مدار الساعة - الصراع بين بريطانيا وفرنسا تصاعد خلال العام الحالي، سواء بسبب أزمة اختراق السفن للمياه الإقليمية أو جراء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لكن تبادل التصريحات شديدة النبرة ليس أول صراع بين كبرى دول القارة العجوز، إذ يأتي الصراع الحالي وسط صراع أعقد وأعمق ممتد عبر التاريخ لتحقيق النفوذ.
الصراع الحالي جاء وسط خلاف شديد بين البلدين على حق الدخول لمناطق الصيد بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، وتزايد مع قرار احتجاز فرنسا سفينة صيد بريطانية دخلت مياهها الإقليمية دون ترخيص، وإصدارها تحذيرات شفهية لسفينة أخرى، في أكتوبر/تشرين الأول 2020.
لكن بريطانيا وفرنسا صاحبتا الماضي الاستعماري، كانتا دائماً متنافستين لبسط النفوذ على أكبر رقعة من الأراضي والمياه، واندلعت حروب مريرة بينهما عُرفت باسم "الحروب الأنجلو- فرنسية"، بعضها امتد لـ100 عام، كما شهد البلدان توترات متكررة لم تهدأ سوى القرن الماضي فقط.
الصراع بين بريطانيا وفرنسا.. نظرة على "حرب المئة عام"
تمثل هذه الحرب التي دارت بين فرنسا وبريطانيا واحداً من أطول الصراعات التي حدثت عبر التاريخ، وقد استمرت لفترات متقطعة من الحرب والسلم على مدار 116 عاماً، وذلك منذ العام 1337 وحتى العام 1453.
اندلعت هذه الحرب نتيجة توترات تراكمية بين البلدين، يمكن إرجاعها في الأساس إلى القرن الحادي عشر، عقب الغزو النورماندي – الفرنسي لإنجلترا واحتلالها بعد حرب هاستنجز عام 1066 التي انتهت بهزيمة هارولد الثاني ملك إنجلترا على يد ويليام الفاتح، دوق نورماندي، ليصبح النورمان حكام لإنجلترا، كما أفردت موسوعة Britannica الشرح.
النورمانديون الذين جاؤوا من نورماندي في شمال فرنسا هم في الأصل جماعة من "الفايكنغ" أتوا إلى فرنسا في القرن العاشر واستقروا بها واندمجوا في المجتمع الفرنسي في العصور الوسطى، بعد أن تخلوا عن الوثنية، واعتنقوا المسيحية، كما شرح موقع History on the Net المهتم بالمواضيع التاريخية.
نتيجة لذلك، أصبح تاج إنجلترا تحت يد سلسلة من النبلاء الذين يمتلكون بالفعل أراضي في فرنسا، وأصبح هناك نوع من أنواع التبعية لفرنسا، لكن مع مرور الزمن بدأ صراع ينشأ بين المملكتين على ملكية الأراضي والسيادة في القرار السياسي في إنجلترا.
إذ كانت فرنسا في النصف الأول من القرن الرابع عشر أغنى وأكبر مملكة في أوروبا الغربية وأكثرها اكتظاظاً بالسكان، فيما كانت إنجلترا من أفضل الدول الأوروبية الغربية تنظيماً والأكثر احتمالاً لمنافسة فرنسا، كما أشارت موسوعة Military History.
ثم في منتصف العام 1337 أعلن ملك إنجلترا إدوارد الثالث الحرب على فرنسا، ورغب أن يضم فرنسا بكاملها إلى مُلكه بعد مصادرة الملك الفرنسي فيليب السادس لدوقية غوين في جنوب غرب فرنسا (تعرف حالياً باسم بوردو)، التي كانت تحت سيطرة الإنجليز مستفيدين منها كمركز للشحن، والتجارة، والحبوب، ومنتجات الألبان، والأصباغ، والملح.
كل من المملكتين أرادت السيطرة على السوق المزدهرة للمدن الصناعية والطرق التجارية، ومثل اليوم كان هناك صراع مرير بين البحارة والصيادين الإنجليز والفرنسيين للسيطرة على القناة الإنجليزية، والسواحل الفرنسية.
خلال هذا القرن، قسمت الحرب إلى ثلاثة أقسام الحرب الإدواردية (1337- 1360)، وحرب كارولين (1369- 1389)، والحرب اللانشاسترية (1415- 1453)، وشرحتها باستفاضة موسوعة Historic البريطانية.
في العام 1453، دارت معركة كاستيون، التي انتهت بالفوز الفرنسي، وسقوط مدينة بوردو وغوين في أيديهم؛ لتنتهي حرب الـ100 عام بخسارة الإنجليز لكل غنائمهم في فرنسا باستثناء مدينة كاليه، التي استعادها الفرنسيون في العام 1558، بعدها؛ دخلت إنجلترا في حرب أهلية.
أيضاً، خلَّفت هذه الحرب أضراراً كبيرة استمرت آثارها لسنوات، حيث تلفت أراضٍ ومحاصيل كاملة، كما انتشرت الجريمة والأمراض المعدية وكان الطاعون على رأسها، ولكنها كانت نقطة محورية مهدت لنشأة فرنسا وبريطانيا الحديثة.
انتصارات الفرنسيين في حرب التسع سنوات
قاد لويس الرابع عشر، ملك فرنسا، حرب التسع سنوات أو حرب التحالف الكبير أو حرب عصبة أوغسبورغ (1688-1697)، عندما قرر غزو منطقة راينلاند "ألمانيا حالياً"، لضمها إلى فرنسا بالتوازي مع دعمه لثورة "اليعاقبة" في أيرلندا ضد ويليام الثالث ملك إنجلترا، وذلك بهدف تنحيته عن العرش، وتعيين حليف الفرنسيين جيمس الثاني مكانه.
نتيجةً لذلك، وخوفاً من ضم القوة الفرنسية العظمى للمزيد من الأراضي والممالك الأوروبية، والسيطرة على أغلب الطرق البحرية، تحالفت إنجلترا مع هولندا وإسبانيا والنمسا وعدد من الولايات الألمانية لمجابهة الفرنسيين، كما أشار قاموس Oxford البريطاني.
استطاع الفرنسيون تحقيق سلسلة انتصارات ضد التحالف من جهة، فيما حاول التحالف محاصرة فرنسا اقتصادياً من جهة أخرى، حتى انتهت الحرب بتوقيع معاهدة "رايسويك" التي صبَّت في مصلحة إنجلترا، وجاء فيها تعهُّد الملك الفرنسي بعدم مساعدة أي من أعداء الملك الإنجليزي، والتخلي عما استولى عليه مؤخراً من هولندا الإسبانية.
ثم جاءت حرب السنوات السبع.. حرب عالمية حُسمت لصالح البريطانيين
بعد ذلك؛ أعلنت إنجلترا الحرب على فرنسا، وقامت حرب السنوات السبع (1756-1763) المعروفة باسم "الحرب الفرنسية-الهندية"، ولأن القتال والمناوشات بين إنجلترا وفرنسا استمرت لسنوات ووصلت إلى أمريكا الشمالية، وأصبحت هذه الحرب حرباً ممتدة عبر القارات، حتى إن ونستون تشرشل رئيس وزراء المملكة المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية، وصفها لاحقاً بأنها كانت "الحرب العالمية الأولى".
شملت الحرب نزاعَين؛ أولهما الصراع البحري والاستعماري بين بريطانيا وأعدائها من العائلة البوربونية الحاكمة في فرنسا وإسبانيا حول مستعمرات العالم الجديد في أمريكا وكذلك في الهند، أما الصراع الثاني فكان بين بروسيا وفرنسا وروسيا والنمسا وبريطانيا والسويد، كما أشار موقع History.
هنا؛ تحالف الفرنسيون مع الأمريكيين الأصليين، بينما تحالف الإنجليز مع السكان الجدد كما اقترضوا أموالاً هائلة لدعم حربهم في القارة الجديدة، واندلعت معارك كبيرة، وبحلول العام 1760، استطاع الإنجليز حسم المعركة وطرد الفرنسيين من أمريكا، كما هُزمت فرنسا في الهند أيضاً.
في 10 فبراير/شباط من العام 1763، وقّعت المملكة المتحدة وفرنسا وإسبانيا معاهدة باريس، التي شكلت نهاية حرب السنوات السبع، وبموجبها فقدت فرنسا العديد من المستعمرات لصالح البريطانيين، بما في ذلك كندا وفلوريدا الغربية في أمريكا الشمالية، بينما حصلت إسبانيا على مقاطعة لويزيانا الفرنسية، فيما وافق جميع حلفاء فرنسا في أوروبا على سلامٍ منفصلٍ مع بروسيا.
وقد غيرت هذه الحرب ميزان القوى بين المتحاربين في أوروبا، فقد خرجت بريطانيا العظمى من الحرب قوة عالمية، بينما أصبحت بروسيا وروسيا قوتين رئيسيتين في أوروبا. في المقابل، تقلص تأثير فرنسا والنمسا وإسبانيا بشكل كبير، وفي هذا الوقت كانت فرنسا على موعد مع الثورة الفرنسية.
حرب أخرى ضمن حرب الاستقلال الأمريكية
أدت حرب السنوات السبع، أو الحرب الفرنسية والهندية، وهو الاسم الأمريكي الذي يُطلق على المواجهة بين الفرنسيين والبريطانيين، إلى فرض ضرائب جديدة على سكان المُستعمرات، وهو الأمر الذي لم يكن مقبولاً شعبياً.
وبينما كانت لندن تُعاني من ضائقة مالية اضطرتها إلى فرض ضرائب قاسية على المستعمرات (خاصةً قانون الطوابع لعام 1765، وقانون الشاي لعام 1773) ما جعلها تدخل أزمة أخرى مع احتجاجات العديد من سكان المُستعمرات، وقد وجهت هذه الاحتجاجات بقمع وقسوة، حتى اندلعت الثورة الأمريكية.
كانت فرنسا تساعد المتمردين سراً منذ العام 1776، ثم دخلت في الحرب علانية إلى الجانب الأمريكي، رغم أنها لم تعلن الحرب على بريطانيا العظمى رسمياً حتى يونيو/حزيران 1778، وهنا تحولت الثورة الأمريكية، التي بدأت كنزاع بين بريطانيا ومستعمراتها، إلى حرب عالمية.
وفي 8 يوليو/تموز، وصل أسطول فرنسي قبالة ساحل المحيط الأطلسي، استعداداً لخوض معركة مع البريطانيين، وقدم جيشها دعماً للأمريكيين في مدينة يوركتاون بحوالي 14000 جندي، في حين منع أسطول من 36 سفينة حربية فرنسية في الخارج التعزيز أو الإجلاء البريطاني.
كانت معركة أو حصار يوركتاون بالعام 1781، إحدى المعارك الحاسمة في حرب الاستقلال الأمريكية، حيث حاصرت القوات الأمريكية الجيش البريطاني، وانضمت إليها الإمدادات الفرنسية البرية والبحرية التي وصلت لمساعدة الأمريكيين ضد الإنجليز، فأحكموا الحصار، ما اضطر البريطانيين للاستسلام.
بعدها، وقّع المفاوضون البريطانيون والأمريكيون في باريس اتفاقية سلام أولية، في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 1782، ثم اعترفت بريطانيا العظمى رسمياً باستقلال الولايات المتحدة في "معاهدة باريس" في 3 سبتمبر/أيلول 1783، ومن جهة أخرى، وقَّعت بريطانيا معاهدات سلام منفصلة مع فرنسا وإسبانيا، ما أدى إلى إنهاء الثورة الأمريكية بعد 8 سنوات طويلة.
فرنسا وبريطانيا في الحروب النابليونية
في فترة الحروب النابليونية التي دارت في أوروبا (1803-1815)، وجه نابليون جيشه بتحالفٍ مع إسبانيا إلى غزو الجزر البريطانية، ليسارع الإنجليز لتشكيل تحالف قاري ضده يتكون من النمسا وروسيا والسويد ونابولي، ولكن سرعان ما بدأت الثورات تظهر في فرنسا، كما انحل الوفاق بين روسيا وبريطانيا.
فكر نابليون بمحاصرة إنجلترا عبر خنق الاقتصاد البريطاني، من خلال إغلاق أوروبا بالكامل أمام البضائع البريطانية، وأمر بالفعل بمصادرة جميع البضائع القادمة من المصانع الإنجليزية أو من المستعمرات البريطانية، ولكن التمرُّدات ضد نابليون في فرنسا وإسبانيا والبرتغال أدت إلى إضعاف حصاره، ثم عملت بريطانيا على دعم أي حركة تمرد أو دولة أوروبية تحارب فرنسا.
بحلول العام 1815، لعب الجيش البريطاني الدور المركزي في الهزيمة النهائية لنابليون في معركة "واترلو" قرب بروكسل عاصمة بلجيكا، وكانت هذه آخر معارك الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، حيث هُزِم هزيمة غير متوقعة وفر بعدها إلى منفاه في جزيرة سانت هيلانة، وتم توقيع "معاهدة باريس الثانية" التي أجبرت فرنسا على دفع تعويضات للدول المتحاربة.
ثم التحالف بعد تراجع القوى العظمى
بعد قرون وتاريخ طويل من العداء بين كبرى الممالك الأوروبية، خفت حدة هذا العداء مع بداية القرن العشرين، بعد توقيع "الاتفاق الودي" عام 1904، والذي جرت بموجبه تسوية عدد من النزاعات الاستعمارية بين الطرفين، والذي يعتبر الممهد للاتفاقيات التي قسمت العالم بينهما.
ثم تعاون البلدان عسكرياً خلال الحربين العالميتين في إطار قوات التحالف، لكن تراجعت قوتهما في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لصالح الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ليجدا نفسيهما ملزمين للانضمام للمعسكر الغربي في الحرب الباردة.
وقد توثّق التعاون بينهما على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية وفق إطار جماعي أجبرهما على العمل سوياً في حلف الناتو، والاتحاد الأوروبي.