً.
من الضروري أن يتم التعامل مع القضية وحيثياتها بوصفها أولوية للدولة، حكومة وقضاء ومكافحة فساد، وأن توضّح الأمور بصورة جلية للرأي العام الأردني، كي لا تضاف هذه القضية إلى قضايا أخرى، ما ينعكس سلباً إلى درجة كبيرة على علاقة الدولة بالمواطنين ومستوى الثقة المهزوز اليوم إلى أبعد مدى بمؤسسات الدولة.
هنالك أسئلة ما تزال محيّرة للشارع وتحتاج إلى إجابات واضحة، وبصورة رئيسة، عن السبب الذي أدى إلى نمو هذه المافيا خلال الأعوام الماضية، وعن الثغرات التي نمت خلالها، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه؟ وفيما إذا كانت هنالك مافيات أخرى، كما أشيع في الأوساط الشعبية، وما هو مصيرها؟.. الخ.
التعامل مع ملف الدخان في جوهره قضائي، ويخضع للقانون، وهو ما نريده فعلاً، لكن بالتجاور مع هذا المسار، من الضروري أن يكون هنالك مسار آخر لا يقلّ أهمية يأخذ طابعاً سياسياً، ويقدّم لنا رواية حكومية مقنعة ودقيقة حول الأخطاء التي حدثت، التي قد لا تكون جزءاً من العملية القضائية بالضرورة، لكنّها تدخل في باب التقصير والتهاون الإداري من قبل مؤسسات الدولة المعنية بالملف، وهو أمر يقتضي -بدوره- المحاسبة والمساءلة، وعدم التهاون.
وهنالك أيضاً مسار آخر أمني مرتبط بجهود جلب المتّهمين للعدالة ومسار المخاطبات المرتبطة بالموضوع مع الحكومات والدول الأخرى.
نحن أمام اختبار حقيقي اليوم للدولة في ملف الدخان، والنتائج والدلالات تتجاوز هذا الملف على أهميته، لأنّها مرتبطة في صميم علاقة المواطن بالدولة وثقته بالمركز الأخلاقي لها والقيم التي تحاول الالتزام بها والشعارات التي تعلنها، وفي مقدمتها اليوم حكم القانون، لأنّ القناعة الشعبية ما تزال مسكونة بأنّ هنالك من هم فوق القانون ومن هم تحته! وإذا لم يكن هنالك معالجة متكاملة صادقة وشفافية كبيرة في طرح الموضوع للرأي العام فإنّ حجم الخسارات سيكون مضاعفاً.
الغد