مدار الساعة - لا يكاد عام ينقضي إلا وتتداول وسائل الإعلام الأخبار عن "حفل أسطوري" لممثلة على رجل أعمال ثري، أو لمطربة على ثري عربي فرش لها الحرير تتمخطر فوقه بنعلين من لؤلؤ.
وقت تنظيم هذه الفعاليات تتسابق وسائل الإعلام في الحديث عن ثوب العروس المستورد من الخارج، وكمّ اللآلئ التي حُليت بها طرحة الزفاف، وعدد الأدوار المتلاحقة للتورتة حتى كادت أن تصبح ناطحة سحاب من إسفنج.
عادة لا تبهرني تلك الفعاليات مهما كانت باهظة التكاليف. لا أحاول ادّعاء الزهد هنا، ولكنه يبدو أنها صفة تستحقُّ أن تُلازم كل مهتمٍّ بالتاريخ، فكل حدثٍ كبير حدثَ أكبر منه بأضعاف مضاعفة، و"حفلات الزفاف الأسطورية" ليست استثناء من كل هذا.
فلقد شهد التاريخ الإسلامي عدداً من حفلات الزفاف الأسطورية -كما يقول الكتاب- والتي تجاوز حجم الإنفاق فيها حدود الخيال بشكلٍ يجعل حفلات ذلك العصر تبدو شديدة التواضع حال المقارنة بها.
لكن يبقى حفل زفاف الخليفة العباسي الشهير "المأمون بن الرشيد" على "بوران" ابنة وزيره الفضل بن سهل عام 209هـ الحدث الأبرز، ربما في التاريخ الإسلامي بأسره، فـ"ليس في تاريخ العرب زفاف أنفق عليه مثل هذا الزفاف"، والذي كان مضرباً للأمثال ليس بين أهل المشرق العربي فقط وإنما في الأندلس أيضاً، فكلما نظموا فعالية كبرى وصفوها بأنها "أضخم من زفاف المأمون وبوران".
دعوة الزفاف الأسطوري
العريس، فهو غني عن التعريف المأمون بن هارون الرشيد الذي تولّى الخلافة بعد عقب صراع مرير مع أخيه الأمين انقسمت فيه الدولة إلى فسطاطين كبيرين.
أما العروس، فبحسب كتاب نزهة الجلساء في أشعار النساء" لجلال السيوطي، فإن اسمها الحقيقي "خديجة"، لكنها اشتهرت بـ"بوران" وهو لقب فارسي عُرفت به. وُلدت يوم الإثنين سنة 192هـ، وماتت في بغداد يوم الثلاثاء سنة 271هـ.
بحسب وصف ياسمين الخطيب لها في كتاب "الروضة الفيحاء في أعلام النساء"، كانت بوران "بارعة في الحسن، صاحبة عقل وكمال وعفة، فبلغ خبرها المأمون فخطبها من أبيها".
والدها هو الوزير الحسن بن سهل، الذي ينحدر من أصول فارسية، ووُصف بأنه كان من "أهل الرئاسة في المجوس". منذ عهد هارون الرشيد عرّف البرامكة الخليفة وولي عهد المأمون على الأخوين الفضل والحسن، اللذين تولّيا وزارة المأمون على الترتيب.
تفاصيل الحفل
قامت علاقة المأمون وبوران على لُغز تاريخي لم أجد له تفسيراً، وهو أن المأمون خطب بوران عام 202هـ وهي ابنة عشر سنين ثم قرّر الزواج بها بعد 8 سنين كاملة، فلماذا انتظر كل هذه المدة؟
لم أجد إجابة قاطعة في أي كتاب صادفته، لكن أغلب الظن أن المأمون انشغل بشدة في الفتن التي أحاطت عرشه من كل جانب فور توليه الحُكم، ولم يشأ القيام بهذه الزيجة إلا بعد استتباب كافة الأمور له كخير إعلان أنه قبض على أركان دولته أخيراً وهو ما سيُتيح له العودة للانشغال بأموره الحياتية مُجدداً.
المهم، قرّر المأمون الزواج بابنة وزيره في 209هـ. يقول أحمد القلقشندي في كتابه "مآثر الإنافة في معالم الخلافة"، إن المأمون حين وفد على وزيره الحسن للقاء عروسه أنزلهم 40 يوماً في "فم الصلح" (مدينة تقع على نهر دجلة اتّخذ فيها الحسن قصراً لإقامته)، وكان بصحبة المأمون جيش كامل من العسكر والقواد والندماء والمغنين والشعراء والعلماء والقضاة وكبار البيت العباسي، بخلاف جيش آخر من الجمالين والمكارين والحمالين والفلاحين والفراشين، وهو ما تطلّب استعدادات هائلة لاستضافة كل هؤلاء.
ويضيف القلقشندي: احتُفل بما لم ير مثله نفاسة، منها ما جرى في الليلة الختامية حينما سارت بوران إلى المأمون فوق حصيرٍ من ذهب، وبيدها طبق من مجوهرات راحت تنثر منها على النساء الحاضرات. ويُروى عن المأمون أنه لما رأى هذا المشهد استحضر بيتاً للشاعر أبي نواس قال فيه: (كأن صغرى وكبرى من فواقعها… حصباء در على أرض من الذهب).
أيضاً خلال الاحتفال، أعدّت شمعة من عنبر زنة 200 رطل أحالت الليل إلى نهارٍ تابع خلاله كبار قادة الدولة فعاليات الاحتفال. جوائز القادة الحضور كانت أثمن من الجواهر بكثير بعدما كتب الحسن بن سهل أسماء بعض ضياعه على رقاع ثم نثرها على الجالسين بلا ترتيب. مثّلت كل رقعة عقد تخصيص للضيعة للقائد كهدية زفاف.
ويضيف ابن العماد الحنبلي في كتابه "شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب": كان عُرساً لم يُسمع بمثله في الدنيا، استعان فيه أبوها بالجيش بأسره لأيامٍ طوال، ولما قرّر المأمون الدخول على زوجته في الليلة الثالثة من الاحتفالات نثرت جدتها ألف درة على الناس، ثم أُلبست بوران "البدنة الأموية" لحظة رؤية المأمون لها.
هذه البدنة هي قميص مُطرز من الأمام ومن الخلف بالياقوت، بخلاف قيمته المادية الكبيرة نُظر له كـ"عمامة السُلطة" لكن بين النساء، فصاحبة البدنة من زوجات الخليفة هي وحدها "الملكة الأم" صاحبة النفوذ والسُلطة، منحته خيزران زوجة المنصور لزبيدة حين تزوجها هارون الرشيد، قبل أن تمنحها زبيدة لاحقاً لبوران خلال عُرسها على المأمون كإشارة لمكانتها المرتقبة في البلاط العباسي.
ويتابع القلقشندي أن السهل خصّص قرابة 4 آلاف ألف دينار (4 ملايين دينار) للإنفاق على وليمة هذا الحفل، وهو ما بّرره الوزير للمأمون لاحقاً بقوله "والله ما هو إلا مالك رد إليك وأردت أن يفضل الله أيامك ونكاحك كما فضلك على جميع خلقه"، وهو ما كافأه عليه المأمون بمنحه خراج فارس والأهواز لمدة سنة.
المفارقة الكبرى أنه بعد هذا العُرس الأسطوري لم يتمكن المأمون من الدخول على زوجته، فما أن اختلى بها حتى قالت له "أتى أمر الله فلا تستعجلوه"، ففهم أنها تمرُّ بعرَض فسيولوجي لا يُمكّنه من الاقتراب منها، فارتدَّ عنها.
التحليل السياسي
بالطبع لا يُمكن نزع هذه الزيجة التاريخية من سياقها الاجتماعي الذي جرت فيه. فعام الخطبة (202هـ) تحديداً شهد على حدث تاريخي ربما كان يغيّر من تاريخ أمة الإسلام لو استمرّ وهو تعيين الإمام العلوي علي الرضا ولياً لعهده، هذا القرار الذي مثّل لحظة نادرة من الالتئام العباسي العلوي بعد سنواتٍ طوال من التشظّي والاقتتال.
تجسّد هذا الالتحام العباسي/ العلوي في أن خطبة المأمون بابنة الحسن، ترافقت مع زيجتين أخريين أقل شهرة، وهما: زواج علي الرضا وولده محمد من ابنتي المأمون؛ أم حبيب وأم الفضل، على الترتيب، حسبما ذكر ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية".
وفي هذا العام أيضاً قتلت جماعة من جنود المأمون مستشاره الشهير الفضل بن سهل بعدما استفحل أمره وقويت شوكته.
يقول ابن العمراني في كتابه "الإنباء في تاريخ الخلفاء": أراد المأمون أن يدفع عن نفسه هذه التهمة لئلا ينسب إلى قلة الحفاظ وسوء العهد فقلد أخاه الحسن بن سهل الوزارة بعده.
تعامل المأمون مع قوة آل سهل بمنطقٍ معقّد قتل رأسهم المدبّر ثم عيّن أخاه -الأكثر ضعفاً والأقل خطورة- الحسن بن سهل بدلاً منه ثم تزوّج بابنة الحسن، وبهذه الطريقة يضمن الحُسنيين؛ التخلّص من تهديد آل سهل وعدم خسارتهم تماماً لما لهم من ثقل كبير على الدولة.
بهذه الزيجة سعَى المأمون لتدعيم نفسه في قتاله ضد أهله العباسيين، والذين دخل في حربٍ معهم بسبب قرار منح ولاية العهد للعلويين، وهو الأمر الذي تمرّد عليه العباسيون فأعلنوا خلع المأمون وتعيين عمه إبراهيم بن المهدي بدلاً منه، ولولا جهود الحسن بن سهل القتالية في التصدّي لتلك الحركة لأُزيح المأمون من عرشه.
وكان من اللافت أن إبراهيم بن المهدي الذي اعتُقل عقب فشل حركته لم يخرج من سجنه إلا عقب تشفع العروس بوران نفسها عند زوجها خلال حفل الزفاف، كمقترح لاعتبار أن زواجهما بداية جديدة للمِّ الشمل بعد فترة مخيفة من التفتت العباسي.
ما بعد الزواج
بعد هذه الزيجة لا نعلم الكثير عن حياتهما؛ حكى ابن العمراني في كتابه "الإنباء في تاريخ الخلفاء"، أن المعتصم بالله الذي تولّى الحُكم بعد المأمون كان يحب الجلوس على سريرٍ بقي من جهاز بوران حتى وضعه في صدر إيوانه في دار الخلافة.
في وصف السرير البوراني قال ابن العمراني، إنه صُنع من الذهب ورُصِّع بالجواهر وحُفرت عليه صورة للعنقاء.
كما كشف المقريزي في كتابه "اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء"، إن حصيرة ذهبية تزن 18 رطلاً من التي بُسطت تحت قدمي بوران في طريقها للمأمون ظلَّ الخلفاء العباسيون يتناقلونها فيما بينهم ضمن باقي النفائس التي ملأت خزائنهم حتى نهبها جنود الجيش في عهد الخليفة العباسي المستنصر بالله خلال تمردٍ احتجاجاً على تأخر رواتبهم.
ظلّت بوران في صحبة المأمون تعيش حياة رغدة، حتى مات، فرثته قائلة؛ (أسعداني على البكا مقلتيا… صرت بعد الإمام للهم فيا.. كنت أسطو على الزمان فلما… مات صار الزمان يسطو عليا)، قبل أن تلحق به عام 271هـ عن عُمرٍ ناهز الـ80 عاماً.
ولم يتبقّ من أثرها إلا أصداء حفل زفافها الشهي وأكلة سورية من اللحم واللبن تُعرف حتى اليوم بـ"البورانية" نسبةً لزوجة المأمون.
مصادر إضافية
كتاب بغية الطلب فى تاريخ حلب، ابن العديم، الجزء الخامس، ص 385.
كتاب قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر، الطيب بامخرمة، الجزء الثاني، ص 596.
كتاب حياة الحيوان الكبرى، الدميري، الجزء الأول، ص 336.
عربي بوست