تابعتُ، كغيري، نقاشات عريضة مقلقة فعلاً، شارك فيها مئات (وفي بعضها آلاف) الأردنيين، على مواقع التواصل الاجتماعي، بخصوص مواضيع متعددة، متعلقة بالدين والمجتمع والثقافة والرياضة والهويات الفرعية.
الاختلاف في وجهات النظر ليس مخيفاً، ولا يمكن أن يكون المجتمع لوناً واحداً في النظر إلى الدين ودوره وتفسيره، أو القضايا السياسية والاجتماعية المختلفة. بل الأمر الطبيعي هو وجود اختلافات وتنوع وتعدد في المواقف والاتجاهات والآراء والأفكار، لكن ما نتحدث عنه هنا يتجاوز الاختلافات إلى انقسام اجتماعي-ثقافي حادّ على أكثر من مستوى؛ بعضها علني والآخر مستتر، يظهر في ثنايا النقاش والآراء، ويكشف عن حجم الفجوات الاجتماعية الكبيرة!
المستوى العلني من الانقسام هو بين تيار علماني، وفيه نخب تصل الحدّ الأقصى من العلمانية الثقافية والسياسية، والتيار الثاني إسلامي ومعه شريحة اجتماعية عريضة محافظة ويتعاملون مع أي طرح أو فكرة جديدة بوصفها خطراً على "الهوية الدينية" للمجتمع، أو مؤامرة ضد الدين، ويتغذى هذا الاتجاه على خطاب فكري يعزز تلك المخاوف.
هذا الانقسام تعزز وتجذّر وأخذ أبعاداً عصابية نفسياً ومجتمعياً، منذ أحداث الربيع العربي وصعود داعش في المنطقة، وأطلق مخاوف التيار الأول، الذي أجّج خطابه الجديد -في المقابل- مخاوف التيار الثاني! وهكذا دخلنا في حلقة مفرغة من خطاب الغرائز والهواجس، لا حوار الأفكار والثقافات. نقاش المؤامرات والصراعات وقمع الآخر وإقصاؤه، وليس إدارة التنوع والقبول بالآخر والاعتراف بالحق في الاختلاف.
يتمدد الانقسام ليصل إلى هوية الدولة والمجتمع، وربما يذكّرنا ذلك بالسجالات حول الدولة المدنية والمناهج التعليمية، وكلها مرتبطة بهذه المخاوف والهواجس المتبادلة؟ لكن الأهمّ أنّ عمق الانقسام وإن كان بدا مرتبطاً بالثقافة الدينية، فإنّه يتوسّع إلى مستوى خطير من الانقسام، يأخذ أبعاداً سياسية وثقافية واجتماعية، وإن كان في الأساس اقتصادياً، وهو التباين في مستوى الدخل، الذي أصبح أكثر سفوراً ووضوحاً، وحادّاً.
هنالك من يملك المال والخدمات التعليمية والصحية المتميزة، في القطاع الخاص، ولديه القدرة على التكيف مع الضغوط الاقتصادية والمالية، وهنالك من لا يملك شيئاً، ويعاني في إدارة الحياة اليومية مالياً، وهنالك من يملك خيارات متعددة من فرص العمل في الداخل والخارج في مقابل جيش من جيل الشباب يواجه كابوس البطالة وعدم القدرة على بناء مستقبله، بين هذا وذاك طبقة وسطى تكافح وتقاتل من أجل الحفاظ على مستوى من الحياة الجيدة، مع اضطرارها إلى التعليم الخاص وهكذا!
في المحصلة، يبدو الأمر -في كثير من الأحيان- وكأنّ المحافظات والمدن، لا تقع في دولة واحدة، وليست جزءاً من مجتمع منتاغم يحتفي بالاختلاف ضمن قيم وطنية جامعة وثقافة عامة محترمة، ودولة لديها هوية واضحة. بل الصورة معكوسة تماماً وكأنّنا -في الأردن- كواكب مختلفة متباينة، عمّان الغربية كوكب، والمحافظات كوكب آخر، وعمّان الشرقية كوكب ثالث، وهكذا لدينا مجتمعات متعددة وليس مجتمعاً واحداً متنوعاً!
في السابق كان هنالك دور أكبر للدولة ورسالتها الثقافية والوطنية والرمزية، كما قامت خدمة العلم بتذويب كثير من الاختلافات والتباينات، وكذلك الحال في مؤسسات القطاع العام، التي شكّلت رافعة اجتماعية وثقافية، ومكّنت من عملية الانتقال السلس بين الطبقات، أمّا اليوم فتبدو تلك الروافع مهترئة وهشّة، والأفران التي تصنع الهوية الوطنية الجامعة معطّلة، والدولة عاجزة عن إيجاد الحلول.
الاختلاف والتنوع والتباين أمر طبيعي، وجيّد، لكن ضمن إطار وطني عام وقيم ورسالة وطنية شاملة، وإلاّ فإنّ النهاية ستكون "هويات قاتلة" متقاتلة، وصراعات اجتماعية شديدة، وانهيارا في السلطة الأخلاقية للدولة والمجتمع. وهنا تحديداً تبدو المهمة غير المطروحة أصلاً من قبل النخب، بالرغم من أهميتها القصوى، وأعني المهمة الثقافية للدولة ورسالتها التي من المفترض أن تكون هي الوعاء العام الجامع والإطار الناظم للهوية الوطنية!
الغد