لم يتردد بعض العابثين والمغامرين عن المحاولة مرة أخرى لرفع سقف الشعارات، ودفع حركات الاحتجاج في الشارع لتبني مقاربات الربيع العربي؛ "الشعب يريد"، رغم الكوارث التي خلفتها على الشعوب العربية. شهدنا ذلك في أكثر من موقع، خاصة خارج العاصمة عمان.
لكنها ظلت في العموم حالات شاذة لم تلق تجاوبا من التيار العام في الشارع، لا بل أثارت استياء وقرف المشاركين في الوقفات الاحتجاجية.
النزق السياسي ليس حالة جديدة على الشارع الأردني، وقد شهدنا ذروتها في سنوات الربيع العربي، ومع أن مناخات تلك المرحلة كانت مواتية لتصعيد الشعارات، إلا أن المجموعات الأكثر تشددا في طروحاتها السياسية، حاولت قدر المستطاع تجنب الصدام مع المقومات الأساسية للدولة الأردنية، وتبني برنامج بديل ينطلق أساسا من فكرة الإصلاح الدستوري وتوازن السلطات.
إرث الدولة الأردنية وتاريخ العلاقة بين النظام والشعب لم يكن ليترك في الأصل ثغرة لنشوء معارضة خارج الحيز العام للدولة والمجتمع. وعندما اندلعت ثورات الربيع العربي، لم تتوفر أي مشروعية شعبية لخطاب أو شعار سياسي يتجاوز سقف المطالب الإصلاحية بكل أبعادها الدستورية والسياسية والاقتصادية.
وفي المرحلة اللاحقة، كانت خبرة الأردنيين المريرة مع تجارب الثورات من حولهم، كفيلة بتأكيد صواب موقفهم، حتى أن تيارات وازنة في الوسط السياسي ذهبت إلى حد اعتبار ما حصل في العالم العربي مؤامرة لتقويض أسس الدولة الوطنية، وتحطيم قدرات الأمة لحساب مشاريع أجنبية مشبوهة.
لم تكن هذه التحولات في وعي الجمهور تكفي للاعتقاد -وإن اكتفى البعض بهذا الاعتقاد- نهاية الطموح بدولة تحترم حق الناس في المشاركة بصناعة القرار، وحياة كريمة أسوة بشعوب العالم المتحضر. لكن تشكلت قناعة راسخة بأهمية التمسك بمؤسسات الدولة وأركانها، وبخلاف ذلك فإن الإصلاح لا قيمة ولا معنى له؛ إذ تبدى لفوضى تحول حياة الناس لجحيم في غياب الاستقرار والأمن.
الأحداث التي شهدها الأردن في الأسبوع الأخير، تستحق من الباحثين والساسة وأصحاب الفكر والقرار وقفات تحليلية مطولة ومعمقة، لتحديد هويتها بين أصناف الاحتجاج المعروفة عالميا وعربيا، وقراءة دلالاتها في السياق الأردني والعربي.
ثمة من يعتقد أن ما حصل كان موجة أردنية ثانية من الربيع العربي، وصلت متأخرة بضع سنوات. الفكرة تستحق النقاش، وإن كنت من الناحية الأولية لا أتفق معها.
في اعتقادي أن الربيع العربي بسردياته وشعاراته انتهى بعد أن أسدل الستار على معظم مشاهده في عديد الساحات العربية. لم تعد فكرة إسقاط الأنظمة السياسية مطروحة في أي شارع عربي. لقد ولدت حركة جديدة ذات طابع مدني وحقوقي، يسعى أنصارها لتحقيق مطالبهم بوسائل الاحتجاج السلمي وعبر صناديق الاقتراع كلما توفرت الظروف لعملية انتخابية بمعايير دولية معقولة.
لاحظوا الفروق الجوهرية بين حدثين مفصليين والكيفية التي تعامل فيها طرفا المعادلة "السلطات والجمهور" مع كل حدث، وأعني اعتصام 24 آذار من العام 2011 واحتجاجات الدوار الرابع الأسبوع الماضي.
في 24 آذار لم تدم الوقفة أكثر من أربع وعشرين ساعة، وانتهت بصدام حاد، بعدما شعرت السلطات بأن نوايا القوى المحركة تتجه لتنظيم حشد شعبي كبير يسعى في نهاية المطاف لنتائج مماثلة لما حدث في دول أخرى.
في احتجاج الدوار الرابع لم تشعر السلطات بالقلق من الشعارات وأهداف المنظمين، ولهذا السبب ربما تفاعلت معها بطريقة حضارية أثارت الإعجاب.
لقد تعلم الناس من دروس التجربة السابقة، وحددوا بشكل دقيق ومعلن أهدافهم من التحرك، ومع انكفاء القوى الحزبية التقليدية عن المشاركة، برز حس عام مشترك أفضى لتوافق على برنامج عمل مشترك ومختصر، وبمجرد تحقيق أولي له انفض جمهور الرابع.
ماذا يمكن أن نسمي ما حصل؟ هذا متروك لنقاش طويل يشخص الأحداث والمرحلة.
الغد