مدار الساعة - هو لقب أطلقه المؤرخون على العاصمة لبنانية بيروت وذلك لاحتضانها في العهد الروماني أقدم مدرسة للحقوق تستقطب الطلاب وتخرج الكوادر من جميع ولايات وأطراف الإمبراطوارية المترامية.
ولما خصصت بيزنطة (النصف الشرقي من الإمبراطورية) بيروت بعلم الحقوق وتأسيس أقدم مدارس فيها صارت أيضا (مرضعة القوانين) و(مخترعة الحروف) كما وصفها المستشار القانوني الألماني يوهان ستراوخ في كتابه (بيريت.. أقدم كتاب مطبوع عن حاضرة بيروت) سنة 1662 ميلادي.
وشكل تراث هذه المدرسة الحقوقية الأقدم لتاريخ بيروت المعاصر ركيزة أساسية في نشر المعرفة والثقافة العربية ما أدى الى تأسيس كليات قانونية وحقوقية في بيروت ما تزال قائمة إلى يومنا هذا.
وللحديث عن هذا الإرث والتاريخ الإنساني الذي تأصل في بيروت التقت وكالة الأنباء الكويتية (كونا) أستاذ الحقوق وعلم الاجتماع في الجامعة اللبنانية الدكتور انطوان مسره الذي قال إن مدرسة بيروت الحقوقية دامت قرابة قرنين قبل الميلاد واستمرت حتى 551 بعده “تحديدا حتى الزلزال المدمر الذي ضرب بيروت وتسبب بحدوث تسونامي كبير وصل تأثيره إلى المدن الساحلية في فينيقيا البيزنطية آنذاك”.
وأضاف مسره الذي يرأس أيضا كرسي منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) في جامعة (القديس يوسف) أن العهد الروماني شهد آنذاك وجود معاهد حقوقية بمدن عدة مثل الإسكندرية وأثينا والقسطنطينية وروما لافتا إلى أن مدرسة بيروت الحقوقية كانت أهمها وأشهرها لذا وصفت مدينة بيروت ب(أم الشرائع).
وأوضح أن مدرسة بيروت الحقوقية اكتسبت أهميتها وشهرتها بسبب ضمها العديد من الأساتذة المسكونيين “وهم الذين كانت فتاويهم القانونية ملزمة في التشريع الإمبراطوري أمثال (نيفالس وزاكاري وغريفوريوس وأرموجانين ومارسيانتر) وغيرهم”.
وعن سبب تأسيس المدرسة الحقوقية ذكر أن ذلك جاء بعد اختيار بيروت من قبل الرومان عاصمة لولاية فينيقيا الساحلية الشرقية سعيا نحو حفظ دساتيرها ونظمها الإدارية مشيرا إلى أن القرن الخامس الميلادي يعد “الأكثر ازدهارا” في تاريخ المدرسة.
وعلاوة على ذلك أوضح أن مدرسة بيروت الحقوقية كانت مستودعا لحفظ القوانين والشرائع الصادرة في الدولة وأرشفتها ومقر يلتقي فيه الطلاب من ولايات وإثنيات مختلفة في الإمبراطورية الرومانية إضافة إلى احتوائها على مركز لدراسات القوانين المقارنة.
وفي مجال الخدمة الإمبراطورية قال إن مدرسة بيروت القانونية أخذت على عاتقها تأهيل الكوادر الحقوقية للخدمة في الإمبراطورية أمثال القضاة (غايوس وفابينيان واولبيان) مشيرا إلى أن الاجتهاد الروماني عمق دراسة القوانين “إذ كان يميز بين القانون والحق”.
وفي معرض حديثه عن تاريخ المدرسة الحقوقية أفاد مسره بأنها نالت الامتياز التعليمي في عام 438 ميلادي كمعهد قانوني بموازاة معهدي روما والقسطنطينية لافتا الى أنها كانت تتمتع باستقلالية كاملة لتعدد اللغات التي تدرس فيها مثل اللاتينية واليونانية.
ومما يؤكد أهمية المدرسة الحقوقية في بيروت لفت مسره إلى الخطوة الإصلاحية التي أقدم عليها الإمبراطور البيزنطي جوستينيان الأول حين أمر بمراجعة القوانين الرومانية وانتقاء مبادئها وضمها في أربع مجلدات ضخمة بمشاركة أساتذة حقوقيون معظمهم من مدرسة بيروت وصوصلا إلى ما يعرف ب(قانون جوستنيان).
وقال أستاذ الحقوق وعلم الإجتماع إنه عندما حدث زلزال بيروت المدمر في عام 551 ميلادي انتقل قسم كبير من مدرسة بيروت بفعل الضرر الذي لحق بها إلى مدينة صيدا اللبنانية واستمرت هناك إلى الفتح الإسلامي لبلاد الشام عام 635 ميلادي.
وأضاف أن مدينة بيروت استعادت مركزيتها القانونية مرة أخرى في القرن ال12 ميلادي “ولكن هذه المرة من خلال الفقه الإسلامي وفتح باب الاجتهاد الذي برز فيه علماء كثر من المسلمين”.
ومضى قائلا “وبعد أن استعادت بيروت موقعها القانوني في العصر الإسلامي كان يتداول بين أوساط الفقهاء والمشرعين في بيروت عبارة معروفة هي (لا يعتد أحد في جهل القانون)” في إشارة إلى أن صياغة التشريعات والقوانين يجب أن تكون واضحة لدى العامة.
وبحسب الدكتور مسره شهد العصر الإسلامي “تميزا” لفقهاء مسلمين لبنانيين لا سيما في عهد خلفاء الدولة الأموية إلى أن ظهر وانتشر بعد ذلك علم القانون في الدولة العباسية في بغداد سنة 1258 ميلادي.
وأشار في هذا الإطار إلى أن الإمام الأوزاعي اللبناني المولد والمنشأ يعد من أشهر علماء الفقه والقانون اللبناني وعاش بين زمانين مختلفين هما نهاية الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية من سنة 707 الى 774 ميلادي.
وذكر أن الأوزاعي كان متأثرا بتراث مدرسة بيروت الحقوقية التاريخية كما يعد من “أبرز الفقهاء المسلمين الذين أدركوا عمق الشريعة الاسلامية ومفهوم التسامح فيها”.
وأوضح مسره أن العصر الحديث شهد إحياء للمدرسة من خلال جامعة القديس يوسف في بيروت العائد إنشائها إلى عام 1873.
واليوم يشهد وسط مدينة بيروت بالقرب من سوق السمك القديم على تاريخ أقدم مدرسة حوقيقة في العالم حيث تمت المحافظة على جزء من آثارها وآثار المنطقة المحيطة بها