مدار الساعة -بقلم: المستشار محمد الملكاوي / باكو – أذربيجان
كانت ابتسامة (آنيت) هي أول ما أحسست به بعدما خرجت من مطار حيدر علييف الدولي في (باكو) عاصمة جمهورية أذربيجان، حيث لمست من على قرب حفاوة الترحيب الأذري الدافئ بلغة إنجليزية متواضعة من (آنيت) الذي رافقني من المطار إلى مركز المدينة، هذا المركز الذي كان يزدان عندما وصلته بكل ألوان الفرح استعداداً للاحتفال بقدوم العامٍ الجديد (2023)، وكأنه مولود أذري بشهادة ميلاد عالمية، ينتظر ميلاده عشرة ملايين مواطن أذري، ومعهم (6) مليارات إنسانٍ حول العالم. هناك ... في وسط العاصمة (باكو)، كنت سعيداً أنني فقدت بوصلة اتجاهاتي، وانتهت في ذات الوقت أيضاً كل شحنات الطاقة في هاتفي الخلوي، حتى أنني تخلّيت عن كل روابط الإنترنت ورسائل الـ (SMS)، فغرقت في أعالي واجهات تلك المباني الشاهق بعضها، التي كانت تتحدث معي بلغة هندسية معمارية عتيقة وعصرية وفريدة خاصة بشعب أذربيجان، جمعت بين التاريخ والعراقة والحضارة، فأحسست أنها قادتني عبر (حلقة) فضائية من حلقات مسلسل (Star Trek)، أو مركبة الزمن (Machine Time) إلى ما قبل أيام الإسكندر الأكبر (المقدوني)، الذي حكم الكثير من أراضي العالم، ومنها أراضي أذربيجان، وصولاً إلى يومنا الحاضر الذي غدت تسمّى فيه أذربيجان أيضاً بأرض النار (جبل يانار داغ)، الجار القريب لبحر قزوين، والمشتعل تقريباً منذ (17) عاماً أي منذ عام 2007 حتى يومنا هذا، والذي أصبح معلماً من معالم جمهورية أذربيجان، والقريب من العاصمة (باكو).أذربيجان ... موطن السلام والتسامح ومعروف بأن لكل شعبٍ طبيعته الخاصة به والتي قد لا يشاركه فيها الكثير من شعوب العالم، لهذا فإن أول ما لفت انتباهي وأنا أتجوّل في وسط (باكو)، هو الكيمياء الخاصة والواضحة في شعبٍ أذربيجان الذي يمتاز بالتعددية العِرقية والدينية والعيش المشترك والسلام المجتمعي والمساواة بين الجميع، وقد أذهلني هدوء الأذريين واتزانهم وهم يسيرون ويتقاطعون في الساحة الرئيسية بوسط المدينة التي تم تحضيرها لوادع عامٍ فائتٍ واستقبال عامٍ جديد، شارك فيه حتى الأطفال الرُضع مع والديهم، والأطفال الذين كانوا يتراكضون هنا وهناك، وهم يرتدوا ملابس ثقيلة لطرد البرودة التي كانت تلامس الصفر المئوي ليلاً أحياناً، حتى أن كبار السنّ (الجدات والأجداد) حضروا لتسجيل شهاداتهم التاريخية على وداع عامٍ واستقبال عامٍ جديد، وهم يرتدون معاطفهم الثقيلة، والطواقي الدافئة التي اعتدنا في الأردن والشرق الأوسط على مشاهدتها في الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية على رؤوس أهل الأسكيمو وسيبيريا والقطب المتجمد الشمالي، أو الرحالة في القطب المتجمد الجنوبي.كروموسومات السلام الأذرية ولأن السلام يسري مع كروماتوسومات وجينات شعب أذربيجان، ومع كريات دمائهم الحمراء والبيضاء، وحتى في شرائح هواتفهم، فقد عشت كأردني (يعتز بإسلامه وعروبته وإنسانيته، والذي تأثر بثقافته العربية الممهورة بالإسلام والمسيحية معاً، التي تستوطن الشرق الأوسط منذ ملايين السنين)، أجمل لحظات عمري وإنسانيتي ومهنيتي، حتى أني أدركت حينها بأن وسط العاصمة (باكو) يتكامل ويتقاطع كثيراً مع الساحة الهاشمية في العاصمة عمّان، ومع منطقة حي سيدنا الحُسين في القاهرة، وكذلك مع مناطق جدة القديمة في السعودية، وسوق (المباركية) في الكويت العاصمة، وحتى في (حي الميدان) في سوريا، والروشة في لبنان، وشارع أبو نواس في بغداد، وأيضاً في شوارع مدينة القدس العتيقة وغيرها.سفير أذربيجان في الأردن ورغم أني أحببت التوهان الإيجابي في وسط مدينة (باكو)، إلا أنني تذكرت حينذاك سفير جمهورية أذربيجان في الأردن السيد إيلدر ساليموف الذي لمست لديه حماساً لبناء جسورٍ من العلاقات الشعبية بين الأردنيين والأذريين تقوم على ثقافة المحبة والسلام والإنسانية، لتقوية العلاقات الثقافية والاجتماعية والإعلامية والاجتماعية والشعبية، علاوة على دوره في تعميق العلاقات السياسية والدبلوماسية بين البلدين، فأرسلت له حينذاك مجموعة من الفيديوهات والصور المذهلة التي تحكي قصصاً وروايات وحكايات رائعة وميدانية عاشها إعلامي أردني وسفير سلام يترأس وِحدِة ثقافة السلام في الشرق الأوسط، التابعة لمؤسسة العالم في أميركا التي تديرها المرأة الأمريكية من أصول أردنية الأستاذة ندى الدلقموني التي جرى ترشيحها مرتين لجائزة نوبل للسلام عامي 2016 و 2018، والتي يتم تهيئة الأرضية لها هذا العام 2023 بإذن الله لترشيحها للمرة الثالثة من الأردن لنيل هذه الجائزة العالمية للسلام.الأردن في أذربيجان ... وأذربيجان في الأردن وأجمل ما قاله لي السفير ساليموف بأنه يطمح أن يرى أذربيجان في الأردن، وأن يرى الأردن في أذربيجان، من خلال الثقافة والأدب والفنون والسياحة والأعمال اليدوية التقليدية، والمشاريع والمبادرات الشابية والنسائية والرياضة وغيرها، وأن يرى توأمة بين صرح الشهيد في عمّان وحارة الشهداء في باكو، وبين نهر الأردن الذي جرى فيه تعميد السيد المسيح عليه السلام، ونهر (توريانشاي)، الذي ينبع من سفوح جبال القوقاز الكبرى.السفير الأردني في أذربيجان ولأني أؤمن بأن سفارات المملكة الأردنية الهاشمية هي محطات وطنية قبل أن تكون محطات دبلوماسية لكل أردني في العواصم العالمية، تواصلت بشكل مباشر مع السفير الأردني في (باكو) السيد سامي عاصم غوشة، لأني على يقين بأن العلاقات السياسية والدبلوماسية بين (عمّان وباكو) التي يحرص عليها السفير، يتم تدعيمها كذلك بطموحاتٍ ومبادرات لترسيخ علاقات اقتصادية وسياحية وثقافية واجتماعية وشعبية، وخطوطٍ جوية مباشرة بين البلدين، فلمست عن قرب حرصه على أن تكون العلاقات الأخوية بين البلدين مثالاً قوياً للعلاقات الدبلوماسية بين الدول. ولكنه في ذات الوقت يرى بأن إقامة خط جوي مباشر بين عاصمتي البلدين، هو التحدي الرئيسي الذي سيستمر بالعمل عليه، بعد أن أجهضت جائحة كورونا في عامي 2020 و 2021 ذلك الخط الجوي الذي كان قاب قوسين أو أدنى من التحقيق على أرض الواقع حينذاك. لكنّه كما يقول (قدّر الله وما شاء فعل). ويرى السفير غوشة بأن الخط الجوي المباشر بين عاصمتي البلدين (عمّان وباكو)، لا يختصر الوقت والمال فحسب، وإنما يساهم في فتح الآفاق الاقتصادية والاستثمارية والسياحية والطبية والعلمية والدراسة الجامعية وغيرها بين الأردن ودول الشرق الأوسط من جهة مع جمهورية أذربيجان من جهة ثانية، التي تمتلك كلّ مقوّمات العمل الثنائي والمُشترك مع الأردن ومع دول المنطقة.وكالة التنمية الدولية الأذربيجانية IADAمركز تحليل العلاقات الدولية AIR Center ولفت انتباهي في مركز تحليل العلاقات الدولية (AIR Center) في (باكو) وأنا أسأل باللغة الإنجليزية عن المستشار الرئيسي في المركز شاهمار علييف بأن هناك فتاة ترحب بي باللغة العربية الفصحى في دولة لغتها الرئيسية اللغة الأذرية تليها اللغة الروسية ثم اللغة التركية، فابتسمت بطريقة أردنية وكأني أريد أن أقول لها (عفية عليكِ يالنشمية)، لكني كنت أعرف بأنها لن تفهم معنى عبارتي، لأن اللهجة الأردنية المحلية (خاصة لهجة الإربداوية الملتشاوية) لم تدخل حتى الآن قاموس جوجل الأذري، لهذا عبّرت لها عن فرحتي بطريقة الإتيكيت (الملكاوية – العمّانية)، بأن هناك من يتحدث لغتي العربية في أذربيجان، التي تقع في منطقة القوقاز / أوراسيا، وهي على مفترق الطرق بين أوروبا الشرقية وآسيا الغربية.لآله الأذرية ما أجمل اسم هذه الفتاة التي تتكلم العربية، فاسمها (لآلا ... أو لآله) الذي يعني السيدة الشريفة أو السيدة المحترمة باللهجة المغربية. قد عبّرت لي عن سعادتها أيضاً بأن هناك من سيتحدث معها باللغة العربية الفصحى، حتى تستخدم مفرادات بنك المعلومات الذي بحوزتها من اللغة العربية، التي درستها في جامعة باكو الحكومية في أذربيجان. وقد عبّرت لي عن سعادتها كذلك عندما عرفت معنى اسمها باللغة العربية، الذي لم تكن تعرف سوى أنه اسم عربي فقط ولكن دون معناه العميق. ولأني كنت ضيف وكالة التنمية الدولية الأذربيجانية (AIDA) التابعة لوزارة الخارجية، وحضوري كان يومياً في مركز تحليل العلاقات الدولية (AIR Center) في وسط العاصمة (باكو) فقط لمست عن قرب أهمية أن يكون هناك تواصل رئيسي بين الأردن وأذربيجان، حتى نعرف عن قُرب المخاطر والتحديات التي تواجه جمهورية بحجم أذربيجان يصل عدد سكانها إلى حوالي عشرة ملايين نسمة، والأردن الذي يصل عدد الذين يعيشون على أرضه حوالي (10) ملايين إنسان أيضاً بين مواطنين ولاجئين، وأن نبني على القواسم المشتركة بين البلدين والشعبين الشقيقين. كما أن لدينا في الأردن والشرق الأوسط الكثير من الأخطار والتحديات والعقبات التي قد تكون متشابهة رغم أننا نعيش في إقليمين مختلفين، خاصة وأن الأردن وأذربيجان يسعيان نحو ترسيخ الأمن والسلام والاستقرار فيهما، وفي الإقليمين اللذين يعيشان فيهما. حيث سأتحدث لاحقاً بالتفصيل على الطموحات الأذرية والأردنية في بناء وتعزيز السلام، الذي غدا مطلباً حيوياً لبلدين محاطين بالحروب والصراعات والأزمات.الأردن عمقٌ لأذربيجان ... وأذربيجان عمقٌ للأردن ولكن قبل أن أختتم حديثي أود أن أشير إلى أنه باستطاعة الأردن أن يكون عُمقاً لأذربيجان في الشرق الأوسط، وأن تكون أذربيجان عُمقاً للأردن في القوقاز وآسيا الوسطي في مختلف الجوانب الاقتصادية والاستثمارية والتنموية والسياحية والثقافية والتربوية والتعليمية والاجتماعية والشبابية والنسائية والإنسانية وغيرها، في ظل وجود رغبة حقيقية بين بلدين شقيقين للعمل والتعاون معاً من جهة، ومن خلال سفيرين في عمّان وباكو يطمحان إلى أن تجسير شبكات التعاون الثنائي في مختلف المجالات التي تخدم البلدين وشعبيهما. لهذا أعتقد بأن الحماس الذي يحمله سفير أذربيجان في الأردن السيد إيلدار ساليموف والسفير الأردني في أذربيجان السيد سامي عاصم غوشة سيحقق بإذن الله نتائج إيجابية في المستقبل القريب.توأمة الأردن ملتقى الحضارات مع أذربيجان حاضنة السلام وخِتاماً، فإن الأردن الذي يُعتبر ملتقى الحضارات والثقافات العالمية عبر مئات القرون، والذي يعتز بأنه يحمل في مبادئه ودستوره الوسطية والاعتدال والاتزان، وهو الجار القريب للمقدسات الإسلامية والمسيحية، والذي تعطرت أرضه بمرور الأنبياء والرُسل عليهم السلام، والصحابة رضوان الله عليهم، هو الركيزة الأساسية التي تتكئ عليها وِحدِة ثقافة السلام في الشرق الأوسط (التي أتشرّف بترؤسها) كسفير سلام، والتابعة لمؤسسة العالم في أميركا، والذي تراه (أي الأردن) مرشحة نوبل للسلام الأستاذة ندى الدلقموني منارة لثقافة وبناء السلام، ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط وإنما على المستوى العالمي، وبناء جسور السلام مع أذربيجان (حاضنة السلام) الذي شاهدته ولمسته وعشته مع العديد من أبناء شعب أذربيجان، خلال رحلة ناهزت الأسبوعين، بحثاً عن القواسم المشتركة بين شعبي البلدين، التي ستؤسس قريباً لجسور تنطلق من ثقافة وبناء السلام بين الشباب والمرأة والإعلاميين، في مجالات الثقافة والأدب والفنون والسياحة والتراث والتعليم والتكنولوجيا من كلا البلدين.