لعلّ أخطر ما وصلنا إليه في الكتاب الجديد، الذي سيُشهره مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية قريباً، هو السمات المجتمعية والثقافية المتعلقة بأنصار فكر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في الأردن ومؤيديه، وهي مؤشّرات تعزّزت في الأعوام الأخيرة 2017-2021 (فترة الدراسة) بعد أن كانت بدأت بالظهور قبل ذلك مع بروز التنظيم منذ العام 2014 قويا يسيطر على مناطق متعدّدة، ويمثل اتجاهاً عالمياً جهادياً جديداً يستقطب عشرات آلاف من الأنصار، ومنهم آلاف الأردنيين.
يطرح كتاب "الجهاديون الأردنيون وانهيار دولة داعش: ديناميكيات التطرّف وسياسات المكافحة"، ألفته مع مدير المركز زيد عيادات، جملة من الأسئلة والتساؤلات المتعلقة بمصير "السلفية الجهادية" الأردنية بعد انهيار الخلافة؛ سواء على صعيد التكيّف الأيديولوجي وتبرير ما حدث وتأثيره أم على الصعيدين الحركي والتنظيمي، أم على صعيد السمات المجتمعية والثقافية، وقد تمكّنا من خلال البحث الاستقصائي المطول (استمر ما يزيد على عام) من الوصول إلى معلومات وبيانات عما يقارب 330 حالة ممن تلقوا أحكاماً في محكمة أمن الدولة، ضمن قضايا الإرهاب والتطرّف. وقمنا بتحليل المعلومات والبيانات المتعلقة بالسنّ والحالة الاجتماعية والعمل والمستوى التعليمي والخلفية الاجتماعية والجغرافية وغيرها من مؤشّرات لاستنطاق السمات والخصائص المجتمعية ومقارنتها بما كنّا قد سجلناه في الكتاب السابق، الذي صدر قبل أربعة أعوام، وتناول الفترة 2011-2017، ووصلنا حينها إلى ما يقارب تحليل 800 حالة ضمن التيار، وبذلك تصبح لدينا قاعدة بيانات غير مسبوقة، تتوفر على كم كبير من البيانات، يصل إلى قرابة 1100 حالة.
لن يخوض هذا المقال في فصول الكتاب بصورة تفصيلية. ولكن من الضروري الإشارة هنا إلى نتائج على درجة من الأهمية؛ منها ما يتعلّق بالانقسامات داخل التنظيم؛ إذ كانت سابقاً تتمحور بين تنظيم داعش وشبكة القاعدة، وكان الجهاديون الأردنيون منقسمين بينهما، بينما اليوم برز اتجاه ثالث على خلفية الاختلافات والشقاقات بين جبهة تحرير الشام و"القاعدة"، فنجد أن هنالك تيارا يؤيد "القاعدة"، وهم السلفية الجهادية التقليدية، وما زال منظّر التيار الجهادي أبو محمد المقدسي ضمنه، ومعه نسبة كبيرة من الجهاديين التقليديين في الأردن، بينما النسبة الكبرى والقضايا الجديدة وجيل الشباب أغلبهم متأثرون بـ"داعش" وفكرها، حتى بعد انهيار دولة التنظيم. أما التيار الجديد، الذي يُطلق عليه بعض أنصاره اسم "الجهادية المعتدلة"، ونلحظ هنا تأثير رياح هيئة تحرير الشام وتحوّلات حركة طالبان عليه، بخاصة الاتجاه نحو المحلية والتراجع عن "المعركة العالمية"، فنجد اسماً بارزاً وكبيراً مثل أبي قتادة الفلسطيني قد انحاز إليه. ومعروف أن خلافات كبيرة وقعت بينه وبين المقدسي، على خلفية دعم المقدسي تنظيم حرّاس الدين، بينما الفلسطيني ينحاز إلى هيئة تحرير الشام.لا نجد أي مراجعات فكرية عميقة ومعلنة في أوساط التيار الداعشي الأردني، الأمر الذي فسّره أحد الشباب القياديين (السابقين) في التيار بطبيعة اللحظة التاريخية التي تضع التيار تحت ضغوط شديدة في البقاء والاستمرار، ما لا يتيح المجال لعقلٍ باردٍ في المراجعة والنقد! مع ذلك، وقفنا على حالات عديدة مهمة من الشباب الذين قرّروا التراجع عن فكر التيار، بعد أعوام من السجن والاعتقال، وانطلقوا في مساراتٍ جديدة، وهي أمورٌ ارتبطت بقناعاتٍ شخصيةٍ، وليس نتيجة برامج "مكافحة الإرهاب والتطرّف"، التي تطبق داخل السجون.يقود ما سبق إلى مؤشّر مهم، وقفنا عليه في الكتاب، أنّ أغلب حالات محكمة أمن الدولة المرتبطة بالجهادية الأردنية كانت ذات طابع فردي، والنسبة الغالبة منها تعرف بـ"قضايا الترويج"، وتضم هذه القضايا، على الأغلب، نسبة كبيرة من الشباب، ممن لم يصلوا إلى التأثر العميق والصلب بأفكار التنظيم، وحوكموا على خلفية تعاطفٍ من خلال التواصل الاجتماعي أو العلاقات الاجتماعية مع أصدقاء، وهو ما طرح إشكاليةً تناولها هذا الكتاب، تتمثل في ما إذا كان الأصوب زجّهم جميعاً في السجون، ضمن المهاجع المخصّصة للجهاديين، ما يسهل على المخضرمين تولي مسؤولية الجدد، بخاصة في مناخات السجون القاسية، وشبّهنا هذه السياسات بخدمة التوصيل Delivery التي نقدّمها للداعشيين، أم أن الأجدى وضع بروتوكول واضح، يفصل فيه مراحل التعامل مع هذه الحالات، وصولاً إلى المرحلة الأخيرة، المحاكمة والسجن. ولعلّ هذه القضية من ضمن التوصيات الرئيسية في الكتاب، أي التمييز بين مرحلة ما قبل السجون وخلال السجون وما بعد السجون، ووضع بروتوكول للتعامل مع كل منها، لأنّ هنالك فجوات هائلة وكبيرة وخطيرة في سياسات المكافحة وخلط بين هذه المراحل.أبرز المؤشّرات الخطيرة من خلال التحليل الإحصائي للقضايا تتمثّل في تكريس النمط العائلي في قضايا الجهاديين، أي تأثير ملحوظ لصلات القرابة (بخاصة ظاهرة الأشقاء والشقيقات الجهاديين)، والبعد الجيلي في العائلة (الأب، الابن والحفيد وهكذا)، ومنها أيضاً الحضور المرعب للأحداث (ما دون الـ18 عاماً) ضمن هذه القضايا، إذ أصبح العدد لافتاً وكبيراً، بل هنالك تنظيماتٌ أصبح يطلق عليها تنظيمات الأحداث. وتحدث الكتاب، بصورة معمقة، عن مفهوم "النادي الاجتماعي" للجهاديين (يلاحظ هنا أن علاقات الصداقة والجوار والقرابة تلعب دوراً كبيراً في التجنيد والتأثير)، كما يطلق عليه سكون أتران، ودفعنا نحو استثمار المفهوم في عملية تصميم جديدة لسياسات مكافحة التطرّف والإرهاب.من بين المؤشّرات الخطيرة أيضاً الحضور الكثيف لطلاب الجامعات في القضايا، وبصورة خاصة طلاب الهندسة، وطبقة المتعلمين والنسبة المحدودة والضئيلة لتأثير عامل البطالة، ومؤشّرات على الحضور الواضح لشريحتي المعلمين وأئمة المساجد. أما اجتماعياً وجغرافياً، فقد بدا أن الحضور في مخيمات اللاجئين (الفلسطينيين) والمناطق المحيطة بها أكثر وضوحاً من المرحلة السابقة.يعجّ الكتاب بالأرقام والمؤشّرات والنتائج والتوصيات، ولعلّ القيمة الحقيقية له أنّه دراسة ميدانية استقصائية، جمع ما بين تجميع البيانات (وكانت عملية مرهقة بسبب عدم تعاون المؤسسات الرسمية بصورة مطلقة) والمقابلات المكثّفة مع أبناء التيار والمحيط بهم، وكذلك مع المعنيين بالموضوع، وهو فضلاً عن قيمتيه العلمية والعملية، يضيف أيضاً إلى "قاعدة البيانات" أرقاماً ومؤشّرات جديدة يمكن أن يفيد منها الباحثون والمتخصّصون.