أخبار الأردن اقتصاديات خليجيات دوليات مغاربيات برلمانيات جامعات وفيات أحزاب وظائف للأردنيين رياضة مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية جاهات واعراس الموقف شهادة مناسبات مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم

التل يكتب: حضارة العرب وعلومهم قبل الإسلام (1)


د. مصطفى التل

التل يكتب: حضارة العرب وعلومهم قبل الإسلام (1)

مدار الساعة ـ
الحضارة بالمفهوم العام هي النتاج الفكري والمادي لأمة من الأمم والتي تميزها عن غيرها , ولا تقتصر الحضارة على النتاج المادي وحده , اذ انها خليط بين الثقافة والفكر والمادة لتلك الأمة .
ولتبين معالم تلك الحضارات العربية القديمة لا بد لنا من استعراض سريع لطبيعة بلاد العرب القديمة وما هي الدول العربية القديمة التي نشأت , وتجارتهم وأحوالها , وأديان العرب عموما , مروراً بالحكومات العربية القديمة التي نشأت بين القبائل العربية المرتحلة في جزيرة العرب. وصولاً الى السؤال الأهم : اين هي معالم واثار وعلوم هذه الحضارة التي تشهد لها بالوجود أو العدم ؟
نقاشاً معمقاً تم تداوله حول حضارة العرب قبل الإسلام في (منتدى الحوار الوطني ) , قدّمه أساتذة افاضل , وتناولوه بالبحث والملاحظات , بعضهم قولبه ضمن منهجه الفكري القومي او الوطني , والبعض قولبه بالقالب الديني , والآخر انطلق من دون قيود قولبة أي كانت نوعها .
الدكتورة زينة غنيم , متخصصة في الأدب الجاهلي , قدّمت صورة شمولية عن أدب وحضارة تلك الفترة بشمولية في جزيرة العرب , وكونها متخصصة في ذلك النوع من الفرعيات العلمية فقطعا ستكون مداخلاتها شمولية , بحيث انني اعدت القراءة لها أكثر من مرة , حتى لا أتجاوز عن التصور الشمولي لتلك المرحلة من خلال ربط المداخلات بشكل شمولي , وبطريقة غير مجتزأة, فكانت فعلا مداخلات شمولية عندما تنتظم مع بعضها البعض , بحيث يتكون عند القاريء صورة شمولية لعرب الجاهلية وأدبهم في جزيرة العرب .
أبحث عن أصل الحضارة العربية , هل هي نقية كعرب ام كانت من أعراق مختلطة , لم انفي الحضارة العربية قبل الإسلام , ولكني أبحث عن جذورها .
من هنا : يبقى السؤال المعلّق : هل امتلك العرب كعرب حضارة عربية خالصة لهم ؟! وان امتلكوها أين هي الدلائل التي تدل على حضارتهم غير الشعر العربي ؟!
حتى نخوض في هذا الامر الشائك , لا بد لنا بداية من أن نتصور البلاد العربية في تلك المراحل , فطبيعة البلاد في تلك المراحل تبني صورة جذرية عن الحضارة العربية التي ولدت مع ولادة البلاد العربية .
طبيعة البلاد العربية :
لا يمكن ان نتصوّر العرب في عهد الإسلام وحضارته إلا بعد تصوّر الثابت من تاريخهم في العصور التي سبقت الإسلام وحضارته , وما هي آثارهم وعلومهم وثروتهم المادية وغيرها .
فلا بد من دراسة حالتهم في معظم مظاهرها , حتى نتدرّج معهم بتدرّجهم من الجزيرة العربية الى حيث درجوا في باقي المناطق الجغرافية التي شهدت لهم حضارات , وهنا علينا التفريق بين الجزيرة العربية المنغلقة على نفسها وبين باقي المناطق المنفتحة على غيرها , وبالتالي ما يمكن تسميته بالطور المدني والاجتماعي .
يمكن ملاحظة الفروق الجغرافية والمناخية بين الأقاليم العربية , مما يؤثّر على طبيعة الحضارات ودواعي قيامها فيها , فالقرب من البحر , والانخفاض والعلو في الجبال والسهول , وبين الاعتدال المناخي والخصب وغيره , نجد حضارات عربية مختلفة .
ففي الجزيرة واحات وسهول فيها اعناب ونخيل وزرع وارتفاع حرارة وامطار متقطعة , بلاد الحجاز الخصب فيها يقل الا على اطرافها مثل الطائف , , بينما في اليمن ,الجبال وانخفاض الحرارة مع برودة , ومياه قليلة الجريان ولكنها تكثر , وامطارها كثيرة ومراعيها اكثر .نجدها من الاقاليم العربية التي عَمُرت فيها المدنية القديمة , وقامت فيها الدول , اذ فيها الحاصلات الزراعية ما لا توجد في غيرها , وفيها الأخشاب بكثرة من الشجر , وجبالها الخضراء المزدهرة , وغيره من الثروات الزراعية والطبيعية.
يقول ابن الفقيه من خلال ما أورده الهمداني في كتابه ( صفة جزيرة العرب ) : ( وباليمن من أنواع الخصب وغرائب الثمر وظرائف الشجر؛ ما يستصغر معه ما ينبت في بلاد الأكاسرة والقياصرة، وقد تفاخرت الروم وفارس بالبنيان وتنافست فيه، فعجزوا عن مثل غُمدان ومأرب وحضرموت وقصر مسعود وسد لقمان وسلمين وصرواح ومرواح وبينون وهندة وهنيدة وفلثوم بريدة).
أـما الأقاليم الجبلية , وهي لا تنقطع من شمال الجزيرة العربية في بلاد الشام حتى الطائف , فصنعاء وما ورائها من أقاليم عربية , ففيها لطف هوائها , وماءها العذب الذي لا يكاد ينقطع , فمن ارتفاع 1600 م فوق سطح البحر في الطائف الى 2275 م في أبها اليمن , نجد المعادن الطبيعية كالفضة والذهب والحديد , ومثلها في مناطق عُمان وحضرموت وهجر التي هي البحرين , ونجد وغيرها .
الدول العربية التي نشأت قديماً :
علماء التاريخ العربي قسّموا العرب القدماء الى قسمين من حيث الانتماء الفرعي النسبي : عدنانية وقحطانية , العدنانية سكان الحجاز , بينما القحطانية سكان اليمن , معه ملاحظة ان العرب قبل الإسلام انوا يتكلمون لغة واحدة مع فروق طفيفة .
وقسّموا العرب من حيث العموم التاريخي الى ثلاثة أقسام : عرب بائدة (كعرب عاد وثمود وجرهم الأولى ) , وعرب عاربة ( مثل عرب اليمن القحطانيين ) , وعرب مستعربة ( مثل أولاد إسماعيل عليه وعلى نبيا أفضل الصلاة والسلام , سكان الحجاز ) .
علماء التاريخ العربي أكدوا ان العرب القحطانيين سبقوا العرب العدنانيين في تأسيس الحضارة العربية , وارجعوا ذلك الى عدة أسباب من أهمها : قربهم للبحر مثل البحر الأحمر والمحيط , وبلادهم امتازت بالخصوبة الزراعية مما شجعهم على الاستقرار اللازم لإنتاج حضارة ومدنية , إضافة الى أن منطقتهم في اليمن كانت نقطة اتصال تجارية بين الشرق والغرب .
واجمع علماء التاريخ والآثار على أن اليمن سبقت بتمدنها بابل ومصر، ومنها هاجر أجداد الفراعنة، ومنها كان أجداد البابليين والأشوريين، وإلى مصر وبابل وأشور حمل اليمانيون الصناعات والعلوم والتجارة. فاليمانيين أو الحميريين هم الذين مدَّنوا شواطئ آسيا وإفريقية وأوروبا، وكانوا في القديم أميل في مدنيتهم إلى التجارة، لا إلى الغزو والغارة؛ ولذلك كان معظم الأذواء يتجرون، فإذا كانت لرجل منهم مطامع في السيادة تغلب على البلاد.
قامت عدة دول عربية في العصور القديمة , على امتداد تواجد العرب في الجزيرة العربية أو خارجها , جزء منها ضاعت الغالبية من أخبارها , مثل دولة العماليق ( نسبة الى عمليق بن سام ) , وكانت تمتاز بانها ممتدة من العراق الى العقبة , وتغلبوا على دولة بابل وكانت دولتهم تاريخيا قبل ولادة المسيح عليه الصلاة والسلام بخمسة وعشرين قرناً وكانت تسمى تاريخيا بدولة (الساموآبيين) , ومنهم الملك حمورابي , وهو عربي حسب ما أورده ( ياقوت الحموي ) في مصنفه , تغلّب على دولة الآشوريين , وكانت دولته تمتاز بالمدنية والقوانين المنظمة لها وتطاولوا بالعمارة المدنية و انتهت على يد الآشوريين بعدما استعادوا قوتهم , واضطهدوا العرب بعد انتصارهم , فهاجر معظمهم الى غرب الجزيرة العربية وجنوبها , حسب ما وثقه جرجي زيدان في مؤلفه ( تاريخ التمدن الإسلامي ) .
أبو القاسم محمد بن حوقل المعروف بابن حوقل وهو جغرافي ومؤرخ ورحالة مسلم عاش في القرن الرابع الهجري شارح ومحرر كتاب ( المسالك والممالك ) للاصطخري وواضع مؤلف ( صورة الأرض ) , وثّق بدوره تاريخ دولة الهكسوس العربية , الذين دخلوا مصر من جهة البحر الأحمر قبل ولادة المسيح عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام يثلاثة وعشرين قرناً , حيث أنهم استولوا على الواجهة البحرية المصرية بكاملها , وجعلوا عاصمتهم "صان " حتى أجلاهم ملك (ثيببة ) عنها وهو حاكم منطقة صعيد مصر حوالي عام 1700 قبل الميلاد .
كما رصد تاريخ تأسيس العرب الذين نزحوا من أشور دولة عاد الأولى في جنوب الجزيرة العربية قبل ميلاد المسيح عليه السلام بعشرين قرناً , كما انه رصد تاريخ دولة ( المعنيين ) العربية في حضرموت شرق اليمن , حيث أنهم كانوا يقومون على الزراعة في سهول اليمن وجبالها , وابدعوا في انشاء السدود وفتح الخلجان البحرية .
ووثّق تاريخ دولة ( طسم وجديس العربية ) وكانت عاصمتها ( الحجر ) في اليمامة شرقي بلاد العرب التي نعرفها اليوم باسم (نجد ) مع ملاحظة ان نجد الحجاز ليست هي نفسها ( نجد اليمن ) رغم انهما متصلتان بممر بري محصّن كما وثّقه ابن حوقل .
ياقوت الحموي بدوره رصد تاريخ دولة ثمود العربية والتي أصلها من اليمن ونزلت ما يعرف اليوم بمدائن صالح , ورصد من تاريخها مدنيتها التي لم يوجد مثلها في الأرض في عصرهم .
كما رصد تاريخ دولة قحطان التي كانت بشمال جزيرة العرب والذين أسسوها العرب الذين نزحوا الى اليمن بعد تدمير مملكة اشور لدولة حمو رابي العربية كما سلف , وهي دولة سبأ الأولى , وبعدها سبأ الثانية التي قامت على أنقاض الأولى وهي ما نعرفها بمملكة حمير .لكن مملكة حمير او سبأ الثانية كانت مقطعة الاوصال من حيث الوحدة الجغرافية , وبالتالي عجزت عن جمع اليمنيين كما كان الحال في دولة سبأ الأولى .
ورصد أيضا تاريخ دولة كندة العربية التي سكانها كانوا بطنا من كهلان , وكانوا نزحوا من اليمامة الى شمال حضرموت , ونصّبوا على دولتهم (حجر بن عمرو ) ملكاً عليهم وعلى العرب , وكانت عاصمتهم منطقة تسمى ( بطن عاقل ) .
كما رصد تاريخ دولة تنوخ العربية في العراق والتي خلفها اللخميون العرب , ورصد تاريخ دولة ( بني غسان ) واصلهم من اليمن في بلاد الشام والتي تعهدتها روما بالرعاية لتحمي حدودها من جهة سيف البادية من جهة الجنوب , كما فعلت فارس مع ملوك الحيرة العرب لجعلهم دول فاصلة بينهم وبين الرومان والعرب .
ونرجع الى جرجي في مؤلفه ( تاريخ التمدن الإسلامي ) والذي رصد أيضا بدوره تاريخ الدول العربية القديمة خارج ارضهم التقليدية ( جزيرة العرب واليمن ) , وذكر منها :
دولة الرعاة في مصر ( الهكسوس ) العربية كما سلف ذكرها , ودولتهم العربية في آشور , ودولة الأنباط في سلع , ودولة "الكسيوم" العربية التي أسسها اليمنيون في الجزء المقابل لبلادهم العربية من الشط المقابل , ودولة تدمر العربية والتي اعتمدت على العرب في تأسيسها , ودولة الينوربين التي حكمت اللبانين الشرقي والغربي , وامتدت الى فنيقية , وكانت عاصمتها الأولى ( عين جر ) او التي تعرف اليوم باسم ( عنجر ) في البقاع اللبناني , ثم انتقلت العاصمة الى طرابلس اللبنانية , ومؤسسي الدولة هم عرب من الجيدور وحوران .
هذه الدول خارج مواطن العرب التقليدية ساعدهم على تأسيسها اللغة , والتي كانت صلة الوصل بين العرب وبين بقية الأمم في تلك العصور , حيث انهم لم يكونوا بحاجة الى لغة أخرى للتفاهم مع الأمم الأخرى , بل كانت العربية كافية للتخاطب والتفاهم , حيث كانت اللغات حديثة عهد بالتشعب من لغتها الأولى , حيث ان التفاهم كلغة بين العرب وبين اليهود , والحبش والكلدان والآشوريين والفينيقيين تم تشبيهه كالفرق بين اللغة النرويجية و السويدية او كالفرق بين اللغة الصربية والبلغارية .
ساعد العرب في الحفاظ على استقلال دولهم العربية القديمة قبل الإسلام كما رصده المؤرخ الفرنسي ( جيدي) في مؤلفه ( جزيرة العرب قبل الإسلام ) , بأن العرب كانوا أهل شدة وبأس ولا يقبلون بالهزيمة دون انتقام ولو طال الزمن , ولم يركنوا الى الرفاهية المطلقة كما هو الحال في بقية الأمم , بل يستطيعون التكيّف مع القلة وشظف العيش ويتقون به على تحقيق هدفهم في الانتقام ان كانت الظروف العامة قاسية عليهم مثل الهزيمة في الحروب غيرها , كما ان صحراءهم واسعة لا قدرة للأمم الأخرى بمقارعتها ومقارعة طول المسافات المهلكة فيها , يقول ( جيدي ) في مؤلفه :
(إن الرومان فتحوا جميع العالم المعروف، وحاولوا على عهد الإمبراطور أغسطس أن يستولوا على بلاد العرب، ففتحوا مأرب عاصمة سبأ، ثم رُدوا عنها خائبين ..... إن أدينة الذي كان معروفًا عند الرومان باسم أداناتوس Adenatus ويُعد من أمبراطرتهم هو عربي الأصل وكذلك وهبة اللات، وقد نشأ من بلاد أخرجت أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص من قواد الإسلام العظام الذين قضوا على مملكة الساسانيين، وعلى جزءٍ من مملكة بيزنطية(.
الدول العربية القديمة والتجارة :
(كل عربي سمسار أو تاجر) , هذه هي الدول العربية القديمة التي عرفها العالم القديم , كما قرره الجغرافي الروماني استرابون والذي عايش فترة المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام كما رصده اليعقوبي في مصنفه المعروف بتاريخ اليعقوبي .
الأنظمة السياسية العربية القديمة , وفّرت للعرب كل الوسائل الممكنة لرعياها ولمن لهم علاقات اقتصادية معهم من خارج دولهم تعينهم على الاستقرار الاقتصادي والتجاري مع غيرهم .
وفرت العوامل اللازمة لنجاح واستقرار الاقتصاد في البلاد وخارجها , ومن ذلك القوانين الصارمة التي تحمي التجارة داخل دولهم , مع القوة العسكرية التي تحفظ منافع ومصالح تلك الدول ضمن محيطها , مع استقرار في بناء علاقات اقتصادية متوازنة مع العالم القديم .
مما سمح لمختلف العرب الاقتصاديين ومن ضمنهم ما كانوا يمثلون نشاط التجارة وهو النشاط الأبرز بين مناطق دول العالم القديم , ان يمتلكوا كل الثقة بدولهم وقدرتها على حمايتهم وحماية مصالحهم الاقتصادية .
مما سمح لمختلف العرب الاقتصاديين ومن ضمنهم من كانوا يمثلون نشاط التجارة وهو النشاط الأبرز بين مناطق دول العالم القديم , أن يمتلكوا كل ثقة بدولهم وقدرتها على حمايتهم وحماية مصالحهم الاقتصادية .
مما ساعدهم على التنقل بكافة الأقاليم التي كانت معروفة بالعالم القديم ضمن أنشطة اقتصادية متنوعة , وكانوا يمتلكون الضياع والمنازل والمصالح التجارية في أغلب أقاليم العالم القديم , ويقيمون بكل آمان في مختلف أقاليم ذلك العالم .
ومن التقدم الاقتصادي , وسن القوانين التي تساعد على جلب الاقتصاد لبلاد العرب ودولهم وجعلها أشبه ما تكون بمراكز عالمية للتجارة العالمية , حددوا عشرة أسواق عالمية في الدول العربية القديمة تكون آمنة تماما من القتال والحروب والملاحقة بجنايات الدماء وغيرها لأي شخص يقدم اليها للتجارة , منها :
دومة الجندل , والمشقر وهجر وصحار وريا والشحر وعدن وصنعاء والرابية بحضرموت وعكاظ بأعلى نجد, واستمرت أغلب هذه الأسواق حتى نهاية عصر قريش قبل الاسلام , والتي رصدها اليعقوبي في تاريخه.
التجارة في عهد قريش , آلت لها بالمحصلة العامة على يد بني عبد مناف , فكانت لها رحلتان عظيمتان محوريتان للتجارة تمثل العمود الفقري لاقتصادها , الاولى في فصل الشتاء نحو اليمن وبلاد اليكسيوم من الحبشة , وأخرى في الصيف نحو بلاد الشام وبلاد الروم . وتم ذكر ذلك في القران الكريم في قوله تعالى ( لإيلاف قريش ...).
والايلاف هو جزء من الربح ومنافع التجارة المادية التي كانت قريش تعطيها للقبائل العربية عند التجارة مقابل تزويد القوافل بمؤنتهم التي تكفيهم في سفرهم و حماية لخط تجارتها , وكان يتولاها هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم , وبعد وفاته تولاها أبناؤه من بعده, الامر الذي يجعل جميع العرب في جزيرة العرب مشاركون في هذه التجارة الإقليمية كما رصده ( الكلاعي ) في مصنفه ( الاكتفاء في مغازي المصطفى ) .
وكانت هناك تجارة الى بلاد فارس , ولكنها ليست بمقدار التجارة التي كانت تتوجه الى اليمن والحبشة وبلاد الشام والرومان , فكان هاشم يتاجر الى بلاد الشام , وعبد المطلب الى اليمن , وعبد شمس الى الحبشة , ونوفل الى بلاد فارس , وجميعهم من بني عبد مناف , وبني عبد مناف هؤلاء هم صلة الوصل الاقتصادية بين قريش وكافة أقاليم العالم في ذلك العهد , لذلك سمتهم العرب بأقداح النضار , لطيب افعالهم واثرهم الاقتصادي على العرب الذي عمّ العرب جميعا كما سلف كما رصده الثعالبي في مصنفه المسمى ( المضاف والمنسوب ) .
أديان العرب :
هذا المحور سينصب على القبائل العربية التي سكنت جزيرة العرب منذ وجود قبيلة قريش , حيث ما قبلها تم ايضاحه بمقال منفصل .
أغلب العرب كانوا يعبدون اصنامهم بجانب اعتناقهم أديان أخرى منتشرة في بقاعهم , فكان يجتمع بالقبيلة الواحدة ثلاثة أديان أو أكثر .
وبشكل عام كانت مكة عابدة للأصنام الاصنام , والقبائل المقيمة فيها وما حولها توزعت حسب تعصبها لدينها , فكانت قريش كلها تسمى ( حمس ) لتشددهم وتعصبهم لدينهم , وحزاعة تسمى ( الحلة ) , وهي اقل تعصبا وتشددا لدينهم من قريش .
فكان الحمس ( قريش) ، إذا نسكوا لم يسلئوا سمنًا، ولا يجزُّون شعرًا ولا ظفرًا، ولا يمسون النساء ولا الطيب، ولا يأكلون لحمًا, بينما الحلة ( بني خزاعة ) فكانوا على العكس من ذلك، ينعمون بالطيبات كلها لا يبالون ما صنعوا, ثم دخل قوم من الحلة ( بني خزاعة ) اليهودية والنصرانية , وتزندق منهم قوم وقالوا بالثانوية كما رصده اليعقوبي .
اليمن تهوَّدت بأسرها، وتهود قوم من الأوس والخزرج، بعد خروجهم من اليمن لمجاورتهم خيبر وقريظة والنضير، وتهوَّد قوم من بني الحارث بن كعب وقوم من غسان وقوم من جذام، «وكان بنجران بقايا من أهل دين عيسى على الإنجيل أهل فضل واستقامة.» وكان من العرب من يميل إلى الصابئة ويعتقد في أنواء المنازل اعتقاد المنجمين في السيارات، حتى لا يتحرك إلا بنوءٍ من الأنواء، ويقول: مطرنا بنوءِ كذا، ومنهم من أنكر الخالق والبعث وقالوا: وما يهلكنا إلا الدهر، وهم الدهريون، وقال بعضهم: كانت المجوسية في تميم، والزندقة في قريش، أخذوها من الحيرة يقول ابن الأثير في مصنفه ( أسد الغابة ) : ( إن ديار تميم كانت تجاور بلاد الفرس وهم تحت أيديهم، والمجوسية في الفرس، على أن العرب قبل الإسلام كان كثير منهم قد تنصر، كتغلب وبعض شيبان وغسان، وكان منهم من صار مجوسيًّا وهم قليل، وأما اليهودية فكانت باليمن، وكان من العرب صنف اعترفوا بالخالق وأنكروا البعث، وصنف عبدوا الأصنام، وأصنامهم مختصة بالقبائل، ومنهم من يعبد الجن، ومنهم من يعبد الملائكة وكانوا يحجون البيت ويعتمرون ويحرمون ويطوفون ويسعون) .
الخوارزمي يرصد في مصنفه ( مفاتيح العلوم ) أصنام العرب بقوله : (وللعرب أصنام, فكان سواع لهذيل، وود لكلب، ويغوث لمذحج وقبائل من اليمن، وكان بُدومة الجندل، والنَّسر لذي كلَاع بأرض حمير، ويعوق لهمدان، واللات لثقيف بالطائف، والعُزَّى لقريش وجميع بني كنانة، ومناة للأوس والخزرج وغسان، وهُبَل كان في الكعبة وكان أعظم أصنامهم، وإساف ونائلة كانا على الصفا والمروة، وسعد لبني مِلكان بن كنانة، وكان عدد الأصنام في الحرم لما فتح الرسول مكة بضع مئات كسرها وأصحابه. قال أبو عثمان النهدي : كنا في الجاهلية نعبد صنمًا يُقال له: يغوث، وكان صنمًا من رصاص لقضاعة تمثال امرأة، وعبدت ذا الخَلَصَة، وكنا نعبد حجرًا ونحمله معنا فإذا رأينا أحسن منه ألقيناه وعبدنا الثاني، وإذا سقط الحجر عن البعير قلنا: سقط إلهكم فالتمسوا حجرًا.)
من خلال هذا التنوع في الأديان عند العرب ظهرت قدرات عالية من النحت والتصوير والابداع في التماثيل المختلفة كظاهرة دينية لديهم، رصده أحمد تيمور في مؤلفه المسمى (رسالة التصوير عند العرب) :
(ويؤخذ من هذا أنه كان للعرب في الجاهلية المصور والمثال؛ فصوروا جدران الكعبة وملأوها بتماثيل أربابهم، ومن جملة ما كان فيها صورة عيسى وأمه عليهما السلام بقيتا حتى رآهما من أسلم من نصارى غسان، وكان على أحد عمد الكعبة تمثال مريم وفي حجرها ابنها مزوقًا، وقال ابن الكلبي: إنه كان لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان صنم في مشارف الشام يُقال له: الأقيصر ، كانوا يحجونه ويحلقون رءوسهم عنده، فكان كلما حلق رجل منهم رأسه ألقى مع كل شعرة قُرَّة ،وكان ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر قومًا صالحين ماتوا في شهر فجزع عليهم ذوو قرابتهم، فعملوا لهم خمسة أصنام على صورهم، فمضت قرون ثلاثة وهم يعظمون، وفي القرن الثالث أخذوا يعبدونهم. وكان ود تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد زبر عليه حلتان متزرًا بحلة مرتديًا بأخرى، عليه سيف قد تقلده، وقد تنكب قوسًا، وبين يديه حربة فيها لواء ووفضة( .
السؤال الأهم : اين هي شواهد حضارتهم في عصرنا الحاضر كما هو الحال في حضارة الرومان والاغريق والفرس وغيرهم ؟!
هذه الامة العربية الممتدة تاريخيا بدون انقطاع قرونا طويلة قد تكون أطول فترة تاريخية لامة على وجه الأرض حتى اللحظة , هذه الدول والممالك والامبراطوريات العربية التي لم تنقطع تاريخيا ولا جغرافيا على طول فترة وجود هذه الامة على الأرض , وهذه التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية والنظم السياسية وغيرها , ألم تنتج حضارة وعلومها ؟ ألم تُراكم إنجازات حضارية مستقلة بالأمة العربية دون غيرها من الأمم؟ ألم تفلح باي نوع من أنواع العلوم البشرية التي هي لازمة لاستمراها ؟!!!
بداية دعونا نتفق ان الحضارة العربية القديمة قبل الإسلام , لم تحظى بأدنى جهد علمي من علماء الآثار في الكشف عنها وعن علومها , بل انصب البحث عن آثار وعلوم الحضارة الرومانية والاغريقية وحتى الفارسية , أما الحضارة العربية قبل الإسلام لولا علماء المسلمين ومؤرخيهم و جغرافييهم وحضارة الإسلام نفسها , لتم اسقاطها من التاريخ البشري برمته , ولاندثرت من الوجود, حتى غلاة القوميين العرب لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث والتنقيب عن حضارة قومهم الذين يدعون تقديسهم , فهل كتب الله على العرب أن يكونوا الأكثر تقصيراً في حق أنفسهم عبر التاريخ ؟!حضارة العرب وعلومهم قبل الإسلام (1)
د.مصطفى التل
الحضارة بالمفهوم العام هي النتاج الفكري والمادي لأمة من الأمم والتي تميزها عن غيرها , ولا تقتصر الحضارة على النتاج المادي وحده , اذ انها خليط بين الثقافة والفكر والمادة لتلك الأمة .
ولتبين معالم تلك الحضارات العربية القديمة لا بد لنا من استعراض سريع لطبيعة بلاد العرب القديمة وما هي الدول العربية القديمة التي نشأت , وتجارتهم وأحوالها , وأديان العرب عموما , مروراً بالحكومات العربية القديمة التي نشأت بين القبائل العربية المرتحلة في جزيرة العرب. وصولاً الى السؤال الأهم : اين هي معالم واثار وعلوم هذه الحضارة التي تشهد لها بالوجود أو العدم ؟
نقاشاً معمقاً تم تداوله حول حضارة العرب قبل الإسلام في (منتدى الحوار الوطني ) , قدّمه أساتذة افاضل , وتناولوه بالبحث والملاحظات , بعضهم قولبه ضمن منهجه الفكري القومي او الوطني , والبعض قولبه بالقالب الديني , والآخر انطلق من دون قيود قولبة أي كانت نوعها .
الدكتورة زينة غنيم , متخصصة في الأدب الجاهلي , قدّمت صورة شمولية عن أدب وحضارة تلك الفترة بشمولية في جزيرة العرب , وكونها متخصصة في ذلك النوع من الفرعيات العلمية فقطعا ستكون مداخلاتها شمولية , بحيث انني اعدت القراءة لها أكثر من مرة , حتى لا أتجاوز عن التصور الشمولي لتلك المرحلة من خلال ربط المداخلات بشكل شمولي , وبطريقة غير مجتزأة, فكانت فعلا مداخلات شمولية عندما تنتظم مع بعضها البعض , بحيث يتكون عند القاريء صورة شمولية لعرب الجاهلية وأدبهم في جزيرة العرب .
أبحث عن أصل الحضارة العربية , هل هي نقية كعرب ام كانت من أعراق مختلطة , لم انفي الحضارة العربية قبل الإسلام , ولكني أبحث عن جذورها .
من هنا : يبقى السؤال المعلّق : هل امتلك العرب كعرب حضارة عربية خالصة لهم ؟! وان امتلكوها أين هي الدلائل التي تدل على حضارتهم غير الشعر العربي ؟!
حتى نخوض في هذا الامر الشائك , لا بد لنا بداية من أن نتصور البلاد العربية في تلك المراحل , فطبيعة البلاد في تلك المراحل تبني صورة جذرية عن الحضارة العربية التي ولدت مع ولادة البلاد العربية .
طبيعة البلاد العربية :
لا يمكن ان نتصوّر العرب في عهد الإسلام وحضارته إلا بعد تصوّر الثابت من تاريخهم في العصور التي سبقت الإسلام وحضارته , وما هي آثارهم وعلومهم وثروتهم المادية وغيرها .
فلا بد من دراسة حالتهم في معظم مظاهرها , حتى نتدرّج معهم بتدرّجهم من الجزيرة العربية الى حيث درجوا في باقي المناطق الجغرافية التي شهدت لهم حضارات , وهنا علينا التفريق بين الجزيرة العربية المنغلقة على نفسها وبين باقي المناطق المنفتحة على غيرها , وبالتالي ما يمكن تسميته بالطور المدني والاجتماعي .
يمكن ملاحظة الفروق الجغرافية والمناخية بين الأقاليم العربية , مما يؤثّر على طبيعة الحضارات ودواعي قيامها فيها , فالقرب من البحر , والانخفاض والعلو في الجبال والسهول , وبين الاعتدال المناخي والخصب وغيره , نجد حضارات عربية مختلفة .
ففي الجزيرة واحات وسهول فيها اعناب ونخيل وزرع وارتفاع حرارة وامطار متقطعة , بلاد الحجاز الخصب فيها يقل الا على اطرافها مثل الطائف , , بينما في اليمن ,الجبال وانخفاض الحرارة مع برودة , ومياه قليلة الجريان ولكنها تكثر , وامطارها كثيرة ومراعيها اكثر .نجدها من الاقاليم العربية التي عَمُرت فيها المدنية القديمة , وقامت فيها الدول , اذ فيها الحاصلات الزراعية ما لا توجد في غيرها , وفيها الأخشاب بكثرة من الشجر , وجبالها الخضراء المزدهرة , وغيره من الثروات الزراعية والطبيعية.
يقول ابن الفقيه من خلال ما أورده الهمداني في كتابه ( صفة جزيرة العرب ) : ( وباليمن من أنواع الخصب وغرائب الثمر وظرائف الشجر؛ ما يستصغر معه ما ينبت في بلاد الأكاسرة والقياصرة، وقد تفاخرت الروم وفارس بالبنيان وتنافست فيه، فعجزوا عن مثل غُمدان ومأرب وحضرموت وقصر مسعود وسد لقمان وسلمين وصرواح ومرواح وبينون وهندة وهنيدة وفلثوم بريدة).
أـما الأقاليم الجبلية , وهي لا تنقطع من شمال الجزيرة العربية في بلاد الشام حتى الطائف , فصنعاء وما ورائها من أقاليم عربية , ففيها لطف هوائها , وماءها العذب الذي لا يكاد ينقطع , فمن ارتفاع 1600 م فوق سطح البحر في الطائف الى 2275 م في أبها اليمن , نجد المعادن الطبيعية كالفضة والذهب والحديد , ومثلها في مناطق عُمان وحضرموت وهجر التي هي البحرين , ونجد وغيرها .
الدول العربية التي نشأت قديماً :
علماء التاريخ العربي قسّموا العرب القدماء الى قسمين من حيث الانتماء الفرعي النسبي : عدنانية وقحطانية , العدنانية سكان الحجاز , بينما القحطانية سكان اليمن , معه ملاحظة ان العرب قبل الإسلام انوا يتكلمون لغة واحدة مع فروق طفيفة .
وقسّموا العرب من حيث العموم التاريخي الى ثلاثة أقسام : عرب بائدة (كعرب عاد وثمود وجرهم الأولى ) , وعرب عاربة ( مثل عرب اليمن القحطانيين ) , وعرب مستعربة ( مثل أولاد إسماعيل عليه وعلى نبيا أفضل الصلاة والسلام , سكان الحجاز ) .
علماء التاريخ العربي أكدوا ان العرب القحطانيين سبقوا العرب العدنانيين في تأسيس الحضارة العربية , وارجعوا ذلك الى عدة أسباب من أهمها : قربهم للبحر مثل البحر الأحمر والمحيط , وبلادهم امتازت بالخصوبة الزراعية مما شجعهم على الاستقرار اللازم لإنتاج حضارة ومدنية , إضافة الى أن منطقتهم في اليمن كانت نقطة اتصال تجارية بين الشرق والغرب .
واجمع علماء التاريخ والآثار على أن اليمن سبقت بتمدنها بابل ومصر، ومنها هاجر أجداد الفراعنة، ومنها كان أجداد البابليين والأشوريين، وإلى مصر وبابل وأشور حمل اليمانيون الصناعات والعلوم والتجارة. فاليمانيين أو الحميريين هم الذين مدَّنوا شواطئ آسيا وإفريقية وأوروبا، وكانوا في القديم أميل في مدنيتهم إلى التجارة، لا إلى الغزو والغارة؛ ولذلك كان معظم الأذواء يتجرون، فإذا كانت لرجل منهم مطامع في السيادة تغلب على البلاد.
قامت عدة دول عربية في العصور القديمة , على امتداد تواجد العرب في الجزيرة العربية أو خارجها , جزء منها ضاعت الغالبية من أخبارها , مثل دولة العماليق ( نسبة الى عمليق بن سام ) , وكانت تمتاز بانها ممتدة من العراق الى العقبة , وتغلبوا على دولة بابل وكانت دولتهم تاريخيا قبل ولادة المسيح عليه الصلاة والسلام بخمسة وعشرين قرناً وكانت تسمى تاريخيا بدولة (الساموآبيين) , ومنهم الملك حمورابي , وهو عربي حسب ما أورده ( ياقوت الحموي ) في مصنفه , تغلّب على دولة الآشوريين , وكانت دولته تمتاز بالمدنية والقوانين المنظمة لها وتطاولوا بالعمارة المدنية و انتهت على يد الآشوريين بعدما استعادوا قوتهم , واضطهدوا العرب بعد انتصارهم , فهاجر معظمهم الى غرب الجزيرة العربية وجنوبها , حسب ما وثقه جرجي زيدان في مؤلفه ( تاريخ التمدن الإسلامي ) .
أبو القاسم محمد بن حوقل المعروف بابن حوقل وهو جغرافي ومؤرخ ورحالة مسلم عاش في القرن الرابع الهجري شارح ومحرر كتاب ( المسالك والممالك ) للاصطخري وواضع مؤلف ( صورة الأرض ) , وثّق بدوره تاريخ دولة الهكسوس العربية , الذين دخلوا مصر من جهة البحر الأحمر قبل ولادة المسيح عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام يثلاثة وعشرين قرناً , حيث أنهم استولوا على الواجهة البحرية المصرية بكاملها , وجعلوا عاصمتهم "صان " حتى أجلاهم ملك (ثيببة ) عنها وهو حاكم منطقة صعيد مصر حوالي عام 1700 قبل الميلاد .
كما رصد تاريخ تأسيس العرب الذين نزحوا من أشور دولة عاد الأولى في جنوب الجزيرة العربية قبل ميلاد المسيح عليه السلام بعشرين قرناً , كما انه رصد تاريخ دولة ( المعنيين ) العربية في حضرموت شرق اليمن , حيث أنهم كانوا يقومون على الزراعة في سهول اليمن وجبالها , وابدعوا في انشاء السدود وفتح الخلجان البحرية .
ووثّق تاريخ دولة ( طسم وجديس العربية ) وكانت عاصمتها ( الحجر ) في اليمامة شرقي بلاد العرب التي نعرفها اليوم باسم (نجد ) مع ملاحظة ان نجد الحجاز ليست هي نفسها ( نجد اليمن ) رغم انهما متصلتان بممر بري محصّن كما وثّقه ابن حوقل .
ياقوت الحموي بدوره رصد تاريخ دولة ثمود العربية والتي أصلها من اليمن ونزلت ما يعرف اليوم بمدائن صالح , ورصد من تاريخها مدنيتها التي لم يوجد مثلها في الأرض في عصرهم .
كما رصد تاريخ دولة قحطان التي كانت بشمال جزيرة العرب والذين أسسوها العرب الذين نزحوا الى اليمن بعد تدمير مملكة اشور لدولة حمو رابي العربية كما سلف , وهي دولة سبأ الأولى , وبعدها سبأ الثانية التي قامت على أنقاض الأولى وهي ما نعرفها بمملكة حمير .لكن مملكة حمير او سبأ الثانية كانت مقطعة الاوصال من حيث الوحدة الجغرافية , وبالتالي عجزت عن جمع اليمنيين كما كان الحال في دولة سبأ الأولى .
ورصد أيضا تاريخ دولة كندة العربية التي سكانها كانوا بطنا من كهلان , وكانوا نزحوا من اليمامة الى شمال حضرموت , ونصّبوا على دولتهم (حجر بن عمرو ) ملكاً عليهم وعلى العرب , وكانت عاصمتهم منطقة تسمى ( بطن عاقل ) .
كما رصد تاريخ دولة تنوخ العربية في العراق والتي خلفها اللخميون العرب , ورصد تاريخ دولة ( بني غسان ) واصلهم من اليمن في بلاد الشام والتي تعهدتها روما بالرعاية لتحمي حدودها من جهة سيف البادية من جهة الجنوب , كما فعلت فارس مع ملوك الحيرة العرب لجعلهم دول فاصلة بينهم وبين الرومان والعرب .
ونرجع الى جرجي في مؤلفه ( تاريخ التمدن الإسلامي ) والذي رصد أيضا بدوره تاريخ الدول العربية القديمة خارج ارضهم التقليدية ( جزيرة العرب واليمن ) , وذكر منها :
دولة الرعاة في مصر ( الهكسوس ) العربية كما سلف ذكرها , ودولتهم العربية في آشور , ودولة الأنباط في سلع , ودولة "الكسيوم" العربية التي أسسها اليمنيون في الجزء المقابل لبلادهم العربية من الشط المقابل , ودولة تدمر العربية والتي اعتمدت على العرب في تأسيسها , ودولة الينوربين التي حكمت اللبانين الشرقي والغربي , وامتدت الى فنيقية , وكانت عاصمتها الأولى ( عين جر ) او التي تعرف اليوم باسم ( عنجر ) في البقاع اللبناني , ثم انتقلت العاصمة الى طرابلس اللبنانية , ومؤسسي الدولة هم عرب من الجيدور وحوران .
هذه الدول خارج مواطن العرب التقليدية ساعدهم على تأسيسها اللغة , والتي كانت صلة الوصل بين العرب وبين بقية الأمم في تلك العصور , حيث انهم لم يكونوا بحاجة الى لغة أخرى للتفاهم مع الأمم الأخرى , بل كانت العربية كافية للتخاطب والتفاهم , حيث كانت اللغات حديثة عهد بالتشعب من لغتها الأولى , حيث ان التفاهم كلغة بين العرب وبين اليهود , والحبش والكلدان والآشوريين والفينيقيين تم تشبيهه كالفرق بين اللغة النرويجية و السويدية او كالفرق بين اللغة الصربية والبلغارية .
ساعد العرب في الحفاظ على استقلال دولهم العربية القديمة قبل الإسلام كما رصده المؤرخ الفرنسي ( جيدي) في مؤلفه ( جزيرة العرب قبل الإسلام ) , بأن العرب كانوا أهل شدة وبأس ولا يقبلون بالهزيمة دون انتقام ولو طال الزمن , ولم يركنوا الى الرفاهية المطلقة كما هو الحال في بقية الأمم , بل يستطيعون التكيّف مع القلة وشظف العيش ويتقون به على تحقيق هدفهم في الانتقام ان كانت الظروف العامة قاسية عليهم مثل الهزيمة في الحروب غيرها , كما ان صحراءهم واسعة لا قدرة للأمم الأخرى بمقارعتها ومقارعة طول المسافات المهلكة فيها , يقول ( جيدي ) في مؤلفه :
(إن الرومان فتحوا جميع العالم المعروف، وحاولوا على عهد الإمبراطور أغسطس أن يستولوا على بلاد العرب، ففتحوا مأرب عاصمة سبأ، ثم رُدوا عنها خائبين ..... إن أدينة الذي كان معروفًا عند الرومان باسم أداناتوس Adenatus ويُعد من أمبراطرتهم هو عربي الأصل وكذلك وهبة اللات، وقد نشأ من بلاد أخرجت أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص من قواد الإسلام العظام الذين قضوا على مملكة الساسانيين، وعلى جزءٍ من مملكة بيزنطية(.
الدول العربية القديمة والتجارة :
(كل عربي سمسار أو تاجر) , هذه هي الدول العربية القديمة التي عرفها العالم القديم , كما قرره الجغرافي الروماني استرابون والذي عايش فترة المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام كما رصده اليعقوبي في مصنفه المعروف بتاريخ اليعقوبي .
الأنظمة السياسية العربية القديمة , وفّرت للعرب كل الوسائل الممكنة لرعياها ولمن لهم علاقات اقتصادية معهم من خارج دولهم تعينهم على الاستقرار الاقتصادي والتجاري مع غيرهم .
وفرت العوامل اللازمة لنجاح واستقرار الاقتصاد في البلاد وخارجها , ومن ذلك القوانين الصارمة التي تحمي التجارة داخل دولهم , مع القوة العسكرية التي تحفظ منافع ومصالح تلك الدول ضمن محيطها , مع استقرار في بناء علاقات اقتصادية متوازنة مع العالم القديم .
مما سمح لمختلف العرب الاقتصاديين ومن ضمنهم ما كانوا يمثلون نشاط التجارة وهو النشاط الأبرز بين مناطق دول العالم القديم , ان يمتلكوا كل الثقة بدولهم وقدرتها على حمايتهم وحماية مصالحهم الاقتصادية .
مما سمح لمختلف العرب الاقتصاديين ومن ضمنهم من كانوا يمثلون نشاط التجارة وهو النشاط الأبرز بين مناطق دول العالم القديم , أن يمتلكوا كل ثقة بدولهم وقدرتها على حمايتهم وحماية مصالحهم الاقتصادية .
مما ساعدهم على التنقل بكافة الأقاليم التي كانت معروفة بالعالم القديم ضمن أنشطة اقتصادية متنوعة , وكانوا يمتلكون الضياع والمنازل والمصالح التجارية في أغلب أقاليم العالم القديم , ويقيمون بكل آمان في مختلف أقاليم ذلك العالم .
ومن التقدم الاقتصادي , وسن القوانين التي تساعد على جلب الاقتصاد لبلاد العرب ودولهم وجعلها أشبه ما تكون بمراكز عالمية للتجارة العالمية , حددوا عشرة أسواق عالمية في الدول العربية القديمة تكون آمنة تماما من القتال والحروب والملاحقة بجنايات الدماء وغيرها لأي شخص يقدم اليها للتجارة , منها :
دومة الجندل , والمشقر وهجر وصحار وريا والشحر وعدن وصنعاء والرابية بحضرموت وعكاظ بأعلى نجد, واستمرت أغلب هذه الأسواق حتى نهاية عصر قريش قبل الاسلام , والتي رصدها اليعقوبي في تاريخه.
التجارة في عهد قريش , آلت لها بالمحصلة العامة على يد بني عبد مناف , فكانت لها رحلتان عظيمتان محوريتان للتجارة تمثل العمود الفقري لاقتصادها , الاولى في فصل الشتاء نحو اليمن وبلاد اليكسيوم من الحبشة , وأخرى في الصيف نحو بلاد الشام وبلاد الروم . وتم ذكر ذلك في القران الكريم في قوله تعالى ( لإيلاف قريش ...).
والايلاف هو جزء من الربح ومنافع التجارة المادية التي كانت قريش تعطيها للقبائل العربية عند التجارة مقابل تزويد القوافل بمؤنتهم التي تكفيهم في سفرهم و حماية لخط تجارتها , وكان يتولاها هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم , وبعد وفاته تولاها أبناؤه من بعده, الامر الذي يجعل جميع العرب في جزيرة العرب مشاركون في هذه التجارة الإقليمية كما رصده ( الكلاعي ) في مصنفه ( الاكتفاء في مغازي المصطفى ) .
وكانت هناك تجارة الى بلاد فارس , ولكنها ليست بمقدار التجارة التي كانت تتوجه الى اليمن والحبشة وبلاد الشام والرومان , فكان هاشم يتاجر الى بلاد الشام , وعبد المطلب الى اليمن , وعبد شمس الى الحبشة , ونوفل الى بلاد فارس , وجميعهم من بني عبد مناف , وبني عبد مناف هؤلاء هم صلة الوصل الاقتصادية بين قريش وكافة أقاليم العالم في ذلك العهد , لذلك سمتهم العرب بأقداح النضار , لطيب افعالهم واثرهم الاقتصادي على العرب الذي عمّ العرب جميعا كما سلف كما رصده الثعالبي في مصنفه المسمى ( المضاف والمنسوب ) .
أديان العرب :
هذا المحور سينصب على القبائل العربية التي سكنت جزيرة العرب منذ وجود قبيلة قريش , حيث ما قبلها تم ايضاحه بمقال منفصل .
أغلب العرب كانوا يعبدون اصنامهم بجانب اعتناقهم أديان أخرى منتشرة في بقاعهم , فكان يجتمع بالقبيلة الواحدة ثلاثة أديان أو أكثر .
وبشكل عام كانت مكة عابدة للأصنام الاصنام , والقبائل المقيمة فيها وما حولها توزعت حسب تعصبها لدينها , فكانت قريش كلها تسمى ( حمس ) لتشددهم وتعصبهم لدينهم , وحزاعة تسمى ( الحلة ) , وهي اقل تعصبا وتشددا لدينهم من قريش .
فكان الحمس ( قريش) ، إذا نسكوا لم يسلئوا سمنًا، ولا يجزُّون شعرًا ولا ظفرًا، ولا يمسون النساء ولا الطيب، ولا يأكلون لحمًا, بينما الحلة ( بني خزاعة ) فكانوا على العكس من ذلك، ينعمون بالطيبات كلها لا يبالون ما صنعوا, ثم دخل قوم من الحلة ( بني خزاعة ) اليهودية والنصرانية , وتزندق منهم قوم وقالوا بالثانوية كما رصده اليعقوبي .
اليمن تهوَّدت بأسرها، وتهود قوم من الأوس والخزرج، بعد خروجهم من اليمن لمجاورتهم خيبر وقريظة والنضير، وتهوَّد قوم من بني الحارث بن كعب وقوم من غسان وقوم من جذام، «وكان بنجران بقايا من أهل دين عيسى على الإنجيل أهل فضل واستقامة.» وكان من العرب من يميل إلى الصابئة ويعتقد في أنواء المنازل اعتقاد المنجمين في السيارات، حتى لا يتحرك إلا بنوءٍ من الأنواء، ويقول: مطرنا بنوءِ كذا، ومنهم من أنكر الخالق والبعث وقالوا: وما يهلكنا إلا الدهر، وهم الدهريون، وقال بعضهم: كانت المجوسية في تميم، والزندقة في قريش، أخذوها من الحيرة يقول ابن الأثير في مصنفه ( أسد الغابة ) : ( إن ديار تميم كانت تجاور بلاد الفرس وهم تحت أيديهم، والمجوسية في الفرس، على أن العرب قبل الإسلام كان كثير منهم قد تنصر، كتغلب وبعض شيبان وغسان، وكان منهم من صار مجوسيًّا وهم قليل، وأما اليهودية فكانت باليمن، وكان من العرب صنف اعترفوا بالخالق وأنكروا البعث، وصنف عبدوا الأصنام، وأصنامهم مختصة بالقبائل، ومنهم من يعبد الجن، ومنهم من يعبد الملائكة وكانوا يحجون البيت ويعتمرون ويحرمون ويطوفون ويسعون) .
الخوارزمي يرصد في مصنفه ( مفاتيح العلوم ) أصنام العرب بقوله : (وللعرب أصنام, فكان سواع لهذيل، وود لكلب، ويغوث لمذحج وقبائل من اليمن، وكان بُدومة الجندل، والنَّسر لذي كلَاع بأرض حمير، ويعوق لهمدان، واللات لثقيف بالطائف، والعُزَّى لقريش وجميع بني كنانة، ومناة للأوس والخزرج وغسان، وهُبَل كان في الكعبة وكان أعظم أصنامهم، وإساف ونائلة كانا على الصفا والمروة، وسعد لبني مِلكان بن كنانة، وكان عدد الأصنام في الحرم لما فتح الرسول مكة بضع مئات كسرها وأصحابه. قال أبو عثمان النهدي : كنا في الجاهلية نعبد صنمًا يُقال له: يغوث، وكان صنمًا من رصاص لقضاعة تمثال امرأة، وعبدت ذا الخَلَصَة، وكنا نعبد حجرًا ونحمله معنا فإذا رأينا أحسن منه ألقيناه وعبدنا الثاني، وإذا سقط الحجر عن البعير قلنا: سقط إلهكم فالتمسوا حجرًا.)
من خلال هذا التنوع في الأديان عند العرب ظهرت قدرات عالية من النحت والتصوير والابداع في التماثيل المختلفة كظاهرة دينية لديهم، رصده أحمد تيمور في مؤلفه المسمى (رسالة التصوير عند العرب) :
(ويؤخذ من هذا أنه كان للعرب في الجاهلية المصور والمثال؛ فصوروا جدران الكعبة وملأوها بتماثيل أربابهم، ومن جملة ما كان فيها صورة عيسى وأمه عليهما السلام بقيتا حتى رآهما من أسلم من نصارى غسان، وكان على أحد عمد الكعبة تمثال مريم وفي حجرها ابنها مزوقًا، وقال ابن الكلبي: إنه كان لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان صنم في مشارف الشام يُقال له: الأقيصر ، كانوا يحجونه ويحلقون رءوسهم عنده، فكان كلما حلق رجل منهم رأسه ألقى مع كل شعرة قُرَّة ،وكان ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر قومًا صالحين ماتوا في شهر فجزع عليهم ذوو قرابتهم، فعملوا لهم خمسة أصنام على صورهم، فمضت قرون ثلاثة وهم يعظمون، وفي القرن الثالث أخذوا يعبدونهم. وكان ود تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد زبر عليه حلتان متزرًا بحلة مرتديًا بأخرى، عليه سيف قد تقلده، وقد تنكب قوسًا، وبين يديه حربة فيها لواء ووفضة( .
السؤال الأهم : اين هي شواهد حضارتهم في عصرنا الحاضر كما هو الحال في حضارة الرومان والاغريق والفرس وغيرهم ؟!
هذه الامة العربية الممتدة تاريخيا بدون انقطاع قرونا طويلة قد تكون أطول فترة تاريخية لامة على وجه الأرض حتى اللحظة , هذه الدول والممالك والامبراطوريات العربية التي لم تنقطع تاريخيا ولا جغرافيا على طول فترة وجود هذه الامة على الأرض , وهذه التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية والنظم السياسية وغيرها , ألم تنتج حضارة وعلومها ؟ ألم تُراكم إنجازات حضارية مستقلة بالأمة العربية دون غيرها من الأمم؟ ألم تفلح باي نوع من أنواع العلوم البشرية التي هي لازمة لاستمراها ؟!!!
بداية دعونا نتفق ان الحضارة العربية القديمة قبل الإسلام , لم تحظى بأدنى جهد علمي من علماء الآثار في الكشف عنها وعن علومها , بل انصب البحث عن آثار وعلوم الحضارة الرومانية والاغريقية وحتى الفارسية , أما الحضارة العربية قبل الإسلام لولا علماء المسلمين ومؤرخيهم و جغرافييهم وحضارة الإسلام نفسها , لتم اسقاطها من التاريخ البشري برمته , ولاندثرت من الوجود, حتى غلاة القوميين العرب لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث والتنقيب عن حضارة قومهم الذين يدعون تقديسهم , فهل كتب الله على العرب أن يكونوا الأكثر تقصيراً في حق أنفسهم عبر التاريخ ؟!
الحضارة بالمفهوم العام هي النتاج الفكري والمادي لأمة من الأمم والتي تميزها عن غيرها , ولا تقتصر الحضارة على النتاج المادي وحده , اذ انها خليط بين الثقافة والفكر والمادة لتلك الأمة .
ولتبين معالم تلك الحضارات العربية القديمة لا بد لنا من استعراض سريع لطبيعة بلاد العرب القديمة وما هي الدول العربية القديمة التي نشأت , وتجارتهم وأحوالها , وأديان العرب عموما , مروراً بالحكومات العربية القديمة التي نشأت بين القبائل العربية المرتحلة في جزيرة العرب. وصولاً الى السؤال الأهم : اين هي معالم واثار وعلوم هذه الحضارة التي تشهد لها بالوجود أو العدم ؟
نقاشاً معمقاً تم تداوله حول حضارة العرب قبل الإسلام في (منتدى الحوار الوطني ) , قدّمه أساتذة افاضل , وتناولوه بالبحث والملاحظات , بعضهم قولبه ضمن منهجه الفكري القومي او الوطني , والبعض قولبه بالقالب الديني , والآخر انطلق من دون قيود قولبة أي كانت نوعها .
الدكتورة زينة غنيم , متخصصة في الأدب الجاهلي , قدّمت صورة شمولية عن أدب وحضارة تلك الفترة بشمولية في جزيرة العرب , وكونها متخصصة في ذلك النوع من الفرعيات العلمية فقطعا ستكون مداخلاتها شمولية , بحيث انني اعدت القراءة لها أكثر من مرة , حتى لا أتجاوز عن التصور الشمولي لتلك المرحلة من خلال ربط المداخلات بشكل شمولي , وبطريقة غير مجتزأة, فكانت فعلا مداخلات شمولية عندما تنتظم مع بعضها البعض , بحيث يتكون عند القاريء صورة شمولية لعرب الجاهلية وأدبهم في جزيرة العرب .
أبحث عن أصل الحضارة العربية , هل هي نقية كعرب ام كانت من أعراق مختلطة , لم انفي الحضارة العربية قبل الإسلام , ولكني أبحث عن جذورها .
من هنا : يبقى السؤال المعلّق : هل امتلك العرب كعرب حضارة عربية خالصة لهم ؟! وان امتلكوها أين هي الدلائل التي تدل على حضارتهم غير الشعر العربي ؟!
حتى نخوض في هذا الامر الشائك , لا بد لنا بداية من أن نتصور البلاد العربية في تلك المراحل , فطبيعة البلاد في تلك المراحل تبني صورة جذرية عن الحضارة العربية التي ولدت مع ولادة البلاد العربية .
طبيعة البلاد العربية :
لا يمكن ان نتصوّر العرب في عهد الإسلام وحضارته إلا بعد تصوّر الثابت من تاريخهم في العصور التي سبقت الإسلام وحضارته , وما هي آثارهم وعلومهم وثروتهم المادية وغيرها .
فلا بد من دراسة حالتهم في معظم مظاهرها , حتى نتدرّج معهم بتدرّجهم من الجزيرة العربية الى حيث درجوا في باقي المناطق الجغرافية التي شهدت لهم حضارات , وهنا علينا التفريق بين الجزيرة العربية المنغلقة على نفسها وبين باقي المناطق المنفتحة على غيرها , وبالتالي ما يمكن تسميته بالطور المدني والاجتماعي .
يمكن ملاحظة الفروق الجغرافية والمناخية بين الأقاليم العربية , مما يؤثّر على طبيعة الحضارات ودواعي قيامها فيها , فالقرب من البحر , والانخفاض والعلو في الجبال والسهول , وبين الاعتدال المناخي والخصب وغيره , نجد حضارات عربية مختلفة .
ففي الجزيرة واحات وسهول فيها اعناب ونخيل وزرع وارتفاع حرارة وامطار متقطعة , بلاد الحجاز الخصب فيها يقل الا على اطرافها مثل الطائف , , بينما في اليمن ,الجبال وانخفاض الحرارة مع برودة , ومياه قليلة الجريان ولكنها تكثر , وامطارها كثيرة ومراعيها اكثر .نجدها من الاقاليم العربية التي عَمُرت فيها المدنية القديمة , وقامت فيها الدول , اذ فيها الحاصلات الزراعية ما لا توجد في غيرها , وفيها الأخشاب بكثرة من الشجر , وجبالها الخضراء المزدهرة , وغيره من الثروات الزراعية والطبيعية.
يقول ابن الفقيه من خلال ما أورده الهمداني في كتابه ( صفة جزيرة العرب ) : ( وباليمن من أنواع الخصب وغرائب الثمر وظرائف الشجر؛ ما يستصغر معه ما ينبت في بلاد الأكاسرة والقياصرة، وقد تفاخرت الروم وفارس بالبنيان وتنافست فيه، فعجزوا عن مثل غُمدان ومأرب وحضرموت وقصر مسعود وسد لقمان وسلمين وصرواح ومرواح وبينون وهندة وهنيدة وفلثوم بريدة).
أـما الأقاليم الجبلية , وهي لا تنقطع من شمال الجزيرة العربية في بلاد الشام حتى الطائف , فصنعاء وما ورائها من أقاليم عربية , ففيها لطف هوائها , وماءها العذب الذي لا يكاد ينقطع , فمن ارتفاع 1600 م فوق سطح البحر في الطائف الى 2275 م في أبها اليمن , نجد المعادن الطبيعية كالفضة والذهب والحديد , ومثلها في مناطق عُمان وحضرموت وهجر التي هي البحرين , ونجد وغيرها .
الدول العربية التي نشأت قديماً :
علماء التاريخ العربي قسّموا العرب القدماء الى قسمين من حيث الانتماء الفرعي النسبي : عدنانية وقحطانية , العدنانية سكان الحجاز , بينما القحطانية سكان اليمن , معه ملاحظة ان العرب قبل الإسلام انوا يتكلمون لغة واحدة مع فروق طفيفة .
وقسّموا العرب من حيث العموم التاريخي الى ثلاثة أقسام : عرب بائدة (كعرب عاد وثمود وجرهم الأولى ) , وعرب عاربة ( مثل عرب اليمن القحطانيين ) , وعرب مستعربة ( مثل أولاد إسماعيل عليه وعلى نبيا أفضل الصلاة والسلام , سكان الحجاز ) .
علماء التاريخ العربي أكدوا ان العرب القحطانيين سبقوا العرب العدنانيين في تأسيس الحضارة العربية , وارجعوا ذلك الى عدة أسباب من أهمها : قربهم للبحر مثل البحر الأحمر والمحيط , وبلادهم امتازت بالخصوبة الزراعية مما شجعهم على الاستقرار اللازم لإنتاج حضارة ومدنية , إضافة الى أن منطقتهم في اليمن كانت نقطة اتصال تجارية بين الشرق والغرب .
واجمع علماء التاريخ والآثار على أن اليمن سبقت بتمدنها بابل ومصر، ومنها هاجر أجداد الفراعنة، ومنها كان أجداد البابليين والأشوريين، وإلى مصر وبابل وأشور حمل اليمانيون الصناعات والعلوم والتجارة. فاليمانيين أو الحميريين هم الذين مدَّنوا شواطئ آسيا وإفريقية وأوروبا، وكانوا في القديم أميل في مدنيتهم إلى التجارة، لا إلى الغزو والغارة؛ ولذلك كان معظم الأذواء يتجرون، فإذا كانت لرجل منهم مطامع في السيادة تغلب على البلاد.
قامت عدة دول عربية في العصور القديمة , على امتداد تواجد العرب في الجزيرة العربية أو خارجها , جزء منها ضاعت الغالبية من أخبارها , مثل دولة العماليق ( نسبة الى عمليق بن سام ) , وكانت تمتاز بانها ممتدة من العراق الى العقبة , وتغلبوا على دولة بابل وكانت دولتهم تاريخيا قبل ولادة المسيح عليه الصلاة والسلام بخمسة وعشرين قرناً وكانت تسمى تاريخيا بدولة (الساموآبيين) , ومنهم الملك حمورابي , وهو عربي حسب ما أورده ( ياقوت الحموي ) في مصنفه , تغلّب على دولة الآشوريين , وكانت دولته تمتاز بالمدنية والقوانين المنظمة لها وتطاولوا بالعمارة المدنية و انتهت على يد الآشوريين بعدما استعادوا قوتهم , واضطهدوا العرب بعد انتصارهم , فهاجر معظمهم الى غرب الجزيرة العربية وجنوبها , حسب ما وثقه جرجي زيدان في مؤلفه ( تاريخ التمدن الإسلامي ) .
أبو القاسم محمد بن حوقل المعروف بابن حوقل وهو جغرافي ومؤرخ ورحالة مسلم عاش في القرن الرابع الهجري شارح ومحرر كتاب ( المسالك والممالك ) للاصطخري وواضع مؤلف ( صورة الأرض ) , وثّق بدوره تاريخ دولة الهكسوس العربية , الذين دخلوا مصر من جهة البحر الأحمر قبل ولادة المسيح عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام يثلاثة وعشرين قرناً , حيث أنهم استولوا على الواجهة البحرية المصرية بكاملها , وجعلوا عاصمتهم "صان " حتى أجلاهم ملك (ثيببة ) عنها وهو حاكم منطقة صعيد مصر حوالي عام 1700 قبل الميلاد .
كما رصد تاريخ تأسيس العرب الذين نزحوا من أشور دولة عاد الأولى في جنوب الجزيرة العربية قبل ميلاد المسيح عليه السلام بعشرين قرناً , كما انه رصد تاريخ دولة ( المعنيين ) العربية في حضرموت شرق اليمن , حيث أنهم كانوا يقومون على الزراعة في سهول اليمن وجبالها , وابدعوا في انشاء السدود وفتح الخلجان البحرية .
ووثّق تاريخ دولة ( طسم وجديس العربية ) وكانت عاصمتها ( الحجر ) في اليمامة شرقي بلاد العرب التي نعرفها اليوم باسم (نجد ) مع ملاحظة ان نجد الحجاز ليست هي نفسها ( نجد اليمن ) رغم انهما متصلتان بممر بري محصّن كما وثّقه ابن حوقل .
ياقوت الحموي بدوره رصد تاريخ دولة ثمود العربية والتي أصلها من اليمن ونزلت ما يعرف اليوم بمدائن صالح , ورصد من تاريخها مدنيتها التي لم يوجد مثلها في الأرض في عصرهم .
كما رصد تاريخ دولة قحطان التي كانت بشمال جزيرة العرب والذين أسسوها العرب الذين نزحوا الى اليمن بعد تدمير مملكة اشور لدولة حمو رابي العربية كما سلف , وهي دولة سبأ الأولى , وبعدها سبأ الثانية التي قامت على أنقاض الأولى وهي ما نعرفها بمملكة حمير .لكن مملكة حمير او سبأ الثانية كانت مقطعة الاوصال من حيث الوحدة الجغرافية , وبالتالي عجزت عن جمع اليمنيين كما كان الحال في دولة سبأ الأولى .
ورصد أيضا تاريخ دولة كندة العربية التي سكانها كانوا بطنا من كهلان , وكانوا نزحوا من اليمامة الى شمال حضرموت , ونصّبوا على دولتهم (حجر بن عمرو ) ملكاً عليهم وعلى العرب , وكانت عاصمتهم منطقة تسمى ( بطن عاقل ) .
كما رصد تاريخ دولة تنوخ العربية في العراق والتي خلفها اللخميون العرب , ورصد تاريخ دولة ( بني غسان ) واصلهم من اليمن في بلاد الشام والتي تعهدتها روما بالرعاية لتحمي حدودها من جهة سيف البادية من جهة الجنوب , كما فعلت فارس مع ملوك الحيرة العرب لجعلهم دول فاصلة بينهم وبين الرومان والعرب .
ونرجع الى جرجي في مؤلفه ( تاريخ التمدن الإسلامي ) والذي رصد أيضا بدوره تاريخ الدول العربية القديمة خارج ارضهم التقليدية ( جزيرة العرب واليمن ) , وذكر منها :
دولة الرعاة في مصر ( الهكسوس ) العربية كما سلف ذكرها , ودولتهم العربية في آشور , ودولة الأنباط في سلع , ودولة "الكسيوم" العربية التي أسسها اليمنيون في الجزء المقابل لبلادهم العربية من الشط المقابل , ودولة تدمر العربية والتي اعتمدت على العرب في تأسيسها , ودولة الينوربين التي حكمت اللبانين الشرقي والغربي , وامتدت الى فنيقية , وكانت عاصمتها الأولى ( عين جر ) او التي تعرف اليوم باسم ( عنجر ) في البقاع اللبناني , ثم انتقلت العاصمة الى طرابلس اللبنانية , ومؤسسي الدولة هم عرب من الجيدور وحوران .
هذه الدول خارج مواطن العرب التقليدية ساعدهم على تأسيسها اللغة , والتي كانت صلة الوصل بين العرب وبين بقية الأمم في تلك العصور , حيث انهم لم يكونوا بحاجة الى لغة أخرى للتفاهم مع الأمم الأخرى , بل كانت العربية كافية للتخاطب والتفاهم , حيث كانت اللغات حديثة عهد بالتشعب من لغتها الأولى , حيث ان التفاهم كلغة بين العرب وبين اليهود , والحبش والكلدان والآشوريين والفينيقيين تم تشبيهه كالفرق بين اللغة النرويجية و السويدية او كالفرق بين اللغة الصربية والبلغارية .
ساعد العرب في الحفاظ على استقلال دولهم العربية القديمة قبل الإسلام كما رصده المؤرخ الفرنسي ( جيدي) في مؤلفه ( جزيرة العرب قبل الإسلام ) , بأن العرب كانوا أهل شدة وبأس ولا يقبلون بالهزيمة دون انتقام ولو طال الزمن , ولم يركنوا الى الرفاهية المطلقة كما هو الحال في بقية الأمم , بل يستطيعون التكيّف مع القلة وشظف العيش ويتقون به على تحقيق هدفهم في الانتقام ان كانت الظروف العامة قاسية عليهم مثل الهزيمة في الحروب غيرها , كما ان صحراءهم واسعة لا قدرة للأمم الأخرى بمقارعتها ومقارعة طول المسافات المهلكة فيها , يقول ( جيدي ) في مؤلفه :
(إن الرومان فتحوا جميع العالم المعروف، وحاولوا على عهد الإمبراطور أغسطس أن يستولوا على بلاد العرب، ففتحوا مأرب عاصمة سبأ، ثم رُدوا عنها خائبين ..... إن أدينة الذي كان معروفًا عند الرومان باسم أداناتوس Adenatus ويُعد من أمبراطرتهم هو عربي الأصل وكذلك وهبة اللات، وقد نشأ من بلاد أخرجت أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص من قواد الإسلام العظام الذين قضوا على مملكة الساسانيين، وعلى جزءٍ من مملكة بيزنطية(.
الدول العربية القديمة والتجارة :
(كل عربي سمسار أو تاجر) , هذه هي الدول العربية القديمة التي عرفها العالم القديم , كما قرره الجغرافي الروماني استرابون والذي عايش فترة المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام كما رصده اليعقوبي في مصنفه المعروف بتاريخ اليعقوبي .
الأنظمة السياسية العربية القديمة , وفّرت للعرب كل الوسائل الممكنة لرعياها ولمن لهم علاقات اقتصادية معهم من خارج دولهم تعينهم على الاستقرار الاقتصادي والتجاري مع غيرهم .
وفرت العوامل اللازمة لنجاح واستقرار الاقتصاد في البلاد وخارجها , ومن ذلك القوانين الصارمة التي تحمي التجارة داخل دولهم , مع القوة العسكرية التي تحفظ منافع ومصالح تلك الدول ضمن محيطها , مع استقرار في بناء علاقات اقتصادية متوازنة مع العالم القديم .
مما سمح لمختلف العرب الاقتصاديين ومن ضمنهم ما كانوا يمثلون نشاط التجارة وهو النشاط الأبرز بين مناطق دول العالم القديم , ان يمتلكوا كل الثقة بدولهم وقدرتها على حمايتهم وحماية مصالحهم الاقتصادية .
مما سمح لمختلف العرب الاقتصاديين ومن ضمنهم من كانوا يمثلون نشاط التجارة وهو النشاط الأبرز بين مناطق دول العالم القديم , أن يمتلكوا كل ثقة بدولهم وقدرتها على حمايتهم وحماية مصالحهم الاقتصادية .
مما ساعدهم على التنقل بكافة الأقاليم التي كانت معروفة بالعالم القديم ضمن أنشطة اقتصادية متنوعة , وكانوا يمتلكون الضياع والمنازل والمصالح التجارية في أغلب أقاليم العالم القديم , ويقيمون بكل آمان في مختلف أقاليم ذلك العالم .
ومن التقدم الاقتصادي , وسن القوانين التي تساعد على جلب الاقتصاد لبلاد العرب ودولهم وجعلها أشبه ما تكون بمراكز عالمية للتجارة العالمية , حددوا عشرة أسواق عالمية في الدول العربية القديمة تكون آمنة تماما من القتال والحروب والملاحقة بجنايات الدماء وغيرها لأي شخص يقدم اليها للتجارة , منها :
دومة الجندل , والمشقر وهجر وصحار وريا والشحر وعدن وصنعاء والرابية بحضرموت وعكاظ بأعلى نجد, واستمرت أغلب هذه الأسواق حتى نهاية عصر قريش قبل الاسلام , والتي رصدها اليعقوبي في تاريخه.
التجارة في عهد قريش , آلت لها بالمحصلة العامة على يد بني عبد مناف , فكانت لها رحلتان عظيمتان محوريتان للتجارة تمثل العمود الفقري لاقتصادها , الاولى في فصل الشتاء نحو اليمن وبلاد اليكسيوم من الحبشة , وأخرى في الصيف نحو بلاد الشام وبلاد الروم . وتم ذكر ذلك في القران الكريم في قوله تعالى ( لإيلاف قريش ...).
والايلاف هو جزء من الربح ومنافع التجارة المادية التي كانت قريش تعطيها للقبائل العربية عند التجارة مقابل تزويد القوافل بمؤنتهم التي تكفيهم في سفرهم و حماية لخط تجارتها , وكان يتولاها هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم , وبعد وفاته تولاها أبناؤه من بعده, الامر الذي يجعل جميع العرب في جزيرة العرب مشاركون في هذه التجارة الإقليمية كما رصده ( الكلاعي ) في مصنفه ( الاكتفاء في مغازي المصطفى ) .
وكانت هناك تجارة الى بلاد فارس , ولكنها ليست بمقدار التجارة التي كانت تتوجه الى اليمن والحبشة وبلاد الشام والرومان , فكان هاشم يتاجر الى بلاد الشام , وعبد المطلب الى اليمن , وعبد شمس الى الحبشة , ونوفل الى بلاد فارس , وجميعهم من بني عبد مناف , وبني عبد مناف هؤلاء هم صلة الوصل الاقتصادية بين قريش وكافة أقاليم العالم في ذلك العهد , لذلك سمتهم العرب بأقداح النضار , لطيب افعالهم واثرهم الاقتصادي على العرب الذي عمّ العرب جميعا كما سلف كما رصده الثعالبي في مصنفه المسمى ( المضاف والمنسوب ) .
أديان العرب :
هذا المحور سينصب على القبائل العربية التي سكنت جزيرة العرب منذ وجود قبيلة قريش , حيث ما قبلها تم ايضاحه بمقال منفصل .
أغلب العرب كانوا يعبدون اصنامهم بجانب اعتناقهم أديان أخرى منتشرة في بقاعهم , فكان يجتمع بالقبيلة الواحدة ثلاثة أديان أو أكثر .
وبشكل عام كانت مكة عابدة للأصنام الاصنام , والقبائل المقيمة فيها وما حولها توزعت حسب تعصبها لدينها , فكانت قريش كلها تسمى ( حمس ) لتشددهم وتعصبهم لدينهم , وحزاعة تسمى ( الحلة ) , وهي اقل تعصبا وتشددا لدينهم من قريش .
فكان الحمس ( قريش) ، إذا نسكوا لم يسلئوا سمنًا، ولا يجزُّون شعرًا ولا ظفرًا، ولا يمسون النساء ولا الطيب، ولا يأكلون لحمًا, بينما الحلة ( بني خزاعة ) فكانوا على العكس من ذلك، ينعمون بالطيبات كلها لا يبالون ما صنعوا, ثم دخل قوم من الحلة ( بني خزاعة ) اليهودية والنصرانية , وتزندق منهم قوم وقالوا بالثانوية كما رصده اليعقوبي .
اليمن تهوَّدت بأسرها، وتهود قوم من الأوس والخزرج، بعد خروجهم من اليمن لمجاورتهم خيبر وقريظة والنضير، وتهوَّد قوم من بني الحارث بن كعب وقوم من غسان وقوم من جذام، «وكان بنجران بقايا من أهل دين عيسى على الإنجيل أهل فضل واستقامة.» وكان من العرب من يميل إلى الصابئة ويعتقد في أنواء المنازل اعتقاد المنجمين في السيارات، حتى لا يتحرك إلا بنوءٍ من الأنواء، ويقول: مطرنا بنوءِ كذا، ومنهم من أنكر الخالق والبعث وقالوا: وما يهلكنا إلا الدهر، وهم الدهريون، وقال بعضهم: كانت المجوسية في تميم، والزندقة في قريش، أخذوها من الحيرة يقول ابن الأثير في مصنفه ( أسد الغابة ) : ( إن ديار تميم كانت تجاور بلاد الفرس وهم تحت أيديهم، والمجوسية في الفرس، على أن العرب قبل الإسلام كان كثير منهم قد تنصر، كتغلب وبعض شيبان وغسان، وكان منهم من صار مجوسيًّا وهم قليل، وأما اليهودية فكانت باليمن، وكان من العرب صنف اعترفوا بالخالق وأنكروا البعث، وصنف عبدوا الأصنام، وأصنامهم مختصة بالقبائل، ومنهم من يعبد الجن، ومنهم من يعبد الملائكة وكانوا يحجون البيت ويعتمرون ويحرمون ويطوفون ويسعون) .
الخوارزمي يرصد في مصنفه ( مفاتيح العلوم ) أصنام العرب بقوله : (وللعرب أصنام, فكان سواع لهذيل، وود لكلب، ويغوث لمذحج وقبائل من اليمن، وكان بُدومة الجندل، والنَّسر لذي كلَاع بأرض حمير، ويعوق لهمدان، واللات لثقيف بالطائف، والعُزَّى لقريش وجميع بني كنانة، ومناة للأوس والخزرج وغسان، وهُبَل كان في الكعبة وكان أعظم أصنامهم، وإساف ونائلة كانا على الصفا والمروة، وسعد لبني مِلكان بن كنانة، وكان عدد الأصنام في الحرم لما فتح الرسول مكة بضع مئات كسرها وأصحابه. قال أبو عثمان النهدي : كنا في الجاهلية نعبد صنمًا يُقال له: يغوث، وكان صنمًا من رصاص لقضاعة تمثال امرأة، وعبدت ذا الخَلَصَة، وكنا نعبد حجرًا ونحمله معنا فإذا رأينا أحسن منه ألقيناه وعبدنا الثاني، وإذا سقط الحجر عن البعير قلنا: سقط إلهكم فالتمسوا حجرًا.)
من خلال هذا التنوع في الأديان عند العرب ظهرت قدرات عالية من النحت والتصوير والابداع في التماثيل المختلفة كظاهرة دينية لديهم، رصده أحمد تيمور في مؤلفه المسمى (رسالة التصوير عند العرب) :
(ويؤخذ من هذا أنه كان للعرب في الجاهلية المصور والمثال؛ فصوروا جدران الكعبة وملأوها بتماثيل أربابهم، ومن جملة ما كان فيها صورة عيسى وأمه عليهما السلام بقيتا حتى رآهما من أسلم من نصارى غسان، وكان على أحد عمد الكعبة تمثال مريم وفي حجرها ابنها مزوقًا، وقال ابن الكلبي: إنه كان لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان صنم في مشارف الشام يُقال له: الأقيصر ، كانوا يحجونه ويحلقون رءوسهم عنده، فكان كلما حلق رجل منهم رأسه ألقى مع كل شعرة قُرَّة ،وكان ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر قومًا صالحين ماتوا في شهر فجزع عليهم ذوو قرابتهم، فعملوا لهم خمسة أصنام على صورهم، فمضت قرون ثلاثة وهم يعظمون، وفي القرن الثالث أخذوا يعبدونهم. وكان ود تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد زبر عليه حلتان متزرًا بحلة مرتديًا بأخرى، عليه سيف قد تقلده، وقد تنكب قوسًا، وبين يديه حربة فيها لواء ووفضة( .
السؤال الأهم : اين هي شواهد حضارتهم في عصرنا الحاضر كما هو الحال في حضارة الرومان والاغريق والفرس وغيرهم ؟!
هذه الامة العربية الممتدة تاريخيا بدون انقطاع قرونا طويلة قد تكون أطول فترة تاريخية لامة على وجه الأرض حتى اللحظة , هذه الدول والممالك والامبراطوريات العربية التي لم تنقطع تاريخيا ولا جغرافيا على طول فترة وجود هذه الامة على الأرض , وهذه التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية والنظم السياسية وغيرها , ألم تنتج حضارة وعلومها ؟ ألم تُراكم إنجازات حضارية مستقلة بالأمة العربية دون غيرها من الأمم؟ ألم تفلح باي نوع من أنواع العلوم البشرية التي هي لازمة لاستمراها ؟!!!
بداية دعونا نتفق ان الحضارة العربية القديمة قبل الإسلام , لم تحظى بأدنى جهد علمي من علماء الآثار في الكشف عنها وعن علومها , بل انصب البحث عن آثار وعلوم الحضارة الرومانية والاغريقية وحتى الفارسية , أما الحضارة العربية قبل الإسلام لولا علماء المسلمين ومؤرخيهم و جغرافييهم وحضارة الإسلام نفسها , لتم اسقاطها من التاريخ البشري برمته , ولاندثرت من الوجود, حتى غلاة القوميين العرب لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث والتنقيب عن حضارة قومهم الذين يدعون تقديسهم , فهل كتب الله على العرب أن يكونوا الأكثر تقصيراً في حق أنفسهم عبر التاريخ ؟!
مدار الساعة ـ