مدار الساعة -حضور القلب إنَّ الصَّلاة وإن كانت تبدو أنَّها أعمالُ جوارحٍ يقوم البدن بأعمالها، إلَّا أنَّها يجب أن تكون ابتداءً نابعةً من القلب، وأن يقف العبد بين يدي ربِّه بجسده وبقلبه، وأن يكون قلبه حاضراً لكلِّ قولٍ أو فعلٍ، ومدركاً لكلِّ آيةٍ يقرؤها في الصَّلاة، وفاهماً لكلِّ حركةٍ وسكنةٍ فيها.[١] فإذا أراد المسلم أن يصلِّي بخشوعٍ عليه أن يستشعر أنَّه بحاجة خالقه، فيتجلَّى من خشوعه إقراره بربويَّة الخالق وألوهيَّته، والخشوع يكون في القلب، ويظهر أثره على الجوارح، فتكون صلاة العبد كاملةً مقبولةً بإذن الله -تعالى-.[١] استحضار الوقوف بين يدي الله إنَّ ممَّا يعين المسلم على الخشوع في صلاته أن يتذكَّر أنَّه بين يدي خالقٍ عظيمٍ، فبمجرَّد رفع المصلِّي يديه لتكبيرة الإحرام وجب أن يستحضر الخضوع والإذعان والاستلام التامَّ لله -تعالى-، فيترك كلُّ ما يشغل قلبه من أمور الدُّنيا فهو في حضرة الخالق العظيم.[٢]
كما يجب على العبد عند وقوفه للصَّلاة أن يتذكَّر أنَّه لو كان بين رجلٍ ذا شأنٍ في الدُّنيا أو أمام ملكٍ من ملوك الأرض فإنَّه يقف بكلِّ تذلُّلٍ، فكيف تسوِّل له نفسه أن يقف بين ملك الملوك وهو غائب الذِّهن شارد العقل.[٣] الصلاة في أول الوقت إنَّ حرص المصلِّي على إقامة الصَّلاة على أتمِّ وجهٍ وحرصه على المسارعة لأدائها في أوَّل وقتها؛ مُعينٌ له على الخشوع في الصَّلاة والتَّدبُّر فيها؛ لأنَّ الصَّلاة في وقتها علامةٌ على محبَّة العبد لله -تعالى- ومسارعته للقائه والاتِّصال به، في حين أنَّ من يتركها إلى آخر وقتها منشغلاً في دنياه، فلا يدلُّ ذلك إلَّا على غفلةٍ عظيمةٍ، وإنَّ المعجِّل في أداء صلاته لينال بذلك أجوراً عظيمة من أجر الصَّلاة على وقتها، إلى أجر الخشوع فيها.[٤]
تدبر القرآن في الصلاة ممَّا يجلب الخشوع في الصَّلاة ويُعين على ذلك التَّدبُّر العميق لآيات القرآن الكريم؛ من آيات سورة الفاتحة، وآيات السُّور التي تُقرأ بعدها، وذلك عندما يتمعَّن المسلم معنى كلِّ آيةٍ يمرُّ بها، فيمرُّ بآيات الوعيد وآيات الجزاء، وقصص الأنبياء، وآيات تنزيه الخالق، وغيرها، فتترسَّخ في قلبه معاني جليلة وقيم نبيلة. وقد حثَّ الله -تعالى- على وجوب فهم آيات القرآن والتَّدبُّر فيها بعمق في مواضع كثيرة سواءً في الصّلاة أو في خارجها، قال الله -تعالى-: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً).[٥] وممَّا يعين على الخشوع أيضاً أن يحرص المصلِّي إضافة لتدبُّر الآيات أن يحاول جاهداً على ترتيل الآيات وتجويدها، والتَّوقُّف عند كلِّ ما يزيد من الخشوع، كأدائه سجدة التّلاوة وما شابه.
التأني في الصلاة تعدُّ الطَّمأنينة في الصَّلاة شرطاً لصحَّة قبول الصَّلاة، ويراد بها أن يتمهَّل في أدائها، وأن يعطي كلَّ ركنٍ حقَّه، فيقف مطمئناً في وقوفه، ويركع مطمئناً في ركوعه، ويسجد مطمئناً في سجوده، والطَّمأنينة في الصَّلاة و السُّكون والتَّأنِّي فيها سببٌ رئيسيٌ للخشوع في الصَّلاة، بينما العجلة في الصَّلاة تكون سبباً في ذهاب الخشوع وإفساد الصَّلاة، فلا يدري المصلِّي كيف صلَّى، وكم صلَّى، وماذا قرأ فيها.[٦] وقد نهى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بعض أصحابه عندما رآه مسرعاً فيها فطلب منه أن يرجع ليصلِّيها مرَّةً أخرى، كما نهى عن ذلك في قوله: (تِلكَ صَلَاةُ المُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حتَّى إذَا كَانَتْ بيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا)،[٧] فشبَّه المسرع في صلاته كأنَّه ينقرها نقر الدِّيك، ولا يتأنَّى في ذكر الله فيها ويعطيها حقَّها.[٦]
سؤال الله الخشوع في الصلاة إنَّ ممَّا لا يجهله المسلم أنَّ الدُّعاء مشروعٌ للمسلم ليطلب من الله -تعالى- العون في سائر أموره الدُّنيويَّة والأخرويَّة، ومن ذلك يستحبُّ للمسلم أن يلهج إلى الله -تعالى- بالدُّعاء الخالص على أن يعينه على الخشوع في الصَّلاة، وعلى تأديتها بشكلٍ صحيحٍ دون نقصٍ فيها، وأن يثبِّت قلبه على ذلك؛ لأنَّ قلب الإنسان يتقلَّب بين لحظةٍ وأُخرى، وهذا ما يجعله يتشتَّت ويلهو عن صلاته، فإذا دعا بذلك لا بدَّ أن يوقن من الإجابة، فإنّ الله قريب من عباده مجيبٌ لهم.[٨] ترك التحرك والالتفات إذا أراد المصلِّي أن تكون صلاته خاشعةً وجب عليه أن تسكن جوارحه، وأن يُقلِّل من الحركات التي ليست من أصل الصَّلاة، كقضم الأظافر وحكِّ الرأس وما شابه؛ لأنَّ السكون الجسديَّ مدعاةٌ للخشوع،[٩] كما أنَّ كثرة الحركة في الصَّلاة قد تبطلها؛ لأنَّ المصلِّي ابتعد عن مقصد الصَّلاة الأساسيِّ وهو التَّذلُّل بين يدي الخالق.
تذكّر الموت كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يوصي أصحابه إذا أقبلوا على الصَّلاة أن يُؤدُّوها وكأنَّها الصَّلاة الأخيرة، وهذا سببٌ لجعل المصلِّي يزداد في تدبُّره في صلاته وإقباله على خالقه؛ لأنّ شعور المصلّي بدنوّ الموت واليوم الآخر يبثُّ في نفسه الخوف فيصلِّي صلاته وكأنَّه يودِّع الدُّنيا فيها.[١٠] ملخّص المقال: يجب على المصلّي عند أداء صلاته أن يحاول جاهداً ليخشع فيها، ويتحقِّق الخشوع في عدَّة أمورٍ منها: حضور القلب، واستشعار الوقوف بين يدي الله -تعالى-، والحرص على أداء الصَّلوات في أوَّل وقتها، وتدبُّر آيات القرآن وترتيلها. كما يكون الخشوع أيضاً بالتأنّي في الصَّلاة والاطمئنان بها، والدُّعاء الدَّائم وطلب العون من الله -تعالى- على ذلك، والإقلال من التحرُّك في الصُّلاة ما أمكن، وتذكُّر الموت واليوم الآخر، فهذا كلُّه معينٌ على الخشوع في الصَّلاة.