ليس صعباً أن تستنتج ما في "بطن الشاعر" من حكمة أو رسالة أو غاية في عديد الروايات التي تقرأها، لكن الحال ليست كذلك بالنسبة لرواية "رجل في الظلام" للأديب الأميركي، بول أوستر (ترجمة دار الآداب، بيروت 2010) التي وعلى الرغم من أنّها ليست من الروايات الطويلة، إلاّ أنّها متخمة بالسرديات المتداخلة والقصص المتوازية والمتوارية، لكن الأهمّ أنّها تقودنا -نحن القرّاء- إلى حوارات داخلية عميقة في النفس والمجتمع والثقافة والسياسية!
جنحت القراءات الأدبية التي اطّلعتُ عليها أمس (بعد أن أنهيت قراءة الرواية)، الغربية والعربية، عموماً، إلى وضعنا أمام الفكرة الجديدة التي قدّمها أوستر وهي تخيّل سيناريو يستبعد وقوع أحداث 11 سبتمبر وحرب العراق، بل ويمضي نحو مسار آخر في الأحداث يقوم على اندلاع حرب أهلية أميركية جديدة (بين الاتحاديين والانفصاليين)، بعد قرار المحكمة الفدرالية الأميركية (العام 2000).
لكن في الحقيقة هذه الحرب الافتراضية ليست هي حبكة الراوية، لأنّها تدور في ذهن بطل الرواية فقط، وهو أديب سبعيني مقعد متقاعد، قابع في الظلام في غرفته يتخيل هذه الحرب وأحداثها ويخترع أبطالها، وينهيها بصورة مفاجئة، بينما يمضي بنا في الرواية في الحديث عن قصص إنسانية وسرديات متعددة لأبطال الراوية الرئيسيين (الأديب المتقاعد أوغست بريل، وحفيدته كاتيا، وابنته مريام، وزوجته، وقصص أخرى تنسل في ثنايا الراوية من هنا وهناك).
إذاً القيمة الحقيقية للرواية، في ظني، أبعد من الجانب السياسي في السيناريو المفترض، إنّما هي في مواضيع أخرى إنسانية وأخلاقية واجتماعية ونفسية، والظلام هو ظلام الوحدة والعزلة والإحباط والشعور بالانكسار لدى شخصيات الرواية الرئيسة، التي تمثّل -بدورها- شرائح اجتماعية واسعة وعريضة، والحل هو في الحوار والاعتراف بالهواجس والأزمات والمشكلات وعدم الهروب منها والاستسلام لها.
هذه الفكرة هي التي قد أكون وصلتُ إليها شخصياً من قراءتي للرواية الجميلة الممتعة، لكن قد يصل آخرون إلى نتائج أو رسالة رئيسة مختلفة، وتبقى هنالك العديد من المجالات والأفكار والرسائل والنتائج الأخرى التي تقودك إليها الرواية، مثلما هي ما العبرة من وضع سيناريو الحرب الأهلية على الطاولة، ونجد هنا تحليلات متعددة للأدباء والنقّاد، لكن ما قرأته أنا أنّ الهدف ليس القول بسيناريو هذه الحرب أو استدعاء هذه الذاكرة البعيدة الأميركية، بل الحديث عما تحدثه الحرب من تغييرات كبيرة وويلات وتحولات لدى الأشخاص وفي حياتهم ودمار داخلي.
إحدى أبرز الأفكار -على سبيل المثال- استغرقتُ في التأمل فيها، وهي فكرة الحرب الأهلية التي اخترعها في ذهنه بطل القصة، وعالمه الخيالي، الذي أصبح واقعاً، وبات هدف أحد طرفي الصراع الأهلي هو قتل هذا الرجل الكبير لإنهاء الحرب التي تدور في عقله، وهو أمر قد يبدو فيكشن Fiction/ خيالي، لكن في الحقيقة عندما نفكّر في كثير من الأحداث الكبرى والحروب القاتلة هي بدأت بأفكار لرجال تحولت إلى أيديولوجيات، أو إلى اندلاع الحروب.
وجود إنسان في مكان ما مظلم بعيد عن الأضواء، يعيش حالة من الإحباط أو اليأس لا يعني أنّه لا يمكن أن يصنع شيئاً قد يشعل حرباً ويقود مجتمعات إلى الدمار بأفكاره وربما العكس صحيح، وهذه قيمة الكتابة وأهميتها وخطورتها!
الغد