مدار الساعة - نوف الور - يحمل العراق بروحه لكل من يلتقي به، مثل كل أبناء الرافدين، فلا يكل في حديثه الشيق عن وطنه، رغم كل ما عاناه وما زال يعانيه، وهو ايضا ليس ضيفا على الاردن، ولا زائرا عابرا، بل غدا اليوم المسؤول عن ابناء الجالية العراقية في الاردن الذين يقارب عددهم الـ 200 الف نسمة بعد مثابرة سنين طوال.
الدكتور محمد البلداوي من مواليد بغداد لكنه يتحدث اليوم عن عمان كما لو كان يتحدث عن وطنه ايضا، بكثير من الخير المكلل بالعرفان لكل مواقف المملكة الاردنية الهاشمية تجاه العراق، وشاكرا هذه المواقف الحكيمة بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، الذي اكمل مسيرة متجذرة وراسخة من العلاقات المميزة بين الاردن والعراق، وها هما اليوم دولتان فاقتا المئوية من عمر تأسيسهما.
البلداوي والذي يحمل للبيت الاردني مكانا مميزا في قلبه، يشعر اليوم وكثير من العراقيين المقيمين على ارض المملكة بأن هذا الوطن الذي يحتضنهم هو جزء من الفؤاد، منحهم الاستقرار والامان ومنحوه بدورهم العطاء والعرفان، وبادلوه المحبة بالمحبة.
البلداوي خص الدستور بحوار تاليا نصه:
** الدستور: من هو الدكتور محمد البلداوي؟ .
- البلداوي: أنا ككثيرين احبوا وطنهم، فرغبوا بأن يكونوا جزءا من صورته بين الشعوب والاوطان، احمل شهادة الدكتوراه في التصميم الداخلي عام 2001، وعملت في الحقل الأكاديمي سنوات طوال وتكلفت بعدة مناصب إدارية في العمل الجامعي ما بين عميد ونائب عميد ورئيس قسم وأشرفتُ على العديد من رسائل الماجستير وناقشتُ الكثير منها بصحبة زملائي ذوي التخصص وترأستُ عدة لجان وأشرفت على مشاريع التخرج منذ 2002 وحتى الآن.
عملتُ في القطاع الخاص بمعية والدي رحمه الله الذي كان من أوائل الصناعيين الذين أسسوا لصناعة الألمنيوم وإنتاجها في سبعينيات القرن الماضي.
مثلتُ الجالية العراقية لسنوات طوال منذ كنت طالبا في جامعة اليرموك في مطلع التسعينيات حتى كلفت بتمثيلها رسميا في الاردن بعد احداث عام 2003 بسبب وجود الافواج العراقية الكبيرة التي جاءت للاقامة في عمان، وكذلك مثلت وزارة الهجرة والمهجرين لتسهيل خطوات الراغبين بالعودة إلى أرض الوطن وشغلتُ من المكانة اعتز بها بين المجتمعين العراقي والأردني وعشائره ونخبه حتى وفقنا الله بأن رشحنا من ضمن المرشحين بوزارة الخارجية العراقية كسفراء لبلدانهم.
الدستور: وانت تشغل منصبك الحالي.. كيف تقرأ العلاقات بين الاردن والعراق على المستوى الرسمي والشعبي؟ وكيف ترى خريطة المستقبل؟
- البلداوي: إن للعلاقة الفريدة والتي يقودها جلالة الملك عبدالله الثاني اليوم بين البلدين جذور تمتد إلى تاريخ طويل منذ تأسيس الدولة العراقية وإمارة شرق الأردن آنذاك حيث كانت العلاقة بين أصحاب الأمر والانتقال العشائري وما تخلله من تبادل تجاري واقتصادي امتد وتفعّل بعد ذلك إلى تأسيس الدولة العراقية والتآخي بين الدولتين التي باركها ملوك البلاد رحمهم الله وامتد ذلك إلى نهاية الخمسينيات حيث التغيرات السياسية والجغرافية وهذا لم يتوقف حيث أعيدت الحياة كما مدون في كتب التاريخ والذين وثقوا تلك المراحل.
إن العلاقة مستمرة ولا تزال إلى أن تكللت بأن يصبح الشعب واحدا والمشاعر والإخوة والتآخي والتصاهر والتشارك في الحياة الاجتماعية والعملية.
إن مواقف المملكة الأردنية عروبية ومفصلية مع العراق وأهله عبر سنوات كانت حرجة وصعبة أواسط التسعينيات وما تخللها من حصار اقتصادي وصحي وعلمي، حيث كان لموقف المملكة وشعبها الدورالابرز في تذليل الصعوبات وامتدت هذه العلاقة وصلا، للاتفاقية العربية المصرية العراقية اليمنية أواسط التسعينيات وبعد ذلك استمر هذا التعاون وهذه الروح الواحدة إلى الاتفاقية الثلاثية الأردنية المصرية العراقية وما نطمح له من الأفكار والخطط الاستراتيجية لتنفيذ الاتفاقات الاقتصادية من خلال سفارة جمهوريتنا المتواجدة على ارض المملكة وسفارة المملكة في بغداد اللتين تبثان من خلال سفيريهما وكوادرهما روح التعاون في إنجاح مخرجات هذه الاتفاقيات.
** الدستور. أين تسير العلاقات الأردنية العراقية في المجالات التعليمية والاجتماعية والصحية ؟ .
- البلداوي: إن العلاقات التعليمية الاجتماعية والصحية نابعة من تبادل الثقة بين المجتمعين وكذلك الإيمان بروح التواصل العلمي والتكنولوجي للمنهاج التعليمي والتواصل العلاجي بطرق حديثة، وذلك يبدو واضحا من خلال النسبة العالية من أبنائنا الطلبة الدارسين في الجامعات الأردنية الحكومية والخاصة وبكافة التخصصات العلمية والهندسية والطبية وكذلك الدراسات العليا والبورد الطبي.
كما أن هناك نسبة جيدة من أبنائنا الطلبة الدارسين في المرحلة الابتدائية المصاحبين لأسرهم المقيمين في عمان وبعض المدن الأردنية وامتد ذلك أيضاً إلى التبادل الثقافي والاستعانة بالكادر التدريسي العراقي بكافة المستويات العلمية لما يحمله من مكانة أكاديمية متميزة بين أقرانهم وقد رفدوا المجتمع المحلي والعربي بكثير من الخريجين الذين أغنوا المجتمع بعطائهم وخبرتهم إلى أن أصبحوا عنواناً يفتخر به.
كذلك إن لبعض الجامعات وكليات المجتمع والمدارس الثانوية والابتدائية دورا واضحا لتوفير الجو العلمي والاستفادة فكرياً والتبادل الثقافي والمعرفي بين الطلبة بصورة عامة ومن ضمن النشاطات الطلابية السنوية النشاط الثقافي الشعري الأدبي للطلبة العراقيين الدارسين في الجامعات والذي اختتم بالدورة العاشرة وتوقف بسبب جائحة كورونا وما تخلله من أثر طيب برعاية خاصة مني شخصياً وبحضور وتشجيع رؤساء الجامعات والملحقية الثقافية، كذلك هناك نشاطات رياضية كانت تقام من ضمن النشاطات اللامنهجية للطلبة الموهوبين رياضياً.
أما الجانب الصحي فقد كان لمستشفيات الأردن وكادر أطبائها الأثر الطيب في تخفيف الآلام ومعالجة الكثير من الحالات الصحية وبحكم مواكبة التطور الصحي للجانب العلاجي فقد وجد المواطن العراقي الملاذ الآمن في هذا الجانب إلا أن ارتفاع تكاليف العلاج اعاقت استمرار هذه الخطوات.
كذلك سعينا إلى إيجاد فرص بالتعاون مع شركات التأمين الصحي وتوفيرها لأبناء الجالية بالاتفاق مع الراغبين بالاشتراك وفق آلية يتم الاتفاق عليها بين الشركة والمستفيد من هذه الخدمة وبإشراف الملحقية الصحية لسفارتنا إلا أن هناك بعض العراقيل الإدارية أجلت هذا الموضوع وبحكم أن لدينا عددا كبيرا من أبناء الجالية من المتقاعدين والذين يعانون من الأمراض المزمنة وما يتخلل ذلك من تكاليف علاج شهري تكاد تثقل كاهلهم.
أما الجانب الاجتماعي فهناك ترابط عشائري وأسري ومجتمعي يربط المجتمعين ويتشارك في الكثير من القيم والعادات والتقاليد والموروث الشعبي بحكم تجاور البلدين وهناك كثير من «الحمايل والعشائر» والمسميات الطيبة التي نتشارك في الجذور العربية الأصيلة وهناك تواصل بين شيوخ العشائر في البلدين وتواصل صلة الرحم بين أولاد العم الذين يرجعون إلى أصل واحد وجد واحد.
** الدستور: اقتصاديا واستثماريا، كيف تصف واقع العلاقات بين البلدين؟ .
- البلداوي: إن ما أشير إليه في لقاءات عديدة من قبل سفير جمهورية العراق والسادة الملحقية التجارية من خلال الاجتماعات والندوات واللقاءات المتواصلة بين الجانبين المعنيين في الاقتصاد والصناعة والتجارة أدى إلى حركة اقتصادية واستثمارية يشار لها بالبنان من خلال المستثمر العراقي في إنشاء المصانع وانعاش الحركة الاقتصادية في المناطق الحرة والعمرانية في الإسكان وبعض المنشآت الاقتصادية كالفنادق وغيرها.
وهناك أرقام كبيرة رفدت السوق الأردني والاقتصاد والمالي بذلك إضافة إلى المساهمة في تشغيل الأيادي العاملة وتوفير فرص العمل بما يتيح في المساهمة في تنمية الاقتصاد بصورة عامة.
** الدستور: أصعب التحديات التي تواجهونها الان.. وماذا غيرت جائحة كورونا على أرض الواقع؟ .
- البلداوي : بعد جائحة كورونا التي ألمت بكل دول العالم وما رافقها من قرارات استثنائية تمثلت في حظر السفر والتنقل والتبادل سواء الاقتصادي أو غير ذلك وما ترتب على هذه الجائحة من نتائج فقدنا الكثير من الأصدقاء والأقرباء مثلما دخل العالم كله حالة من التأهب لمواجهة هذه الجائحة وكان الأردن من أوائل الدول التي واجهت هذه الموجة وتصدرت دول العالم بمعالجة انتشار الوباء وكان التلقيح لجميع أبناء المملكة والمقيمين فيها حالة من الإنسانية والشعور بأنك جزء مهم من مكونات ومحتويات هذا المجتمع الكبير الطيب.
كذلك كان لفتح أبواب المستشفيات لاستقبال الحالات والإرشادات الصحية المتواصلة حالة من الشعور بالاطمئنان بأن هناك متابعة حثيثة في هذا المجال.
أما ما يخص بعض التحديات فكانت تشمل الجميع دون استثناء وكان لموقف المواطن العراقي المقيم الذي جاء من خلال المساهمة في تبرعات رجال الأعمال في دعم صندوق وزارة الصحة أو من خلال التعاون على توفير بعض الطرود الغذائية الأثر الطيب الذي دل على نبل هذه العلاقة السامية وكذلك بأنهم جزء من هذا البلد الذي أحبوه وأقاموا فيه.
** الدستور: ماذا بقي في الذاكرة عن تهجير مسيحيين من العراق على يد ما يسمون بعصابة داعش؟ .
- البلداوي:إن مسيحيي العراق مكون اصيل نفخر بأنه جزء من أرض الرافدين وما له من مكانة طيبة في نفوسنا حيث نعدهم الأهل والأصدقاء والأحبة ولم نشعر يوماً إلا أننا واحد بكل مفاهيم الحياة حيث نتشارك وإياهم في أفراحهم وأتراحهم ويشاركوننا كافة مناسباتنا الدينية والاجتماعية وما حصل لإخواننا المسيحيين من تهجير بحكم ما مر وعاصرنا من عصابات داعش وفكرهم التكفيري الإجرامي الذي تعامل بوحشية وبقساوة من خلال ما روي لنا أن القصص التي حملها هذا المكون الطيب وناسه، فكان الأردن من أوائل البلدان المجاورة التي فتحت أبوابها لاحتضان تلك العائلات، وكان البيت الأردني والكنائس الأردنية وكل المجتمع متواجد لاستقبال المهجرين، فكانت النخوة الأردنية المشهود لها في احتضان تلك العائلات في الأيام الأوائل إلى أن تم ترتيب سفر قسم منهم واستقرار القسم الآخر بالتنسيق مع الآباء الكهنة الكرام في الكنائس وكذلك السفارة العراقية ونحن كممثلي وزارة الهجرة والمهجرين قدمنا ما يمكن أن يقدم بالتعاون مع رجال الأعمال العراقيين كذلك الذين ساهموا في تخفيف المعاناة التي مرت على مسيحي العراق بلمسات إنسانية.
** الدستور: من هي أكثر شخصية أردنية قابلتها وتركت أثرا في نفسك؟ ومن تود ان تقابل ولماذا؟ .
- البلداوي: منذ أن وطأت أقدامي أرض المملكة قادماً من بلدي بهدف الدراسة بجامعة اليرموك عام 1991 وحتى هذه اللحظات أحمل في ذاكرتي الكثير من المواقف الطيبة التي تأثرتُ بها عبر سنوات ليست بقليلة فكان للتأثير الاستثنائي لجلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه حين تشرفتُ بلقائه ومجموعة من الطلبة المتميزين في جامعة اليرموك آنذاك، وكذلك كان لشخصية سمو الأمير الحسن بن طلال حفظه الله الأثر الطيب بما تركه في نفسي من خلال حصولي على الجائزة الذهبية لولي العهد أواسط عام 1994 وافتتاحه لمعرضي الشخصي وحديثه الطيب والفكري والفلسفي الذي تميز به.
وكذلك كان لسمو الأميرة الدكتورة وجدان الهاشمي التي نهلتُ من علمها عندما كنتُ طالباً في المعهد العالي للعمارة والفنون الإسلامية بجامعة آل البيت لاستكمال الدراسات العليا واستمر هذا العطاء حتى رعايتها للمعرض الأخير الذي أقيم في قاعة المركز الثقافي الملكي شتاء عام 2018
وهناك الكثير من الشخصيات التي أعتزُّ أنني عاصرتها ونهلتُ من خبرتهم علمياً واجتماعياً فكان للدكتور محمد عدنان البخيت والدكتورة هند أبو الشعر والدكتور علي محافظة والدكتور حازم الزعبي والدكتور وائل الرشدان والدكتور ماهر سليم وهناك الكثير من الشخصيات الاجتماعية ووجهاء المجتمع الأردني اجتماعياً وسياسياً وثقافياً وهناك الكثير من الزملاء الذين أعتزُّ بهم وبما وفقهم الله الآن حتى أصبحوا عنواناً في عملهم وأسرهم.
** الدستور:ما هو أكثر مكان تود زيارته للمرة الأولى او تكرار زيارته في الاردن؟ .
- البلداوي: إن لعروس الشمال مكانة خاصة في نفسي وما حملته سنوات الإقامة أثناء الدراسة من أثر طيب وذكريات جميلة حيث أهلها الطيبون وصفاء طبيعتها، أما مدينة السلط فلها الأثر المميز حيث عملت في جامعة عمان الأهلية لسنوات تجاوزت الـ (15) عاماً وكنتُ رغم طول الطريق أستمتع بما أنعم الله من جمال الطبيعة في صيف وشتاء ما يجاور ذلك الصرح من قرى ومزارع وعمران وتبقى عمان الحبيبة هي التي تحتضن الجميع دائماً.