ثمّة نقاشٌ طريفٌ في الأوساط السياسية الأردنية بشأن المرحلة السياسية المقبلة ينبني على مفارقة أنّ القوانين المقترحة (أقرّها مجلس الأمة) من اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية تقوم على إعطاء الأحزاب السياسية حصة معتبرة في مجالس النواب المقبلة بالتدريج، وصولاً إلى أغلبية حزبية بعد قرابة عشرة أعوام، في حين أنّ هناك شكوكاً كبيرة في مدى قدرة المشهد الحزبي الراهن على تحقيق قدر من التعدّدية القائمة على التنافس الحزبي، في ضوء أنّ هنالك حزباً واحداً قادراً بصورة ملموسة على التنافس الفعّال، وهو جبهة العمل الإسلامي.
التعدّدية والتنافس الحزبي بمثابة مفتاح ذهبي لضمان العبور الآمن إلى المرحلة المقبلة، وفق القراءة الرسمية، ما يضع الأحزاب أمام تحدٍّ كبير في التغلب على نفسها والانتقال إلى مرحلة تشتبك فيها مع الشارع، وتكون قادرة على استقطاب نخبٍ جديدة، بخاصة من جيل الشباب، واختراق قواعد مجتمعية وشعبية واسعة، وهو أمر ليس هيّناً بعد مرحلة طويلة من "الركود الحزبي".عمليات فكّ وتركيب وإعادة هيكلة وتموضع تجتاح المشهد الحزبي اليوم، بخاصة أنّ قانون الأحزاب الجديد يمهلها عاماً لإعادة هيكلة أوضاعها وتغيير علاقتها مع الشارع. وقد بدأت أحزابٌ كثيرة في حوارات تمخضت عن دمج حزبين محسوبين على ما يسمّى التيار الإسلامي الوطني، الوسط وزمزم (أُعلن عن بدء مرحلة جديدة لحزبٍ يشملهما تحت اسم الائتلاف الوطني)، وعلى الطريق تسير أحزاب أخرى، بالإضافة إلى مشروعات حزبية جديدة في طور التشكّل والولادة.بالرغم من هذا الحراك الحزبي الذي يوازيه حراكٌ في الشارع في أوساط الشباب المسيس، إلّا أنّ التساؤلات ما تزال قائمة ومشروعة في مدى إمكانية إحداث اختراق خلال عامين، إلى حين الانتخابات المقبلة، ما يمكّن أحزاباً من التنافس على المقاعدة المطروحة على القائمة الحزبية الوطنية (وتقترب من ثلث مقاعد مجلس النواب). ومن الواضح أنّ هنالك تشكّلات تقع على يمين الوسط السياسي ويساره في محاولة للتجمع وتشكيل أحزابٍ ذات ثقل جماهيري، تستند إلى برامج سياسية - اقتصادية متنافسة.في مقابل الحراك الذي جرى في ساحة "الائتلاف الوطني" (مكوّن من حزبين يقتربان من مفهوم أحزاب ما بعد الإسلام السياسي؛ التي تتموضع حول البرامج الواقعية وتبتعد عن الأيديولوجية الإسلامية التقليدية)، فإنّ الأحزاب والمشروعات الحزبية والشخصيات السياسية، التي تقع في يسار الوسط، أي ذات نزوع يساري غير أيديولوجي، تحاول، هي الأخرى، إيجاد صيغ للتفاهم والتحالف والالتقاء على برامج سياسية وانتخابية في المرحلة المقبلة.في سياق ملء الفراغ، دعا معهد السياسة والمجتمع، بالتعاون مع المنتدى الديمقراطي الاجتماعي، إلى ملتقى يضم شخصيات سياسية ومثقفين وحزبيين وممثلين للتيار يوم الجمعة الماضي لمناقشة مستقبل التيار الديمقراطي الاجتماعي، وكيف يمكن أن يتحوّل إلى قوة حزبية وسياسية مؤثرة في المشهد السياسي.على الرغم من أنّ حجم الشخصيات والقوى التي تؤمن بالفكرة الديمقراطية الاجتماعية كبير، وفرص تحقيق اختراق شعبي كبيرة في ظل المتغيرات الإقليمية وتجربة الإسلام السياسي بعد الربيع العربي، وفي تونس والمغرب أخيرا، إلاّ أن هنالك فراغات ما تزال تشكّل تحدّياً في بناء مسار واضح لهذا التيار، كي يتحول إلى رقم صعب في المشهدين، السياسي والحزبي، وقد بدا واضحاً أنّ هنالك مسافات ضرورية ورئيسية لتحقيق ذلك.إحدى المداخلات المهمة (خلال الملتقى) كانت للكاتب، ومدير مركز القدس للدراسات، عريب الرنتاوي، عندما طالب بتأطير الخطاب الديمقراطي الاجتماعي، وتحويله إلى لغة قريبة من الشارع، وقادرة على الانتقال من المضمون الأيديولوجي النخبوي إلى الثقافة الشعبية ومطالب الناس وهمومهم، وطالب التيار بتحديد "تموضعه" في المشهد السياسي، فيما إذا كان يصنّف نفسه اليوم ضمن أروقة الحكم (مع وجود شخصيات محسوبة عليه في مواقع سياسية) أو المعارضة التي تقدّم بدائل، وفيما إذا كان تياراً متناغماً منسجماً موحداً أم سيستمر كجزر معزولة (الإضافة الأخيرة لي)، بينما طرح الممثل المعروف زهير النوباني سؤال الفن وقدرته على صوغ الرسالة السياسية وغياب ذلك عن عقلية النخبة السياسية.على العموم، بالنظر إلى خطاب التيار الذي يركز على الطبقة الوسطى وتقليص الفجوة الطبقية ومفهوم العدالة الاجتماعية، فإنّ الفرصة كبيرة لإيجاد قدم كبيرة في الساحة السياسية، لكن ذلك يتطلب خريطة طريق واضحة وجدّية تأخذ بالاعتبار الجيل الجديد وثقافته وقدرة الأحزاب والقوى والشخصيات على الخروج من الذاتية إلى المصلحة العامة.