مدار الساعة - قال الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر انه لا يقبل الكيل بمكيالين والتصرف كأن حياة الأطفال لا تحسب.
حديث الشيخ تميم جاء خلال خطابه في افتتاح الدورة الثانية والخمسين لمجلس الشورى القطري.
وأضاف انه لا يجوز استمرار تجاهل وقائع الاحتلال والحصار والاستيطان.
وبين الشيخ تميم "نحن دعاة سلام ونتمسك بقرارات الشرعية الدولية والمبادرة العربية ولا نقبل الكيل بمكيالين".
وألقى الشيخ تميم خطابا بهذه المناسبة، وفيما يلي نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الإخوة والأخوات أعضاء مجلس الشورى،
يسعدني على الدوام أن أرحب بكم في بداية دور الانعقاد السنوي لمجلسكم الموقر، متمنيا لكم كل التوفيق والسداد في القيام بمهامكم الجليلة.
كما أحيي عملكم التشريعي الدؤوب، وأنوه بمشاركتكم الفعالة في المؤتمرات والاجتماعات التي تعقدها الاتحادات والمنظمات البرلمانية الإقليمية والدولية لمتابعة التطورات التشريعية على المستوى الدولي.
الإخوة والأخوات،
مع أننا اعتدنا على التركيز في لقائي السنوي معكم على القضايا الداخلية، اسمحوا لي هذه المرة أن أبدأ بالأوضاع في فلسطين. فأشقاؤنا الفلسطينيون يعيشون ظروفا عصيبة تفوق التصور.
ولا يجوز السكوت عن القصف الهمجي غير المسبوق الذي يتعرض له المدنيون في قطاع غزة، إحدى أكثر المناطق اكتظاظا بالسكان في العالم، ولا تجاهل الأعداد المهولة من ضحاياه الأبرياء من الأطفال والنساء.
تعلمون جميعا أننا دعاة سلام، وأننا نتمسك بقرارات الشرعية الدولية والمبادرة العربية وغيرها، وأننا ضد التعرض للمدنيين الأبرياء من أي طرف، وأيا كانت جنسيتهم. ولكننا لا نقبل الكيل بمكيالين، ولا التصرف وكأن حياة الأطفال الفلسطينيين لا تحسب، وكأنهم بلا وجوه ولا أسماء. ما يجري خطير للغاية، بما في ذلك الدوس على جميع القيم والأعراف والشرائع الدينية والدنيوية، وليس على القانون الدولي فحسب، والتصريح الإسرائيلي العلني بالنوايا غير الشرعية مثل التهجير وغيره.
نحن نقول كفى. لا يجوز أن تمنح إسرائيل ضوءا أخضر غير مشروط وإجازة غير مقيدة بالقتل، ولا يجوز استمرار تجاهل واقع الاحتلال والحصار والاستيطان. ولا يفترض أن يسمح في عصرنا باستخدام قطع الماء ومنع الدواء والغذاء أسلحة ضد شعب بأسره. نحن ندعو إلى وقفة جادة إقليميا ودوليا أمام هذا التصعيد الخطير الذي نشهده والذي يهدد أمن المنطقة والعالم، وندعو إلى وقف هذه الحرب التي تجاوزت كل الحدود، وحقن الدماء وتجنيب المدنيين تبعات المواجهات العسكرية، والحيلولة دون اتساع دائرة الصراع.
ونود أن نسأل المصطفين خلف الحرب، والذين يعملون على إسكات أي رأي مخالف: ماذا بعد هذه الحرب ؟ هل ستجلب الأمن والاستقرار للإسرائيليين والفلسطينيين ؟ وأين سيذهب الفلسطينيون بعدها ؟ الشعب الفلسطيني باق، وكذلك معاناته في ظل الاحتلال والحصار والمصادرة والاستيطان. لا تقدم الحرب حلا من أي نوع. كل ما سوف يحصل هو تفاقم المعاناة وازدياد عدد الضحايا، وكذلك الشعور العميق بالغبن. وسوف تنشأ أجيال من الأطفال الذين مروا بهذه التجربة المروعة، بما فيها صمت المجتمع الدولي على قتل إخوتهم وأترابهم. إن السبيل الوحيد لضمان الأمن والاستقرار للشعبين هو ما يتم تجنبه حتى الآن، وهو تحقيق السلام العادل والدائم وحصول الشعب الفلسطيني على كامل حقوقه المشروعة التي أقرتها الهيئات الدولية، بما فيها إقامة دولته المستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
الإخوة والأخوات،
وعلى الصعيد المحلي، ورغم الصعاب التي يعاني منها الاقتصاد العالمي وتأثيرها السلبي على اقتصاديات العديد من الدول، واصل الاقتصاد القطري نموه خلال الربع الأول من هذا العام، حيث تشير البيانات الأولية إلى نمو إجمالي الناتج المحلي بالأسعار الثابتة بنسبة 2,7 بالمئة مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي.
ويدعم مشروع توسعة إنتاج الغاز، واستراتيجية التنمية الوطنية الثالثة النظرة المستقبلية الإيجابية للاقتصاد المحلي، وستقوم الدولة بتخصيص الموارد اللازمة لتنفيذ مبادرات ومشاريع استراتيجية التنمية الوطنية الثالثة، بالإضافة إلى المشروعات الرئيسية ذات الأولوية لتعزيز الفرص المتاحة أمام القطاع الخاص.
وقد أدى الارتفاع في أسعار الطاقة عن السعر المعتمد في الموازنة العامة للدولة، إلى تحقيق فائض خلال النصف الأول من العام. وسوف يستخدم هذا الفائض في خفض الدين العام وزيادة الاحتياطيات المالية للدولة. وقد تمكنا من خفض مستوى الدين العام من قرابة 73 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي في عام 2020 إلى ما دون 40 بالمئة في نهاية النصف الأول من عام 2023. وهذا إنجاز مهم على مستوى صحة اقتصادنا الوطني واستقراره.
وقد أثبتت هذه السياسة فاعليتها حيث ساهمت في رفع التصنيف الائتماني للدولة، وتغيير النظرة المستقبلية من مستقرة إلى إيجابية.
وستستمر الدولة في اعتماد أسعار نفط متحفظة للموازنة العامة، بالإضافة إلى تعزيز جهود تنويع مصادر الدخل من خلال استثمارات الدولة في قطاعات اقتصادية متنوعة في الخارج والداخل، ومن خلال تشجيع القطاع الخاص.
لقد ساهمت السياسة المالية والاقتصادية والإجراءات المتبعة في خفض معدل التضخم من 5 بالمئة في عام 2022 إلى 3,6 بالمئة للنصف الأول من عام 2023. وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى انخفاض معدل التضخم في دولة قطر خلال المدى المتوسط ليبلغ 2 بالمئة.
وتتخذ الدولة، على المستويين التشريعي والإداري إجراءات عدة لتعزيز الانفتاح الاقتصادي والشراكة بين القطاعين العام والخاص، وحماية حقوق الملكية الفكرية، ودعم تنافسية المنتج الوطني، والتحول الرقمي.
سوف تولي الدولة، خلال الفترة المقبلة، اهتماما بالغا بتطوير بيئة الأعمال وجذب الاستثمار وتحقيق الفائدة من البنية التحتية المتاحة. فقد نجحت الدولة خلال السنوات الأخيرة في تطوير بنية تحتية متكاملة تعزز من تنافسيتها في جذب الاستثمارات.
وتواصل الجهات المختصة تفعيل بنود قانون تنظيم الشراكة بين القطاعين الحكومي والخاص في جميع المشاريع ذات العلاقة، بما في ذلك المنشآت الصحية والتعليمية والسياحية. كما أن هناك آلية مستمرة في الدولة لتطوير التشريعات المنظمة للاستثمار الأجنبي لإزالة المعوقات التي تواجه ذلك الاستثمار، وإبراز قطر على الصعيد الدولي كحاضنة للاستثمار الدولي المباشر.
والمطلوب هو تغيير بعض الأمزجة والمقاربات البيروقراطية السلبية باتجاه الانفتاح للاستثمارات وتشجيع الشركات الناشئة، وإيجاد البيئة المؤسسية المرحبة بها والمشجعة للنجاح.
ثمة ثغرات قانونية يجب سدها، ومعوقات يجب إزالتها مثل عدم وضوح الإجراءات، وأحيانا جهل الموظفين أنفسهم بها، والتضارب بين الهيئات. وهي أمور يمكن حلها بسهولة. وفي النهاية توجد هنا دولة واحدة وسلطة تنفيذية واحدة.
الإخوة والأخوات،
استكمالا لمسيرة التنمية، شارفت عملية إعداد استراتيجية التنمية الوطنية الثالثة على الانتهاء، ونظرا لأن هذه الاستراتيجية قد تمحورت حول ركائز رؤية قطر الوطنية 2030، وهي التنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية، فقد تم إشراك كافة الجهات ذات العلاقة في إعدادها.
ومن هنا أود أن أؤكد أن النمو الاقتصادي يعتمد بشكل كبير على مدى الاستثمار في رأس المال البشري، خصوصا العاملين في المؤسسات الحكومية، لتمكينه من التعامل والتفاعل مع الاقتصاد العالمي القائم على المعرفة والتنافسية.
وفي هذا السياق تعتبر البيانات الإحصائية الموثوقة أداة هامة في تحديد الاحتياجات الحقيقية الحالية والمستقبلية للدولة. وقد آن الأوان لإنجاز قاعدة بيانات مركزية متكاملة تلبي الاحتياجات الوطنية من البيانات بكفاءة وبدرجة عالية من الموثوقية. وقد بدأ العمل على بنائها وعلى أن تنجز وفق آجال محددة.
وخلال تنفيذ خططها ومشاريعها التنموية أولت الدولة أهمية خاصة للحفاظ على البيئة والوفاء بمتطلباتها. وشمل ذلك زيادة المساحات الخضراء كجزء من التضامن العالمي لحماية البيئة في إطار مبادرة الشرق الأوسط الأخضر، وبناء محطات معالجة المياه، وإعداد برنامج وطني متكامل لإدارة النفايات وتحويلها إلى طاقة نظيفة، والارتقاء المستمر بجودة الحياة.
وفي مجال الارتقاء بالمنظومة القضائية، تحقق المبادرة الوطنية لتطوير أنظمة العدالة تقدما في بلوغ الأهداف المرجوة منها في مجال العدالة الناجزة، ونتطلع إلى تحقيق المزيد من التحسين مع صدور بعض التشريعات التي وافق عليها مجلسكم الموقر في دور الانعقاد السابق، مثل قانون السلطة القضائية وقانون النيابة العامة وغيرهما من القوانين ذات الصلة.
واستكمالا للبنية التشريعية القضائية ستعرض عليكم في دور الانعقاد الحالي مجموعة أخرى من مشروعات القوانين الهامة التي تسهم في تطوير القضاء وتحقيق العدالة الناجزة.
الإخوة والأخوات،
فيما يتعلق بسياستنا الخارجية، فإننا نسعى كما تعلمون وفي إطار الموازنة بين مبادئنا ومصالحنا وانتمائنا لبيئتنا الحضارية إلى أداء دور بناء في صنع السلام وحل النزاعات بالطرق السلمية والتشديد على العدالة في العلاقات الدولية.
ونحن لا نقف متفرجين إزاء استمرار تردي الأوضاع في بعض الدول الشقيقة، ونعمل ما بوسعنا للمساعدة في معالجتها من منطلقات التضامن والمسؤولية والاستقرار الإقليمي. ونشعر بالارتياح لأي تقدم في حل الخلافات من خلال الحوار بين الدول.
لقد باتت قطر تعرف اليوم بأنها وسيط موثوق به في صنع السلام وفض النزاعات عبر الحوار والدبلوماسية. وفي هذا الصدد نجدد ترحيبنا بالاتفاق الأمريكي الإيراني لتبادل المحتجزين، الذي تم بوساطة قطرية، وبسماح روسيا لأربعة أطفال أوكرانيين أن يلتحقوا بعائلاتهم في أوكرانيا بوساطة قطرية أيضا. ونؤكد عزمنا على المضي قدما في تسهيل الحوار بين مختلف الأطراف تعزيزا للأمن والسلم في منطقتنا والعالم.
كما يسعدنا أن نرحب مجددا بالأشقاء قادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في الدوحة في ديسمبر القادم، في قمته المقبلة، آملين أن تشكل تلك القمة منعطفا هاما في تعزيز عملنا المشترك، بما يلبي تطلعات شعوبنا.
الإخوة والأخوات،
لا تحصل التنمية، ولا يحل الازدهار بإقرار التشريعات والسياسات من أعلى فحسب، بل يتطلب الأمر أيضا حسن تنفيذها من جانب أجهزة الدولة المختلفة، وإدراك المواطن أهمية دوره في موقعه، ومسؤوليته الاجتماعية، وواجباته تجاه الوطن، وتوسيع مجال رؤيته واهتمامه ليشمل مصلحة المجتمع والدولة. هذا هو المضمون الأرقى للوطنية وحب الوطن.
لقد لاحظتم جميعا مدى التقدم الذي نحققه حين تتكامل نظرتنا إلى أنفسنا مع صورتنا في الخارج، كما حصل إبان كأس العالم في قطر. ورأيتم أن التفاعل الإيجابي مع الخارج ينعكس على شكل تقدم في الداخل، والعكس صحيح.
هذا منطق صناعة الطاقة، والصندوق السيادي، والوساطات الدولية، وهذا أيضا منطق التفاعل الحضاري بما يشتمل عليه من تسامح وتقبل للتنوع. فالتفاعل الحضاري وتقبل الاختلاف ليس نقيض الهوية القطرية العربية المسلمة، بل يسهم في إنضاجها وتطويرها للتوافق مع تحديات العصر في كل مرحلة تاريخية.
والثابت هو التكامل بين الأخلاق في الحياة الخاصة والعمومية، وذلك بمعنى المروءة والشهامة التي تشمل حب العدل والاستقامة والعطاء للمجتمع. وهذا يمتد من اهتمامنا بالأسرة بوصفها اللبنة الأساسية لمجتمعنا، وتربية أبنائنا والجيرة الحسنة والإخلاص في العمل وصولا إلى التضامن مع القضايا العادلة التي بدأت بها كلمتي هذه.
ولا يسعني في ختامها إلا أن أتمنى لكم فصلا تشريعيا موفقا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.