أخبار الأردن اقتصاديات مغاربيات خليجيات دوليات جامعات وفيات برلمانيات رياضة وظائف للأردنيين أحزاب مقالات أسرار ومجالس مقالات مختارة تبليغات قضائية مناسبات مستثمرون جاهات واعراس الموقف شهادة مجتمع دين ثقافة اخبار خفيفة سياحة الأسرة طقس اليوم

الفانك.. المختلف قارئ التضادات

مدار الساعة,مقالات مختارة,الخطوط الجوية الملكية الأردنية,البنك العربي
مدار الساعة ـ
حجم الخط

​​​​​​​كتب - إبراهيم السواعير

ذات لقاء تلفزيوني، كان يديره، مستفزّاً ضيوفه لإثرائه ولكي لا يظلّ المشاهد على الشاطئ مع الضيوف، جاء تعليقٌ غاضب ينتقد الفانك بأنّه إنّما يقحم نفسه في موضوع الحوار ويشارك الضيوف آراءهم مؤيّداً أو مخالفاً، فكان أن قال الفانك بلغته الهادئة الواثقة المحسوبة في كلماتها: «يا سيّدتي، أنا جزءٌ من الحوار، ولست غريباً عنه!».

فهد الفانك، توافقه أو تعارضه، لا تملك إلا أن تقف على مقالته في «الرأي» ذات الفقرات القليلة والمعنى «الْمُقلِق»، الذي لا يمكن لأي متخصّصٍ أو صاحب قرار أن يتجاوزه، بل إنّ أكاديميين كانوا يحيلون طلبتهم في الاقتصاد لكي يتدرّبوا على الاختزال في المقالة الصحفيّة الاقتصاديّة، باتخاذ زاوية «رؤوس أقلام» في «الرأي» أنموذجاً، وهي الزاوية التي تفتقده اليوم، وظلّ يكتب تحتها مادّته الاقتصاديّة المدعّمة بالنسب والمتغيرات الاقتصاديّة الجزئيّة والكليّة، وربّما انزاح قليلاً بكتابة المادّة السياسيّة، التي تعبّر عن قناعاته ووجاهة رأيه، على صعوبة الفصل بين السّياسة والاقتصاد.

ولأنّ مادّة الفانك الاقتصاديّة، لا تلعب على وتر «الغنائيّات» أو تتقصّد إرباك القارئ أو المشاهد؛ فإنّ «عمليّة» هذه المادّة وكونها متخمةً بالدليل الجادّ والبرهان الرقميّ، وإحالات النسب إلى الجهات الوطنيّة أو العالميّة أو مراكز الدراسات المتخصصة، فيها فعلاً ما يُقلق وينبّه ويحفز على المتابعة واستجلاء الحقائق، في ما يخصّ الاحتياطيّات والسياستين الماليّة والنقديّة وظروف الاستثمار والضرائب والعجوزات الماليّة، وغير ذلك مما ينبغي الدخول إليه من غير مجاملة أو تزويق، وقد لا نبالغ إذا ما قلنا إنّ حساسيّة مقالة الفانك متولّدة أصلاً عن حداثة النسبة الإحصائيّة وطزاجة المعلومة ومرجع كل هذه «الداتا» التي كثرت بشأنها الردود عبر «الرأي» وباتت مثار تداولٍ وتناولٍ في أروقة الحكومات والصّحف ووسائل الإعلام.

وصف أحدهم الفانك بأنّه إنّما هو «طائرٌ غير داجنٍ»، أو هو «رسول الحقيقة»؛ يدخل في هذه الندوة أو تلك أو هذا الحوار أو ذاك وهو مجهّزٌ بعتاده ومرجعيّاته، وسرعة بديهته في الربط بين المتغيرات ووصف التأثير الناشئ أو النتيجة الحتميّة، وحين يدخل بهذه القوّة فإنّ تهيّباً يلاحظه المهتمّ في عيون كثيرٍ من مُحاوريه ومناظريه؛ إذ لا يمكن أن يراكم الفانك تحليلاً على منهج خاطئ أو قياسٍ غير سليم، ومن ذلك اشتهر الرجل واشتهرت زاويته، وهي ميزة ما تزال تحتفظ بها «الرأي» لعددٍ من كتابها الذين بات يبحث عنهم القراء أو يفتقدونهم إن أصابهم عارضٌ أو تغيّبوا لأمر؛ تماماً كما هي حال قرّاء الفانك الذين تغيب سطوره اليوم وكلّ يومٍ عن عيونهم الدّامعة التي ربّما تجعل زاويته البيضاء هذه اللحظات مليئةً بالإشادة واحترام المسيرة وتقدير ذلك النور الذي يختفي اليوم.

فهد الفانك، المولود عام 1934 في عمان، ولم يكن ليختار الاقتصاد، بل إنّ «الاقتصاد» هو الذي اختاره؛ خصوصاً وهو من قدامى البعثيين وله حضوره الواضح في الساحة القوميّة؛ إذ قضى ستّة عشر عاماً في حزب البعث، يزيده ولعاً بمحيطه السياسيّ أنّه انتمى إليه وعمره لم يجاوز بعد السابعة عشرة، ليصل في ما بعد إلى عضويّة القيادة القُطْريّة، ولذلك فقد جاءت توليفة الاقتصاديّ السياسيّ أو السياسيّ الاقتصاديّ طبيعيّةً من غير تكلّفٍ أو ثقل، إذ ظلّ هذان الجانبان يدعم بعضهما الآخر لتتشكّل مقالة الفانك الرصينة «المشدودة» التي لا يمكن أن نستغني فيها عن سطرٍ بسطر أو مفهوم بمفهوم؛ ليغدو الكاتب مدرسةً في الاختزال والدّقة ووجاهة المعلومة التي لا تترك الأمور هكذا «تسير وحدها»، من غير أن تمرّ على «محترفي» الرأي من الكتّاب، وفي الطليعة منهم الفانك وزملاؤه الذين هم محلّ استنارةٍ أو اهتداء، أو استئناس على أقلّ تقدير.

يقول مجايلو الفانك إنّه كان متوقّد الذّهن منذ شبابه؛ إذ كان يطالع «المقتطف» و«الهلال» و«الرسالة»، وغيرها من المجلات التي طار بها واستعارها من مكتبات إربد التي عرفته رفوفها وفرح به أصحابها، فكان «القرش» ثمناً غير باهظٍ عند الفانك، يوم كان لـ«القرش» وزنه، وربّما لو كان من تُكتب حوله وعنه هذه السطور بيننا لحدّثنا عن «التضخّم» ومكافحته بين الجديّة و«الفزعة» في هذه الحكومة أو تلك.

«كان طلاب (المترك) يُعيّنون وتُحترم عقولهم، فيصبحوا معلمين»، يقول مجايلٌ للفانك، وهو يستذكر مسيرته وتحصيله العلميّ وعصاميّته المؤثّرة في خضمّ ظروف صعبة كان فيها الراحل مُجدّاً وقارئاً نهماً وشديد الإخلاص للفهم.

كثيراً ما وقفت «الحزبيّة» أمام الفانك، الذي لم ييأس، فالسيرة تطول في وظائفه التي لم يعمّر فيها بسبب عقليّة الفصل والتهيّب من الحزبيّة آنذاك، وكما تقول سيرته فقد عمل في ستينات القرن الماضي في البنك العربي، واشتغل في تدقيق الحسابات، وفي عالية الخطوط الجويّة الملكيّة الأردنية، وفي منتدى الفكر العربيّ، وفي الاستشارات المحاسبيّة، خصوصاً وقد كان حصل على التوجيهي المصري في القاهرة، ليكمل دراسته العليا في ما بعد، فيكتب إضافةً إلى اهتماماته ودراساته المتخصصة في زاوية «رؤوس أقلام» في الرأي التي عرفه من خلالها الناس وجمهرة القرّاء.

كيف يمكن أن نجعل من المادّة الاقتصاديّة مادّةً تلامس قلوب «الناس» وتخاطب أفئدتهم؟!.. سؤالٌ ربّما فاتنا أن نسأله الفانك، خصوصاً وأنّ «أنسنة» المفهوم الاقتصاديّ الجاف أو تقريب النسبة إلى ذهن العامّة أمرٌ له تقنيات وأساليب، غير أنّ حشد الفانك لكلّ هذه المؤشرات هكذا مرّةً واحدةً أمام القراء أمرٌ يمكن تسويغه بأنّ الظرف قد لا يكون يسمح إلا بالمباشرة وصدم الذّهن بالمعلومة، وهو ما تحقق فعلاً؛ إذ كان الراحل مصفاةً حقيقيّةً لكلّ هذه المؤشرات المدهشة التي هي بالتأكيد لا تنزّ عن عقل الفانك من غير تحكيكٍ أو نظرٍ أو جدالٍ أو استفهام.

يغيب فهد الفانك، الرئيس الأسبق لمجلس إدارة المؤسسة الصحفيّة الأردنيّة «الرأي»، ويشيّع جثمانه اليوم، وتبقى سيرة أحد رجالات الحصن والأردنّ وصلابته في المنطق الذي يصمت أمامه كلّ خطاب، تُستذكر ويسير على هديها كثيرٌ من الكتّاب والدارسين والمتخصصين أولي الفهم. الرأي

مدار الساعة ـ