عمليتان بطوليتان في غضون 48 ساعة، أصابتا الكيان الصهيوني بالهستيريا، عدد كبير من المقالات والتحليلات نشرتها الصحافة الإسرائيلية في قراءة ما جرى، لا سيما أن العملية الأولى يوم الجمعة قبل الماضي، كانت ناجحة حيث دهس بطل عددا من الجنود، فقتل اثنين، وأصاب اثنين آخرين، ثم أصيب واعتقل، فيما قتل شاب آخر الأحد حارس أمن صهيونيا بعملية طعن، قبل أن يلقى ربه شهيدا.
ما جرى ليس مفاجئا في واقع الحال، فهذه هي انتفاضة القدس التي مضى عليها 3 سنوات؛ تصعد وتهبط بين حين وآخر، لكنها لا تتوقف، وكل ذلك في سياق من التأكيد على حالة الرفض للاحتلال،.
من تابع تفاعل الشارع الفلسطيني مع قضية الشهيد أحمد جرار، وتفاعله مع كل شهيد أو عملية يدرك أن المزاج العام في الشارع لا زال على حاله؛ لم يغادر مربع الانحياز لبرنامج المقاومة، في حين جاءت الأحداث السياسية المتلاحقة منذ اعتراف ترامب بالقدس عاصمة للكيان كي تعزز هذا المزاج.
من أهم القراءات الإسرائيلية لسياق العمليتين ودلالاتهما، ما كتبه الخبير الأمني والعسكري الصهيوني (إليكس فيشمان) في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، حيث قال: «يشير باحثو الاستخبارات إلى ثلاثة مراسي حافظت على مستوى عنف متدنٍ نسبيا في الساحة الفلسطينية خلال العقد الاخير، وهي: قدرة الإحباط لدى دوائر الأمن الإسرائيلية، التنسيق الامني مع السلطة والحفاظ على نسيج حياة معقول للمواطن الفلسطيني في الضفة. هذه المراسي؛ المرتبطة بعضها ببعض، تآكلت، فلم يتبق لإسرائيل اليوم مكاسب توزّعها على الفلسطينيين كي تكسب الهدوء والوقت. العمليات الفردية التي سجلت الانعطافة الاستراتيجية قبل نحو سنتين لم تعد منذ زمن بعيد عمليات أفراد، والمزاج في الشارع الفلسطيني يدل على تضعضع النظام القديم، سواء في غزة أم في الضفة. يوجد هنا ميل ثابت من التفتت الذي يبحث عن حدث دراماتيكي خارجي كي ينفجر ويؤدي الى الفوضى، أما الهدوء النسبي الذي ينقطع في عملية كهذه أو تلك، فمخادع. وحتى حكم حماس مهدد من الداخل، دون الحديث عن حكم «أبو مازن» الذي يوجد في نهاية طريقه السياسي». (انتهى الاقتباس).
ما ذكره «فيشمان» صحيح ومعروف في آن، وهو يعكس جوهر ما حدث منذ العام 2004، حيث جرى تصميم أجهزة أمنية جديدة من قبل «الجنرال دايتون»، تقوم عقيدتها الأمنية على عدم الصدام مع العدو، مع قبول صيغة الاحتلال الفاخر، أي ترك قوات الاحتلال تتوغل في كل المناطق، بما فيها (أ) لاعتقال من تشاء. أما البعد الآخر، والذي صاغه توني بلير، فيقوم على ترتيب وضع فلسطيني جديد يختلف عما كان موجودا خلال انتفاضة الأقصى، من حيث الأمن والحواجز، والسماح بالعمل في مناطق 48، مع إشغال الناس بالمال والأعمال والاستيراد والاستثمار.
على أن ذلك لم يكن سوى جزءا من عملية دعائية تقول إن هذا المسار سيفضي في نهاية المطاف إلى تحقيق الدولة الفلسطينية كاملة السيادة على الأراضي المحتلة عام 67، بما فيها القدس.
القضية الأهم أن مرور 14 عاما على هذه العملية الدعائية ما لبث أن استهلكها تماما، مع العلم أنه لولا الحسم العسكري في قطاع غزة، وما خلفه من انقسام حاد في المجتمع الفلسطيني، لما كان بالإمكان استمرار تسويق هذه اللعبة، أو توفير الصمت عليها كل هذا الوقت، في ظل تصاعد الاستيطان والتهويد، وفي ظل استخفاف نتنياهو بكل متطلبات الحل، حتى في حدها الأدنى.
اليوم، أصبح الفلسطينيون أمام تطور جديد بعد قرار ترامب، ينذر بتصفية قضيتهم، ومن الطبيعي والحالة هذه أن يتصاعد انحيازهم لبرنامج المقاومة ، وإذا كانت انتفاضة الأقصى هي المرحلة الأهم من مراحل النضال الفلسطيني، وكانت ذات صلة بالقدس والأقصى، فمن الطبيعي أن يتصاعد مد المقاومة بعد التطورات الأخيرة، والتي تضيف إلى تصفية قضية القدس والأقصى، تصفية لكل القضية.
من العناصر الثلاثة التي تحدث عنها «فيشمان»، لا يتبقى عمليا سوى عنصر التعاون الأمني، لأن قوة العدو هي ذاتها، مع تراجع في معنويات المجتمع الإسرائيلي، وإن تقدم في ميدان التكنولوجيا. وإذا ما توقف هذا، فستكون فرصة تصاعد المقاومة أكبر، لكن عدم توقفه لا يعني إغلاقا للباب، بل قد يأتي التصعيد الشعبي ليفرض نفسه .
الخلاصة هي أن الشعب الفلسطيني لم يعد لديه شك، أن مواجهة مؤامرة تصفية القضية، لن تتم من دون انتفاضة شاملة في الضفة تقلب الطاولة، وتعيد تصحيح بوصلة القضية برمتها.
الدستور