أن يكون الجوع أو العطش أو الحرّ الشديد أو البرد الشديد أو الاختناق بالأدخنة أو الحرْق أو انعدام الدواء سبباً في وفاة شخصٍ واحدٍ في أيّ مكان من العالم فتلك مصيبة عظيمة لا تتحملها المشاعر الإنسانية ولا تطيق تصوّرها، أمّا أن يكون المتوفّى برداً أو جوعاً أو عطشاً أو حرقاً طفلاً فالمصيبة أعظم ووقعها في النفس الإنسانية أشدّ وأبلغ، وأمّا أن يكون هذا الطفل المتوفّى رضيعاً، فذلك ممّا يتفطر له القلب وتبكي له العيون دماً، ومع ذلك فإنّ المرء الذي يسمع ذلك أو يشاهده ويحزن له حزناً بالغاً وربّما يعلق في ذاكرته ومخيّلته ?لى الأبد سوف يعزّي نفسه بكون هذه الواقعة قضاءً وقدراً، ولا سيّما إذا كانت الوفاة على هذه الصورة ناجمة عن خللٍ فنيّ أو عارضٍ طارئ أو زلزال أو عاصفةٍ أو غير ذلك ممّا ليس للإنسان يدٌ فيه.
ولكن عندما تكون وفاة الأطفال الرضّع جوعاً وبرداً وحرقاً وقنْصاً إعداماً متعمّداً ومقصوداً ومخططاً له من جيش عديم الأخلاق والضمير والإنسانية مدجّج بكلّ وسائل القتل والإجرام الحديثة، فتلك مصيبة لا يستوعبها عقل إنسان ولا يتحمّل تصوّرها ولا تطيق احتمالها نفس بشرية مهما بلغ صاحبها من القسوة والشرّ والعدوانيّة، فقد مات عددٌ غير قليل من الأطفال الرضّع في غزّة بسبب قيام الجيش الصهيوني الحاقد وبروح إجرامية ودوافع انتقامية وحشية بحرمانهم من كلّ أسباب الدفء وأسباب الحياة من ماء وطعام وحليب ولباس ودواء، ولاحقهم في أما?ن نزوحهم بالقنابل والصواريخ والمدافع والحرائق، ولنا أن نتخيّل كل واحدٍ من هؤلاء الأطفال الرضع الذين عجز آباؤهم عن توفير أي وسيلة لإطعامهم أو إلباسهم أو علاجهم أو حمايتهم، لنا أن نتصوّر كلّ واحدٍ منهم وهو يتضوّر جوعاً ويبحث عن ضرع والدته وهو يتلمظ دون جدوى ثم يداهمه البرد الشديد حتّى يتجمّد الدم الطاهر في عروقه ويتحوّل جسده الغضّ إلى قطعة جليد ثم يلفظ أنفاسه فهل بعد هذه المصيبة مصيبة؟! وهل بعد هذه الجريمة جريمة؟! إنْ لم تكن هذه صورة من صور الإبادة التي يرتكبها الصهاينة وشاهداً صارخاً عليها فما هو تعريف الإب?دة بعد ذلك؟!
وممّا يزيد المصيبة بشاعةً ومرارة أن تحاول الولايات المتحدة الأميركية وبعض دول أوروبا والدول المسمّاة بالعظمى زوراً وبهتاناً إقناع العالم بأنّ هذه الجرائم التي تقترفها دولة الاحتلال الصهيوني لا ترقى إلى جريمة حرب ضد الإنسانية ولا تمثّل سياسة تجويع أو غيره، وفي ذلك إمعانٌ من الدول الداعمة لهذا الكيان في التجرّد من الإنسانية، وإمعان في تشجيع القتل والإجرام ودعم العدوان والظلم وسلب حقوق المستضعفين.
ولا يقتصر الأمر على استمرار الدعم الأميركي والغربي لهذا الكيان في مثل هذه الجرائم الوحشية والدفاع عنه إعلاميّاً وفي المحافل السياسية الدولية، بل أصبح الصمت العالمي سيّد الموقف وهم يرون الأطفال الرضّع يتحوّلون إلى جثث هامدة الواحد تلو الآخر من شدّة البرد والجوع ويكفنون ويدفنون وقلوب أهليهم تتبعهم وعيونهم تغرق بالدموع والأحزان.
وممّا يمزق الأرواح ويملأ النفوس حسرة وأسىً والعقول حيرة وذهولاً استمرار الصمت العربي إزاء هذا اللون الفاجع من الجرائم، إلاّ من بعض الاستنكار هنا وهناك مما لا يغني شيئاً ولا يشكل ضغطاً على الاحتلال لوقف جرائمه، حيث إنّ من المفترض أن يسبق العرب غيرهم من شعوب العالم في بذل أقصى الجهود الممكنة للحدّ من معاناة الأطفال والنساء والشيوخ في غزة وإيقاف الممارسات والمجازر الوحشية التي يتعرّض لها أهل غزّة.
وأمام استمرار الجرائم الصهيونية في غزّة وأشكال القتل والتدمير التي يمارسها الجيش الصهيوني، وأمام هذه الوحشية المتصاعدة والجنون المتعاظم للصهانية، وتزايد معاناة المدنيين في غزّة، وأمام مشاهدة أجساد الأطفال الرضّع ترتعش من شدّة البرد والجوع ثم تتجمّد ثم تفيض إلى بارئها مشيّعة بدموع الأمّهات، دون أن يخفق قلب إنسانٍ في هذا العالم أو يرفّ له جفن أو تتحرك عنده حميّة أو ينبض له قلب، يمكن الحكم على البشرية في هذا الزمن الأميركي والصهيوني بأنّها تجرّدت من إنسانيّتها وشرفها وخلعت عن نفسها ثوب الحقّ والعدل وتخلّصت من?ضميرها وأخلاقها، وراحت تلهث خلف المصالح الرخيصة متسلّحة بالنفاق والكذب والظلم القبيح.
إنّ السبيل الوحيد لنفي هذه الأوصاف عن وجه العالم المعاصر هي إيقاف كلَّ دعم من أي دولة للكيان الصهيوني وقطع العلاقات مع هذا الكيان المارق ومحاصرته وحرمانه من كلّ الفرص التي تجعله يواصل إجرامه وتجاوزاته اللاأخلاقية واللاإنسانية، وفي مقابل ذلك إطلاق المساعدات الإنسانية والمادية المتنوّعة لأهل غزّة ورفع الحصار عنهم ودعم الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه وتقرير مصيره.
Salahjarrar@hotmail.com