كم مقعدا في الانتخابات البلدية واللامركزية حصلت عليه عشيرتكم..؟
الرجل الذي سألني بابتهاج اكد لي ان عشيرته انتزعت نحو (30) مقعدا ، ثم اضاف : الان صار بوسعنا ان نشكل “حزبا” قويا لنخوض الانتخابات البرلمانية القادمة، لم اعلق على كلامه، لكن الاخبار التي نشرت في مواقع التواصل الاجتماعي والفيديوهات المرفقة التي تضمنت لحظات الاحتفال بفوز بعض المرشحين من ابناء بعض العشائر”باطلاق” وابل من الرصاص ، ثم الاجتماعات التي عقدتها بعض العائلات لمناقشة اسباب فشل مرشحيها في الانتخابات استفزتني ، تساءلت : الهذا الحد وصلنا ..؟ الهذه الدرجة اصبحت العشيرة “القوة” الضاربة في الانتخابات ، وفي غيرها ايضا..؟
قبل ان استطرد وحتى لا يسىء البعض فهم ما اريده لدي ملاحظة وهي ان الناس التزموا الصمت على مدى السنوات الماضية وهم يتابعون العزف على اوتار ناشزة تدعو الى تجاوز منطق العشيرة ، كنا نعتقد آنذاك ان المقصود هو اعادة الاعتبار لهيبة الدولة والقانون، لكننا اكتشفنا ان وراء هذه الدعوات نوايا واجندات تحاول ان تشطب هويتنا وتمحو ذاكرتنا وتحولنا الى مجاميع من السكان، كما يريد اصحابها ان يستحوذوا على المناصب والامتيازات ، ويحولوا البلد الى شركة مساهمة يديرونها كما يشاؤون.
لا يخطر في بالي ان انضم الى جوقة هؤلاء “المحرضين” ولا ان أقلل من الدور الاجتماعي الذي يمكن أن تقوم به العشيرة ولا من أهميتها وحضورها في تماسك المجتمع واشاعة مفاهيم المروءة والشهامة والتكافل بين ابنائها، ولكنني اشعر بالقلق حين توظف العشيرة لاغراض سياسية، أو حين يقتحم البعض – باسم العشيرة – مجالنا العام بشكل غير مفهوم، لا من اجل تعزيز قيم الدولة وقوانينها والاحتكام لشروط هيبتها وموازين العدالة فيها، وانما للاحتماء بالعشيرة منها، على افتراض ان العشيرة ند للدولة : تتناطح معها وقد تتغول عليها وتتصادم معها ايضاً.
اذا اتفقنا على أن تركيبة مجتمعنا “عشائرية” بامتياز ، وان العشيرة هي الاطار الاجتماعي الذي يجمعنا، وعلى انه من الطبيعي ان نعتز بانتمائنا لها كرابطة من روابط الدم والقرابة، فمن الأولى أن نتفق على أن “الدولة” هي الاطار السياسي الذي نتوحد فيه كمواطنين لا كرعايا، وعندها نكسب قيمة العشيرة دون أن نفقد معنى الدولة أو أن نستقوي عليها بأي شكل من الاشكال.
لكن ما يحدث للأسف ان ثمة من يريد أن “يختطف” الدولة والعشيرة معاً، وأن يقايض إحداهما بالاخرى، وهنا لا بد ان ننتبه ونحن نطالب بالاصلاح ونرفع شعاراته الى ضرورة استعادة دور الدولة من خلال دفع حركة ماكينتها السياسية اولاً، وانعاش الحياة الحزبيه التي تكفل استمرار هذه الحركة والمحافظة على ايقاعها ، فالاصلاح في حقيقته لا يتحقق الا في اطار “دولة” قوية تبسط هيبتها على الجميع، بمنطق القانون لا بأي منطق آخر، والفساد الذي نعاني منه ما كان يمكن أن يتسلل الى مؤسساتنا لو كانت “الدولة” تتمتع بما يلزم من عافية وحضور وهيبة، كما ان هيمنة العشيرة في المجال العام ما كان يمكن ان يتم لو كان لدينا احزاب قوية تمارس نشاطها السياسي باريحية.
اعرف أن ثمة الغاماً كثيرة تمنعنا من الدخول – بصراحة – على المشهد العام وما يجري فيه من اشتباكات وسجالات، لكن من حق الناس ان تستشعر خطر هذا الخلط بين المفاهيم والاعتبارات، وان تعبر عن هواجسها من صراعات “القوى” ومحاولات “التغطية” على الفساد تحت أي مسمى او اطار، ومن “توظيف” الخاص ضد العام والاستقواء على القانون.. وعلى الدولة ايضاً.
لا يمكن لمنطق الدولة ان ينتصر الا بسيادة القانون واستقامة موازين العدالة، وترسيخ قيم “المواطنة” الحقة التي تضع الجميع امام حقوقهم وواجباتهم سواء، ولا يمكن بناء تحول ديمقراطي حقيقي الا على قاعدة الانحياز لأعراف الدولة وتقاليدها، أما الاحتماء والهروب الى “مظلات” اخرى فهي “وصفة” للفوضى لا للاصلاح، وللمعاندة لا للتوافق، ولتعميق الازمة وإحكام انسداداتها بدل ايجاد ما يلزمها من مخارج وحلول وتفاهمات.
لا اتحدث هنا فقط عن “الملاذات” البديلة بمفهومها الاجتماعي القائم على رابطة الدم والقرابة، وانما ايضاً عن تلك “الملاذات” التي خرجت من رحم السياسة والاقتصاد، حتى أصبح لدينا “مجاميع” حزبية واخرى مذهبية وثالثة “مصلحية” ويا ليت انها درجت في سياق الدولة من جهة التقوية والانصهار والتكامل.. لكنها أصبحت عبئاً عليها وطرحت نفسها – احياناً – بديلاً عنها.. بل وفرّخت ما يعانيه مجتمعنا من ضعف وفساد وخيبة وقلة حيلة.
الدستور