لا يوجد تحدٍ واضح أمام الاقتصاد الوطني مثل معضلة المديونية التي تؤرق الجميع، سواء كانوا من الحكومة أو الشعب، فالكل يجمع على أنها هي الخطر الذي يجب أن تتصدى له الحكومة، وأن تكون على رأس أولويات الإصلاح المالي المنشود.
للأسف، بالأرقام المطلقة فإن أرقام المديونية العامة تنمو باستمرار دون توقف، والأمر لا يقتصر على الأقساط، وإنما أيضًا في فوائد الدين.
الحكومة خفضت الدين نظريًا باحتساب معادلة محاسبية موجهة للمانحين ومؤسسات التمويل الدولية، لتوفير مساحات مالية جديدة أمام إنفاقها المتزايد، فلجأت منذ عامين تقريبًا إلى احتساب الدين دون ديون صندوق أموال الضمان الاجتماعي التي تناهز 8.7 مليار دينار، ليصبح مجموع مديونيتها ما يزيد قليلًا على 32 مليار دينار أو ما نسبته 88.7 % من الناتج المحلي الإجمالي، علمًا أن الدين الحقيقي الذي تدفع الحكومة شهريًا أقساطه هو 41.157 مليار دينار حتى نهاية شهر تشرين الأول من العام الماضي، ليشكل ما نسبته 114.2 % من الناتج المحلي الإجمالي، وهذه الأرقام، سواء كانت كنسبة أو كأرقام مطلقة، فهي مقلقة ودخلت في المراحل غير الآمنة اقتصاديًا.
العجز المالي للموازنة، بدلًا من أن تلجأ الحكومة لتخفيضه كأرقام مطلقة، لجأت الحكومة لوقف جديد له وهو ما يُسمى بالعجز الأولي، وهذا يعني عجز الموازنة مستثنى منه فوائد الدين التي ارتفعت من 1.703 مليار دينار في العام الماضي، إلى 1.98 مليار دينار مقدر للسنة الحالية، أي بزيادة تتجاوز الـ277 مليون دينار، أو ما نسبته 16.3 %، علمًا أن العجز المالي المجمع الذي تلتزم الخزينة الحكومية بسداده وهو عجز الموازنة المركزية مضافًا إليه عجز المؤسسات المستقلة هو 2.877 مليار دينار أو ما نسبته 18 % تقريبًا من النفقات العامة، وهي أيضًا أرقام مالية مرعبة بالنسبة لموازنة عامة تبلغ 12.3 مليار دينار.
هيكل الدين العام أيضًا يحتاج إلى وقفة صريحة؛ فالدين الخارجي يناهز 17.8 مليار دينار، والدين الداخلي حوالي 14 مليار دينار، ودين صندوق أموال الضمان الاجتماعي ما يزيد على 8.7 مليار دينار تقريبًا، وهي جميعها أرقام تقتضي من الجهات المعنية مراجعة حقيقية.
أقولها بصراحة لراسمي السيرة المالية، إنه لا يكفي اختراع وسائل لخفض المديونية نظريًا أمام المانحين، فهذه الإجراءات فتحت شهية الحكومة للاقتراض بعد تخفيض نسبة الدين أمام المانحين نتيجة عدم احتساب مديونية صندوق الضمان، فهذه كلها "اختراعات" مالية محاسبية لا تغني ولا تسمن من جوع، لأن الخزينة في نهاية المطاف ملتزمة بسداد التزاماتها الداخلية والخارجية دون نقصان، وتدفع للجميع في أوقات السداد دون تأخير.
وهذا يعني أن الإصلاح المالي الحقيقي يكون بمعالجة جذرية لملف إدارة الدين بشكل رشيد وواضح وشفاف، كما وعدت الحكومة بأكثر من مرة في إيقاف هذا النمو في الدين، ولا يكون الإيقاف بمعادلة محاسبية تستثني ديون البعض لاعتبارات خارجية، وعلى الحكومة أن تتذكر جيدًا أن عدم تقدم المملكة في تصنيف مؤسسات الائتمان الدولية واستقرارها منذ سنوات يعود إلى ملف الدين فقط لا غير.