مدار الساعة - كتب .. الدكتور رجائي حرب
أشرقت شمس الأردن أول أمس الأحد على موعدٍ جديدٍ من مواعيد الفخر والكبرياء حين رسمت مسيرة الانجاز المظفر صفحاتٍ جديدةٍ من مواقف العز الأردنية؛ ونقشت على جدران التاريخ بمداد البطولة معاني الإرادة والتصميم على تحقيق رؤى هذا الشعب الأردني الكبير؛ الذي نبت على امتداد هذا الحمى الطاهر؛ كنا على موعدٍ جديدٍ تزهو به أمنياتنا بإطلالة قائدنا المفدى الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم واعتلائه منصة البيت الديمقراطي الأردني الذي نسجناه بإصرارنا من عباءات الشرف الأردنية؛ وجبلنا طينته بحبات العرق الشريفة الصادقة؛ وخضَّبنا حيطانه بدماء الشهداء، التي سالت زكيةً، في الكرامة واللطرون وباب الواد وعلى أسوار القدس وتخوم الوطن، حيث الحد الفاصل ما بين أهل الحق وخفافيش الظلام؛ وشيدنا مداميكه بلبنات البأس الشديد والرأي السديد والعقيدة الراسخة المبنية على ديمومة هذا العرين أبد الآبدين.
ويتجدد مع إطلالة كل مرحلةٍ من مراحل حياتنا الديمقراطية في الأردن ومسيرتنا السياسية الناضجة هذا النسق الأردني الذي يؤكِّد دائماً على حالة الانسجام الوطني ومنظومة التوافق والتلاحم بين القيادة الهاشمية والشعب الأردني الأبيّ، في الرؤى والمنطلقات؛ والرغبة الأكيدة نحو تعزيز المنجزات ومواصلة بناء دولة القانون القائمة على ثوابت نسيجٍ اجتماعيٍ متماسك، ومُعزَّزٍ بمواطنةٍ فاعلة، ومبادىءَ ديمقراطيةٍ راقية، وحريةٍ يصونها الدستور، وحقوق إنسانٍ غير زائفة.
ورغم أن موجات ما يسمى الربيع العربي قد ضربت أسوار هذا الحمى الأردني في ليلةٍ تنفس فيها الغٌلاة الصعداء، وضن فيها الغُزاة أن فرصة النيل من وطن النشامى قد دنت، إنتفض الأردنيون الذين نبتوا مع زيتون هذه الأرض وسنديانها بعزمهم المعهود ووقفوا كما الطود المنيع يواجهون الرياح العاتية بصدورهم دفاعاً وذوداً عن عنوان وجودهم وآخر مواطن الأمن والأمان في ربى الشام؛ واستوعبت الأردن بمفهوم الدولة العميقة كل الموجات الصاخبة، متسلحةً بحكمة القيادة التي تعاملت مع كل المواقف بروح الأب الحاني والمعلم المدرك والقائد الفذ المتمسك بزمام الضبط وعماد الرحمة، والساعي للخروج من الأزمات بأقل الخسائر لا تأزيمها؛
ويمكن للناظر أن يشاهد وعثاء السفر وتعثُّر الكثيرين وهم يكافحون بالسير نحو مفهوم الدولة المدنية الحديثة التي أرسينا قواعدها في أردننا الحبيب منذ زمن بعيد؛ في حين أن إخوتنا في بعض الدول العربية الشقيقة كما في العراق والسعودية وسوريا واليمن ومصر وليبيا وتونس وقطر والبحرين يكابدون اختلالاتٍ واضحةٍ نتيجة ما سُمِّي بالربيع العربي وتحت مسميات ودعاوى مكافحة الفساد التي أهدرت الدم العربي، واستخفت بقيمة الإنسان، وأفقدت إخوتنا الأمل بغدٍ مشرقٍ، وزرعت في غياهب الدهر لديهم مُصابات الألم وجروح لا تندمل مع الأيام؛ وكانوا كمن يستنطق داحس والغبراء لتحصد الأرواح بين ظهرانيهم؛ وكانوا كمن يبني مجتمعات الكراهية؛ بدل السعي إلى تحقيق ما تصبو إليه شعوبهم لتعيش حالة الأمن والسلم المجتمعي الذي ننعم به كأردنيين والحمد لله. وهذا ما يجعلنا نتوجه بالدعاء إلى الله العلي القدير بأن يحفظ إخوتنا العرب ويعيدهم إلى رشدهم لتغليب مصلحة اوطانهم وشعوبهم على مصالحهم الشخصية واتباع لغة الحوار بدل الاقتتال وتخريب الأوطان.
ولأن قلوب الأردنيين ومُهجهم ما زالت وستبقى تهفو للتفاعل مع قضايا أمتهم وإلى مباديء الوفاق والاتفاق التي انطلقت من عمان العروبة، وتمثُّلهم معاني الأسرة العربية الواحدة من المحيط إلى الخليج، والمباديء القومية في كل مناحي حياتهم، فإنهم يتابعون ما يجري على الصعيد العربي المتأزم بانفعالات صادقةٍ، وحنينٍ دائمٍ، ورغبةٍ أكيدة بانتهاء مكابدة الأمة لتخرج من سباتها؛ إلَّا أن انفعالاتهم قد بدأت تنعكس على واقعنا الداخلي؛ وهذا ما جعل المتربصين وأصحاب الأنفس الواهنة والأيادي المرتجفة والعقول الخاوية أن يتسللون وسط هذه المشاعر الصادقة ليُزيِّنوا لبعض البسطاء بأن حالنا في الأردن ليس بأحسن حال من باقي الدول الشقيقة؛ وأننا على حافة الهاوية؛ إلَّا أن الواقع ينبيء بغير ذلك؛ خاصةً ونحن نرى ونعيش، والحمد لله، أرقى تجليات الزهو في نظامنا السياسي؛ فشرعية النظام الهاشمي بعيدةً عن كل تشكيك؛ وأنها تخلق، وما زالت تخلق، حالةً من الإجماع الشعبي والوطني، ورضىً وطنياً في ممارسة الحكم، كما وأن الهوية الأردنية متجذرة ومستقرةً وجعلت كل المواطنين يتجاوزون ولاءاتهم الضيقة لينصهروا في كيان أردني واحد، ولا يوجد لدينا والحمد لله أزمة في المشاركة السياسية أو عزوفٍ عن الإسهام في الحياة العامة، وذلك بسبب وجود مؤسسات سياسية فاعلة ومعنية بالمشاركة والتوعية. ناهيك عن دور المجالس اللامركزية التي أتت لتجذير مفهوم الإدارة المحلية والرغبة الصادقة في إدارة المحافظات من قبل سكانها. وهذا يحسب باقتدار لقيادتنا الحكيمة التي لا تميل إلى الاستئثار بالسلطة أو احتكارها معاذ الله.
إنني عندما أكتب عن هذا النسيج المفعم بالعزة والفخار فإني أرتفع بنفسي لأكون على شاكلة كل الأردنيين الذين يغارون على مصلحة هذا الحمى الأردني، حمى النخوة والشهامة، ولما وصلنا إليه في بلدنا من وعيٍ حقيقيٍ، وقدرةٍ على إدراك المعاني والمعايير التي يطبقها نظامنا لدوام العيش المشترك، والتفاعل الحقيقي، والانسجام الأكيد بين منظومةالإنسان ومنظومة النظام، حيث نرتقي جميعاً لنحافظ على ملكيتنا التي هي عنوان ثباتنا؛ والمظلة التي ينظوي تحتها الجميع بلا استثناء؛ ولنحافظ على نسق التعايش الآمن والاستقرار المصون؛ ولنقبض على جمر الصبر بسبب الضغوطات الخارجية التي تحاول ابتزازنا سياسياً ووجودياً، وليكون هذا النموذج الأردني المتميز نبراساً ومعياراً واقعياً يقيس عليه إخوتنا العرب واقعهم ليجدوا حلولاً ومخرجاً من واقعهم المتأزم، وليصلوا إلى مفهوم الدولة القادرة على تخطي العقبات إذا توفرت الرغبة لدى مواطنيها في الاستمرار؛
أما نحن الأردنيون فيجب علينا أن نقتنع جميعاً، بأننا، شعباً ومؤسساتٍ، قد عملنا ليل نهار لتفادي تداعيات لجوء ونزوح إخوتنا الفلسطينيين، فكنا معهم مهاجرين وأنصار، وتحملنا لجوء إخوتنا العراقيين على مدى عقدين من الحصار الظالم ضدهم، وضمدنا جراحاتهم، فكنا لهم الأوفياء، واستوعبنا هروب إخوتنا السوريين من بلدهم بسبب آلة البطش الإرهاب، ولم نتوان عن تقاسم بيوتنا معهم في قُرانا ومخيماتنا ومددننا، نغيث ملهوفهم، ونفزع لنصرة المظلوم منهم، ومر كل ذلك علينا وما زلنا نكبر يوماً بعد يوم بصبرنا وقدرتنا على تحمل كل آلام المنطقة؛ ولن نرضخ للتهويل الذي يحصل في شقيقتنا الكبرى السعودية ولن يفت من عضدنا دعوات الشؤم وموجات التسرع التي يطلقها بعض المتربصين للنيل من لحمتنا ولاستدراجنا للانغماس في مصاباتهم؛ ونحن الذين نؤمن إيماناً مطلقاً باحترام سيادتهم الوطنية وخصوصية تعاملهم مع ما يدور في الداخل عندهم؛ ونقول لأؤلئك المتربصين بأن هذا البحر المتلاطم سرعان ما سيصفو، وسيدرك الجميع بأن هذا الوطن ما خُلق ليموت وإنما خُلق ليبقى صخرةً تتكسر على تخومها دعوات التربص والنفاق، وليبقى آخر موئلٍ لغوث الناس ونصرتهم؛ وهذا هو قدرنا ومصيرنا.