الهموم الاقتصادية والاولويات الامنية والوعود السياسية احتلت المكانات الاهم على قائمة اولوياتنا الوطنية. انشغلنا كثيرا باقتصاد المعرفة واتمتة كل ما حولنا والدخول الى العصر الرقمي دون ان نعطي اهتماما كافيا لتنشئة الابناء وتهذيب سلوكهم وتدريبهم على حل المشكلات باساليب الحوار وبطرق بعيدة عن العنف والثأر والانتقام.
بالرغم من كل العروض والروايات التي نحكيها لانفسنا عن انفسنا والزعم بأننا مجتمع وسطي معتدل الا اننا لا نجد شواهد كافية على ذلك الادعاء في سلوك الكبار ولا احاديث وتفاعل الصغار. في الشارع والجامعة والعمل والمدرسة والبيت تعتبر الاصوات العالية والصراخ والشتم والتحقير وايذاء المشاعر ممارسات طبيعية جدا. في اي مكان واي وقت وحتى في المستشفيات يمكن ان تنفجر مشاجرة لأتفه الاسباب. الجميع يثور بحجة الدفاع عن الكرامة دون معرفة المقصود بها او تعريفها. البعض يعتقد ان الظهور بمظهر عدائي يضفي نوعا من الهالة والمهابة التي تردع الآخرين وتدفعهم لتجنب الايذاء او الاعتداء او التطاول. لجوء الجميع الى هذه الاساليب تجعل المجتمع في حالة من الاحتقان والتوتر ومهيئا للانفجار.
الاسابيع الماضية ووسط بهجة التحرر التدريجي للطلبة واسرهم من المخاوف والرعب الذي احدثته امتحانات التوجيهي صدم الجميع بسماع الاخبار التي اشارت الى اقدام احد الطلبة على قتل زميل له باستخدام سلاح ناري. قبل ان يتجاوز الاهالي والمهتمون حادثة القتل التي هزت الرأي العام واثارت عاصفة من الجدل حملت وسائل الاعلام والتواصل نبأ اصابة طالب اخر بعيار ناري في راسه على يد زميل له ودخوله المستشفى بحالة صحية خطرة. بالتزامن مع هاتين الحادثتين تناقلت المواقع الاخبارية وصفحات التواصل الاجتماعي شريطا مصورا لطالب وهو يعتدي على اخر بالركل والضرب والشتم في الوقت الذي يتولى زميلهما الثالث التحريض والتصوير للمشهد في غياب كامل للرقابة والاشراف المدرسي.
الحوادث الثلاثة تعكس صورة قاتمة ومخيفة للمدرسة الاردنية حيث يلاحظ المتتبع غياب الرقابة والاشراف المسند الى الهيئة التعليمية. الاباء والامهات الذين يرسلون فلذات اكبادهم الى المدارس اصبحوا اكثر قلقا وخوفا على سلامتهم. المؤسسة التي اوجدناها لبناء شخصيات الصغار وحمايتهم من التهديدات والاخطار لم تعد مكانا آمنا ولا بيئة محمية كما نريدها.
لا اعرف كيف تعاملت وزارة التربية مع هذه الحوادث واثارها ولا ادري اذا كان وزير التربية الحالي المنشغل بتطوير المناهج وهيكلة الثانوية العامة يملك تصورا للتعامل مع هذه الظاهرة الخطيرة التي دخلت الى نخاع هيكل مؤسسات بناء الانسان.
لكني على يقين ان اساتذة التربية والمناهج والاساليب وخبراء الطاقة الايجابية ومدربي التنمية البشرية ووعاظ برامج التلفزة الصباحية والمسائية ونجوم الاذاعات المنقسمين بين الرد على الشكاوى والمبشرين بالخير والسعادة سيجدون في هذه الحوادث وما تمثله مادة لبرامجهم ومحاضراتهم وحواراتهم التي قد لا تلامس المشكلة.
في مدارس القرى والارياف وقبل ان يكون التعليم عملا جزئيا الى جانب الدروس الخصوصية واعمال النجارة والكهرباء وقيادة سيارة السرفيس كان المعلم فخورا برسالته يحضر الى المدرسة قبل الطلبة ويتجول في ارجائها يتعرف على المشكلات ويفصل بين الطلبة ويتعاون معهم في اداء بعض الاعمال التجميلية للحرم المدرسي. كان المدير يتواصل مع الطلبة في الطابور الصباحي في حين يمضي المعلم المناوب يومه بين الطلبة يجوب ممرات المدرسة وساحاتها.
لا اعرف اذا كان بوسع المعلمين المنشغلين في انتخابات نقابتهم ومتابعة تعهداتهم الصغيرة وورشهم ان يقوموا بأي من هذه الادوار.. كل ما يمكن قوله ان الاصلاح الاهم الذي يحتاجه التعليم يرتبط بقدرته على انتاج المواطن الصالح حتى وان تطلب ذلك الابطاء قليلا في حذف واضافة محتوى المقررات التي قد تعجب أو لا تعجب البعض منا.
الغد