.. زمان كان الشارع في مصر مشغولاً، في المناظرات التي يجريها فرج فودة مع كبار المفكرين الإسلاميين، كنا نتابعها بشغف.. ونستمع لرأي شيخ الأزهر ونتصيد الأهرام المصرية في أكشاك البلد، كنا أيضا نشهد الدراما وكيف تحولت من مسلسلات الحب الفاشل.. إلى روايات نجيب محفوظ التي أثرت هذه الدراما عبر ليالي الحلمية وما تلاها...
اليوم كلما فتحت على الإعلام المصري، شاهدت أزمة (حمو بيكا) و(حسن شاكوش).. لم يعد فرج فودة موجودا ولا نصر حامد أبو زيد لم تعد رواية اللجنة لصنع الله ابراهيم تثير شهية النقاد، لم تعد تلك المناظرات الثرية المسجلة موجودة بل صارت مجرد أرشيف.. والشيخ إمام خفت صوته، ومحمود عبدالعزيز لم يعد يمارس تعرية المجتمع والسلطة في أفلامه..
نحن لسنا بأفضل حالاً.. فالشيخ يوسف العظم رحل، ويعقوب زيادين وقصص اعتقالاته لم تعد موجودة، والمنشورات التي كنا نجدها في صباحات ذهابنا للمدارس هي الأخرى لم تعد توزع، والطلبة الذين جاءوا من اليونان ولبنان وسوريا، واحتضنهم فندق (أبو رسول).. صاروا كبارا يعانون من السكري.. ولم يعودوا يسردون لنا شيئا عن التحقيق... صار همنا أن نتشاجر على الفيس بوك ونحاول اكتشاف شخصية صاحبة البروفايل الذي يحمل اسم (كبريائي سر شموخي)..
حين يهبط العقل في مصر يهبط في كل العالم العربي، وحين يصبح (حمو بيكا)... قصة ويصبح خصما في نظر الفن، يذهب المجتمع إلى زوايا الإسفاف.. وحين يتهافت الإعلام إلى قرارات هاني شاكر، وينسى أزمة النيل.. وأزمة القيم وأزمة الارتفاع في التفكير حتما ستصغر المجتمعات..
الأزمة في العالم العربي لم تعد أزمة حرية، ولا أزمة ثورة... لم تعد أزمة خبز أو سيادة أو دور.. بل صارت أزمة عقل، كأن الإسفاف ظاهرة متعمدة... وكأن كورونا حالة تجهيل أكثر منها حالة وبائية، لم أتوقع في حياتي أن يصنع فنان كل هذه الأزمة، في مجتمع أنتج طه حسين وإحسان عبدالقدوس.. ويوسف ادريس وأمل دنقل.. ولم أتوقع أن نصل لمرحلة لدينا ينجر فيها الناس لممارسة الرفض فقط... وتصبح المعارضة في بعض جوانبها استعراضا أكثر منها حالة مطلبية...
العالم العربي بعد ثورات الربيع، انتقل لثورات الإسفاف... وانهار فيه مشروع العقل تماما لدرجة أن حمو بيكا.. صار أكثر شهرة من يوسف ادريس.. يا ترى هل يعرف حمو بيكا من هو يوسف ادريس؟
Abdelhadi18@yahoo.com
الرأي