لم نتردد في اعتبار الموقف الرسمي الفلسطيني، ممثلا في الرئيس الفلسطيني برفض «صفقة القرن»، موقفا يستحق التقدير، فالخلاف السياسي، بل حتى الأيديولوجي لا يدفع إلى نكران المواقف الجيدة، فكيف حين تكون بوصلة القضية هي ما يعنينا بعيدا عن أي مواقف أخرى؟!
ما ينبغي أن يُقال ابتداءً هو أن ما عرضه ترامب ضمن ما يُعرف بـ»صفقة القرن»، ما كان لأحد أن يقبل به؛ لا القيادة الحالية، ولا أي قيادة أخرى، لا سيما أن ما هو أفضل منه كان قد رُفض في السابق، والشعب الفلسطيني أصلا ليس قطيعا من الأغنام يقوده أي أحد نحو حتفه دون ضجيج.
لم يكن أحد ليجرؤ على قبول حل يستثني القدس، فضلا عن أن تكون تفاصيله الأخرى لا تقل بؤسا كما عكستها التسريبات؛ إن كان بشطب قضية اللاجئين أم السيادة، أم استمرار السيطرة على الغور، وصولا إلى تأكيد حكم ذاتي محدود تحت عباءة الاحتلال، ولو حدث أن قبل أي زعيم فلسطيني بذلك، فإنه سيكتب نهايته بيده، وسيرفض الشعب الفلسطيني ذلك بالفعل، وليس بالقول فقط. وحين عُرض ما هو أفضل من «صفقة القرن» على عرفات في كامب ديفيد؛ صيف العام 2000، قال لمحاوريه إنني لو قبلت ذلك فسيطلق الفلسطينيون عليّ الرصاص حال عودتي.
مع ذلك، دعونا نتجاوز ذلك كله، ونتحدث عما جرى كموقف يستحق التقدير في ظل البؤس العربي الرسمي الراهن. والسؤال الذي يطرح نفسه قبل ذلك وبعده، هو المتعلق باليوم التالي للرفض، بل حتى اليوم السابق عليه، بل اليوم السابق على عرض الصفقة من أصلها.
ما نراه ويلمسه جميع الفلسطينيين أن اليوم السابق واللاحق لم يختلفا كثيرا من حيث منح الغزاة فرصة الاستمتاع باحتلال دون كلفة، وهذا وصف الرئيس الفلسطيني نفسه، معطوفا على سلطة دون سلطة، فيما لا يتردد الصهاينة في وصفه بـ»الاحتلال الديلوكس»، أي الفاخر (عريقات قال في لحظة صدق قبل أيام: «الحقيقة هي أن ليبرمان هو الرئيس ويؤآف مردخاي؛ منسق أعمال السلطة في الضفة الغربية هو رئيس الوزراء»).
تلك صيغة قالها الرئيس في اسطنبول، وفي أكثر من خطاب قبل عرض «صفقة القرن» وبعدها إنه لن يقبل به، ولأجل ذلك تم استدعاء المجلس المركزي، ومن ثم اللجنة التنفيذية، ورأينا قرارات وتوصيات، بعضها مهم، لكن شيئا لم يتغير على أرض الواقع، وبقي الحال كما هو عليه منذ 2004 ولغاية الآن.
لقد قلنا إن تمهيد الطريق أمام «الحل الانتقالي بعيد المدى»، بتكريس الوضع الراهن، وصولا إلى جعله حالة دائمة، مع الحق بالحديث عن «الثوابت»، ليس سوى وصفة لتصفية القضية أيضا، سواء فُرض هذا الحل لاحقا بطريقة ما، أم بقي دون كتابة وتواقيع.
إلى جانب ذلك كله، تنهض قصة قطاع غزة، والمصالحة، والإصرار على معزوفة «التمكين» التي تعني تكريس الوضع الآنف الذكر، بنقل تجربة الضفة البائسة إلى قطاع غزة، ونزع سلاح المقاومة، والتعامل مع وضع السلطة وصيغتها كوضع نهائي، وهذا ما يدفع كل القوى إلى رفض ما يجري، لا سيما أن أخبار المفاوضات الجانبية لا تتوقف، كما في لقاء رئيس الحكومة الفلسطينية مع من يعرف بمنسق شؤون المناطق، أو لقاء وزيرة فلسطينية مع نظير لها في باريس، أو اللقاء في مكتب الحمد الله برام الله مع وزير المالية الصهيوني، وما يسمى منسق شؤون المناطق.
أما حديث المقاومة الشعبية، فلم يُترجم واقعا إلى الآن، أعني تلك المقاومة التي تترجم نظرية رفض «الاحتلال بلا كلفة»، فأين هي المقاومة الشعبية التي تعلن تجمعات الفلسطينيين مناطق محررة، لا يسمح للغزاة بدخولها، وتحميها الجموع الشعبية، بدل دخولهم كل ليلة لاعتقال النشطاء دون رادع؟!
الخلاصة أن الشعب الفلسطيني ينتظر من القيادة أن تتفاهم مع بقية القوى على استراتيجية حقيقية تطبق واقعا مقولة رفض الاحتلال بلا كلفة، وهذه لا تأتي من خطاب في الأمم المتحدة. ومن دون ذلك، سيبقى التيه، ومعه مخاطر تكريس «الحل الانتقالي» الذي لا يختلف عن «صفقة القرن»، في مآله النهائي كتصفية للقضية.
الدستور