تعيش مدينة القدس منذ عقود محنة حقيقية، هي محنة الاحتلال، التي أدخلها قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنقل سفارة بلاده إلى المدينة، واعتبارها العاصمة السياسية لدولة الاحتلال، مرحلة جديدة في غاية الخطورة، وغاية التعقيد، واشتداد محنة المدينة المقدسة، فقرار الرئيس الأمريكي المتساوق مع الرغبات الصهيونية يتناقض تناقضاً جوهرياً مع تاريخ المدينة الممتد لالآف السنين من عمر البشرية، فعبر تاريخ كل الحضارات والإمبراطوريات التي دخلت القدس في إطار حكمها ونفوذها، فإن أي من هذه الامبراطوريات والحضارات لم تفكر أو تسعى لجعل القدس عاصمة سياسية لها.
لم يفعل ذلك الرومان ولا اليونان ولا الفرس ولا العرب، ولا كل المسلمين الذين تعاقبوا على حكم المدينة كجزء من حكمهم للمنطقة، بل لقد حافظ الجميع على خصوصية القدس عاصمة دينية وحضارية، تهفوا إليها قلوب المؤمنين من أتباع الديانات الثلاث، التي ظلت المدينة تفتح أبوابها لهم على امتداد تاريخها، باستثناء حالات شاذة ومحدوده فكر فيها بعض الغزاة بجعل القدس عاصمة لدويلاتهم العابرة في تاريخ المدينة، والشاذ لا حكم له، وكذلك هي الفترات القصيرة والعابرة التي تحولت فيها القدس إلى عاصمة لبعض الغزاة.
استمرار القدس وفي ظل كل الحضارات التي حكمتها, مدينة لتلاقي الأديان والثقافات والأعراق، حماها من مساوىء العواصم السياسية، وأول ذلك أن العاصمة السياسية لأية دولة يعني أنها لشعب بعينه، ولثقافة بعينها، وعلى الأغلب لدين بعينه، وهذا يتناقض مع طبيعة القدس باعتبارها مدينة لكل الأديان السماوية، ومن ثم لكل الأعراق، ولكل الثقافات، باعتبار أن أتباع الاسلام والمسيحية على وجه الخصوص ينتمون إلى كل شعوب الأرض وإلى كل ثقافات هذه الشعوب.
كما أن بقاء القدس عاصمة حضارية وثقافية حماها من أواضرار العواصم السياسية, المتمثلة بالمكائد والصفقات المؤامرات القذرة، لتظل القدس مدينة نقية محافظة على قدسيتها، لا تلوثها أواضرار سياسية.
هذ البعد الحضاري لمدينة القدس هو جوهر ومعنى الوصاية الهاشمية على القدس ومقدساتها الإسلامية والمسيحية، فالوصاية الهاشمية على المدينة سبقت الوحدة بين الضفتين الشرقية والغربية لنهر الأردن تحت ظل الهاشمين، فحضارياً ودينياً ابتدأت الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية منذ أن أسري برسول الله محمد إلى القدس، ليؤم فيها سائر أنبياء الله، وليعرج منها إلى السموات العلى، وهي الوصاية الهاشمية التي تجدد بعدها الحضاري في عام 1924 عندما طب أبناء فلسطين من ملك العرب وقائد ثورتهم الحسين بن علي حماية المقدسات، وعندما تبرع جلالته بثلاثين ألف ليرة ذهب لصيانة المسجد الأقصى، لتبدأ معها مسيرة الإعمار الهاشمي للمقدسات في القدس، وكان ذلك قبل بسط السيادة السياسية للهاشمين على القدس باتحاد ضفتي الأردن, ورغم أهمية القدس الدينية والسياسية لدى الهاشمين فإن أي من ملوكهم لم يفكر في جعل القدس عاصمة سياسية له، بل حافظ على خصوصيتها ورمزيتها عاصمة دينية وحضارية وثقافية، نالت من الملوك الهاشمين اهتماماً يفوق اهتمامهم بالعاصمة السياسية لمملكتهم أعني بها عمان.
كل هذا التاريخ الحضاري والديني والثقافي للقدس،جاء قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب متناقضاً معه، ساعياً إلى نسفه، خاصة في ظل المفاهيم اليهودية والصهيوينة التي لا تعترف بالآخر، سواء كان هذا الآخر ديناً أو ثقافة أو عرقاً، فكل هؤلاء بالنسبة لليهود مجرد " حمير" وأدوات غبية يجوز خداعهم واستغلالهم، وطردهم من أرضهم، وهذا هو الخطر الحقيقي الذي يهدد القدس في ظل قرار الرئيس ترامب، فهذا القرار الذي جاء متساوقاً مع الرغبات الصهيوينة في أبشع درجات تشددها، في ظل اليمين الحاكم في إسرائيل، والذي لا يخفي نواياه بإقامة الدولة اليهودية الخالصة،عاصمتها القدس الموحدة، والذي جاء قرار ترامب ليعطية دفعة قوية لتهجير بقايا مسيحي القدس من مدينتهم، وليصعد من إجراءات التضيق على كهنتهم، متساوياً في ذلك مع إجراءاته ضد المسلمين، الذين يعلن صراحة أنه سيبني هيكله المزعوم محل أقصاهم،مما يحتم علينا مسلمين ومسيحيين أن نتحد في وجه هذا الخطر، الذي يهدد مدينتنا المقدسة، وأن نسعى إلى الحفاظ على القدس عاصمة للحضارات والديانات والثقافات، أي عاصمة للتنوع الإنساني، لا عاصمة سياسية لكيان عنصري غاصب ليس له من الحضارة نصيب.
الراي