لربما لا تشبه منطقة من هذا العالم منطقتنا، بإقليمها الذي يحمل تعب الجغرافيا، وهموم التاريخ، وميزتها أن إنسانها يحاول، ويكتنز في الوعي الجمعي الكثير من الانطباعات والخبرات، أيضا.
ومن بين معاني منطقتنا، ومفاهيمها بلد مثل لبنان، بات اليوم يعيش ظرفاً متعباً، وهو يشبه في ظرفه هذا كثيراً مما مرّ به أشقاؤه.
منذ قرون ولبنان يشغل المنطقة، وكثيراً ما شغل من مروا عليها من قوى انتدابٍ أو ما سبقها من عهد عثماني، تخلله أن السفراء كانوا يجلسون لساعاتٍ طوال لمناقشة شأنه، ولينحتوا مصطلحاً دخل التقسيمات الإدارية العربية من أوسع أبوابها على أصله الفرنسي، وهو مصطلح «المتصرفية»، أي متصرفية جبل لبنان.
وفي وقتٍ لاحقٍ وفي زمان رسم الخرائط ووضع الحدود، واتقان الخطوط، أخذ لبنان حصته من التقسيم، ولكنه امتد وبحماية دولية أيضاً ليشتبك جبله مع سهله فسمي لبنان الكبير، وهو الإسم الأول لدولته في العصر الحديث.
لبنان الكبير، الذي يعيش اليوم مرحلة من الاستقطاب السياسي الذي امتد خارج حدوده هو بلد للجميع، وبلد عايش مراحل في تاريخه الحديث، وفي كل مرة أتقن التناغم مع الموجة التي تمر في المنطقة.
فلبنان في مرحلة القومية العربية ومد موجها العالي رفع تيار فيه ورقة الوطنية (المارونية) ونظر بعض مؤرخيه لنظرية الفينيق المغايرة للواقع العربي مع بدايات القرن الماضي، على أنها الفكرة التي يجب أن تسوده.
ولبنان، أيضاً، في مرحلة المد الديني، وانتهاء مواقيت القومية، عبر عن ذاته على شكل صراع «مؤدلج» فاجتاز بذلك القومية والمد الديني، لتصعد تعابير الطوائف والتقسيمات الطائفية وتفرض عليه مشهداً من الحياة السياسية يغلب عليه «غلبة» الطائفة على الدولة.
في ظل هذا التأمل، وظلاله، أذكر ما حدثني فيه صديق لي ذات مرة بقوله: إن لكل طائفة في لبنان ثورتها، ولكل طائفة وحسب مقتضى الحال عصرها في لبنان بدءاً من عهد الأمير فخر الدين المعني أيام العثمانيين.
المفارقة في لبنان أن كل قوة صاعدة في المنطقة أو آتية تحاول تأكيد سيطرتها ونفوذها بدءاً منه، ولا أظن مر عام على لبنان في أعوامه الكثيرة ورفع سياسية علم بلدهم لوحده إذ كان على الدوام هناك علم بجانبه، وكأنها صيرورة وقدر محتوم أن لا يمر عقد عربي دون أن يكون فيه للبنان وإحدى طوائفه حكايته.
ولكن، ما يجب الوقوف عنده اليوم في ما يجري على الساحة اللبنانية أن اللعبة السياسية هذه المرة تجاوزت حدود خشبة مسرح الداخل إلى الخارج، ولم تعد صيغتي «الميثاق الوطني» و«اتفاق الطائف» قادرتين على تلبية احتياجات ومقتضيات المرحلة.
وهذا مكمن خطير فتقسيم المقسم وتجزئة ونجاح ذلك في لبنان كما في دول أخرى في الإقليم يعني استسهال استنساخ التجربة.. فلبنان في وجدان مثقفي العرب ومنظريهم حالة لا تتوقف داخل حدوده، فألم يستأنس العرب بمصطلح التثاقف للحديث عن نقل الأفكار، أوليس لبنان ببلد مؤهل لنقل التجربة.. تأملات كثيرة في ما يجري اليوم لبنانياً تستحق الوقوف عندها حتى لا ننجر أكثر بـ «نوازلنا» !
لبنان، الذي سماه أحد مؤرخيه، كمال الصليبي، بأنه بيت بمنازل كثيرة، يعيش اليوم ربيعه المتأخر، وما زالت تجربته في بداياتها.. فهل هي ثورة لبنانية هذه المرة أم أن حقاً لكل طائفة فيه ثورتها..؟؟!
نهاية، أحياناً نكتب عن لبنان لأنه كان في مرحلةٍ ما ملهماً، ولأنه قدم الكثير في بدايات الوعي العربي.. وللأدب والفن والثقافة، وهو ما نحتاجه اليوم.