يعود مهندس «مبادرة جنيف» الشهيرة, التي صاغها ووقّعها في العام 2003 اليساري الصهيوني ورئيس حركة ميرتس السابق يوسي بيلين, بالشراكة مع ياسر عبد ربه وزير الإعلام الفلسطيني السابق. مبادرة أثارت في حينه عاصفة من الغضب الشعبي الفلسطيني (دع عنك حكومة شارون وقتذاك, التي «أنجزت» عملية السور الواقي وأعادت احتلال الصفة الغربية)، إضافة إلى «دفنها» اتّفاق أوسلو 1993(شارك بيلين في صياغته)، علماً أنّ الذين وافقوا على المبادرة هم أنفسهم (من الجانب الفلسطيني) الذين وقّعوا «مبادرة جنيف»، ما يُعيد إلى الأذهان «الكمّ» المُتواص? من المبادرات والخطط التي ينهض بها الصهاينة، يعاونهم في ذلك خبراء دوليون متصهينون بلبوس دعاة السلام، هدفهم إنهاء الصراع وفق الرواية الصهيونية، والطمس على الرواية الفلسطينية خصوصاً حق تقرير المصير واستعادة الحقوق.
نقول: يعود إلينا يوسي بيلين الى الأضواء عبر خطّة جديدة تدعو لإقامة «كونفدرالية إسرائيلية فلسطينية»، يستعد بيلين لتقديمها إلى الأمم المتّحدة والإدارة الأميركية هذا الأسبوع..على ما كشفت صحيفة جيروسالم بوست الصهيوينة قبل يومين. وإذ لفت بيلين إلى أنّ خطته تحمل «صبغة شعبية» كون مجموعة «صغيرة» من الإسرائيليين/والفلسطينيين قامت بصياغتها إضافة إليه شخصياً، ومُفاوِضة السلام الفلسطينية السابقة/هبة الحسيني, فإنّه قال: «سيكون من الأسهل التعاون والتنسيق إذا كان الإطار كونفدرالية وليس حلّ الدولتين».
هنا يتمّ أيضاً دفن «حلّ الدولتين» ليس لأنّه حلّ مثالي، بقدر ما يعكس الرفض الصهيوني المطلق (يساره واليمين) لمجرد بروز كيان فلسطيني مستقل على أي جزء من أرض فلسطين التاريخية, بافتراض حصوله على دعم شعبي فلسطيني، خاصة أنّه/حلّ الدولتين لا يضمن حلّ مشكلة اللاجئين/حقّ العودة والقدس وغيرها من الملفات التي تمّ ترحيلها/وِفق أوسلو تحت مسمّى «الحل النهائي» بعد خضوعها للمساومة كالمستوطنات, اللاجئين, القدس, الحدود والمياه.
مبرّر خطة بيلين الجديدة هو أنّ «عملية السلام» تمّ تجميدها، وأنّ إدارة بايدن امتنعت عن بدء المحادثات، ورئيس الحكومة الحالية/بينيت يُعلن باستمرار أنّه «لا يدعم قيام دولة فلسطينية».. ويضيف بيلين للصحيفة الصهيونية/جيروسالم بوست:"لدينا رئيس وزراء لا يُؤمن بحلّ الدولتين ولا يُؤمن بالتقسيم»، مُضيفاً:أنّه يأمل أن تؤديَ الخطة إلى نقاش دولي حول قرارات للصراع, كاشفاً أنّ خطته استغرقت عامين لإنجازها).أي بدأ العمل عليها قبل وصول ائتلاف بينيت إلى السلطة، وهنا نضع أكثر من علامة سؤال عن المبررات/والتوقيت، خاصة أنّ نتنياهو?هو الذي كان يقود الحكومة عند بدء بيلين وهبة الإعداد لخطتهما، وكان على رأس جدول أعمال نتنياهو ضمّ 30% من الضفة الغربية على ما «أجاز له» ترمب.
وإذ يذهب بيلين قدماً في استلهام نماذج أوروبية «نجحت في الربط بين دولتين قوميّتين عِرقيتين»، فإنّه في خطته العتيدة هذه يتحدث عن «دولة إسرائيلية وفلسطينية»، ستحافظ كل «أمة» على دولتها الفردية, و"لكنّها"ستعمل تحت طبقة إضافية من البنية التحتية «التعاونية» التي من شأنها أن تربط الشعبين معاً «بدلاً..من السعي إلى تقسيمهما»..
وعلى نحو غير مفاجئ، يأخذنا بيلين إلى «جوهر» المشروع الصهيوني/الاستيطاني, عندما يطرح «خيار» بقاء المستوطنين اليهود في الضفة الغربية, وإن كان يُجمِّل ذلك بالقول: أن تكون صفتهم كمقيمين وليس كمواطنين داخل الحدود النهائية للدولة الفلسطينية, مقابل (وهنا فخّ آخر)..مقابل منح عدد متساوٍ من الفلسطينيين للإقامة داخل إسرائيل. وبذلك يتمّ الطمس نهائياً على مسألة اللاجئين/حق العودة.
وكي لا يثر غضب أو تساؤلات أو احتجاجات على (خيار) كهذا, فإنّه يلجأ للحيلة الصهيونية المعروفة مبرراً للقول: إنّ أحد التحديات الرئيسية التي يواجهها أي زعيم إسرائيلي «يسعى» للتوصل إلى اتّفاق مع الفلسطينيين, هو مسألة «اقتلاع المستوطنات»..لافتاً أو قل مُروِّجاً لاقتراحه, أنّه بموجب هذه الخطة «لن يضطر صانع القرار الإسرائيلي المستقبلي إلى التعامل مع إخلاء أي إسرائيلي «فردي» من الأراضي,كاشفاً أنّه «في كلتا الحالتين لن تكون الإقامة مساراً للحصول على «الجنسية»، مُؤكداً أنّ الخيار «ليس» مُرتبطاً بمسألة حق العودة للاجئ?ن الفلسطينيين..
لا يُغادر بيلين إطار «مبادرة جنيف» العزيزة على قلبه/وقلب ياسر عبد ربه الذي اختفى من المشهد عندما يصف خطته الجديدة, بانّها «بناء لطابق آخر في مبادرة جنيف»، وأنّ اتباع حل الدولتين «أخطأوا» في أعقاب فشل مفاوضات أوسلو، بالتركيز على الحاجة إلى الفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين. مُوضحاً أنّ الفصل الكامل هو «حل غير جذّاب للغاية».. للصراع.
في السطر الأخير..من المفيد العودة إلى تفاصيل خطة بيلين, الذي لا يتردّد في القول: أنّ ما دفعه –جزئياً- إلى طرح حل النزاع, إنّما الرغبة في «ضمان» أنّ تظلّ إسرائيل دولة يهودية ديمقراطية, وأنّ (القصة) الديمغرافية تطرق بابنا طوال الوقت. مُواصِلاً الرهان على لعبة شراء الوقت بقوله: إنّ إسرائيل ستتخذ إجراءات لحلّ النزاع، عندما يكون هناك زعيم إسرائيلي «يفهم أننا على وشك أن تصبح أقليّة يهودية تحكم أغلبية فلسطينية».
فـَ«تأمّلوا».
kharroub@jpf.com.jo
الرأي