مدار الساعة - الشريعة الإسلامية صبغة ربانية جاءت لتصبغ الإنسان بالمراد الإلهي، بحيث يتخلى الفرد المسلم عن أهوائه وشهواته، ويطوع نفسه للتعاليم الإسلامية السامية، وذلك في كل شؤون حياته، ولا يعني هذا أن الشريعة جاءت بمحاربة رغبات النفس من حيث هي مرغوبات بشرية، بل قد تتوافق كثيرا مع ما يميل إليه الإنسان بطبيعته وبشريته، كالتملك، والنكاح، على سبيل المثال، فهي شريعة واقعية إنسانية، لكن المسلم يتعاطى معها باعتبارها مرغوبات شرعية، لا باعتبارها أهواء ورغبات محضة، بحيث يكون هواه تابعا للشرع لا العكس، بحث لو لا يتعارض هواه مع الشرع في مواضع أخرى، وبهذا نستطيع القول إن من مقاصد الشريعة تحرير المسلم من ربقة الهوى، وسلطة الشهوات والرغبات.
قال الشاطبي في الموافقات: "المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه ; حتى يكون عبدا لله اختيارا ، كما هو عبد لله اضطرارا .. وتأمل فكل موضع ذكر الله تعالى فيه الهوى ; فإنما جاء به في معرض الذم له ولمتبعيه، وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس ; أنه قال: " ما ذكر الله الهوى في كتابه إلا ذمه ". فهذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن اتباع الهوى والدخول تحت التعبد للمولى ." انتهى
والهوى في الأصل ميل النفس إلى ما تهواه، والشريعة جاءت لتقويم هذه الميول النفسية حتى تكون مبنية على رغبة الشارع ومراده، كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) ، قال القاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: "حتى يكون هواه" أي: ميل نفسه، سمي به لأنه يهوي صاحبه في الدنيا إلى الداهية، وفي الآخرة إلى الهاوية، فكأنه من هوي يهوي هوى إذا سقط.
وقوله: "لا يؤمن" يجوز أن يحمل هذا على نفي أصل الإيمان، أي: حتى يكون تابعا مقتديا لما جئت به من الشرع عن اعتقاد لا عن إكراه وخوف سيف كالمنافقين، وقيل: المراد نفي الكمال، أي: لا يكمل إيمان أحدكم حتى يكون ميل نفسه، أي: ما تشتهيه تبعا لما جئت به من الأحكام الشرعية، فإن وافقها هواه اشتغل بها لشرعيتها لا لأنها هوى، وإن خالفها اجتنب هواه، فحينئذ يكون مؤمنا كاملا. أ.هـ
ولذلك يقول الشاطبي في الموافقات مبينا خطورة هذا المسلك في اتباع الهوى، وأثره على الأعمال: "كل عمل كان المتبع فيه الهوى بإطلاق من غير التفات إلى الأمر أو النهي أو التخيير فهو باطل بإطلاق، لأنه لا بد للعمل من حامل يحمل عليه ، وداع يدعو إليه ، فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل ، فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة ، وما كان كذلك فهو باطل بإطلاق" انتهى.
مع أن الشاطبي نفسه قد قرر في كتابه أن الشريعة جاءت على وفق أغراض العباد، وثبتت لهم حظوظهم تفضلا من الله تعالى فكيف يمكن الجمع بين هذا وبين ما تقدم من أن الشريعة جاءت لإخراج المكلف من داعية الهوى، ومتابعة الرغبات؟؟
ثم يجيب إجابة لطيفة وهي: "أن وضع الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد ، فهي عائدة عليهم بحسب أمر الشارع، وعلى الحد الذي حده لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم؛ ولذا كانت التكاليف الشرعية ثقيلة على النفوس، والحس والعادة والتجربة شاهدة بذلك، فالأوامر والنواهي مخرجة له عن دواعي طبعه واسترسال أغراضه، حتى يأخذها من تحت الحد المشروع، وهذا هو المراد، وهو عين مخالفة الأهواء والأغراض، أما أن مصالح التكليف عائدة على المكلف في العاجل والآجل فصحيح، ولا يلزم من ذلك أن يكون نيله لها خارجا عن حدود الشرع، ولا أن يكون متناولا لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع، وهذا ظاهر وبه يتبين أن لا تعارض بين هذا الكلام وبين ما تقدم، لأن ما تقدم نظر في ثبوت الحظ والغرض من حيث أثبته الشارع، لا من حيث اقتضاه الهوى والشهوة، وذلك ما أردنا هاهنا" . انتهى
وحين نلقي نظرة سريعة في نصوص السنة النبوية، نجدها مؤكدة على هذا المقصد، ومبينة خطورة مناقضة قصد الشارع بالسير وراء ما تهوى الأنفس، وهذه جملة من النصوص النبوية، منها ما ورد فيها التصريح بذم الأهواء، ومنها ما تضمن ذلك من خلال المعنى:
فعلى سبيل المثال أوضحت السنة في أكثر من مناسبة أن الحب والبغض غير متروكين لهوى النفس، بل إن ذلك مبنيٌ على أسباب شرعية معلومة، وجعل هذا المبدأ مفصليا في تحديد رتبة المكلف من درجات الإيمان، كما في حديث أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث من كن فيه وجد طعم الإيمان - وقال بندار: حلاوة الإيمان-: "من كان يحب المرء، لا يحبه إلا لله، ومن كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر، بعد إذ أنقذه الله منه" متفق عليه.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن اتباع الهوى مرحلة متأخرة تدل على تراكم الرين على القلب، وانغماسه في وحل الفتن، بحيث يصبح الإنسان تبعا لهواه، حتى ولو تعاطى مع الشرع فإنه يكون انتقائيا حسب ما يتوافق مع هواه، كما في الصحيحين عن حذيفة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشر بها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة، ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًا كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه).
قال ابن هبيرة في الإفصاح عن معاني الصحاح: وقوله - صلى الله عليه وسلم - (يعود القلب مربادًا) أي: في لونه ربدة، وهو ما بين السواد والغبرة.
وقوله: (كالكوز مجخيًا) يعني: منكوسًا يصير أسفله أعلاه يعني - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يخلص منه شيء من الأذى المحتبس فيه، وفيه أيضًا أن علامة القلب الأسود المرباد أنه لا ينكر منكرًا ولا يعرف معروفًا إلا ما أشرب من هواه، ويعني بقوله: (إلا ما أشرب من هواه) أنه لو أنكر منكرًا يومًا ما، كان لهوى يخالطه لا لله. انتهى. وهذه الجملة الأخيرة هي موضع الشاهد من الحديث.
وقد جاءت السنة أيضا بضرورة مغالبة هوى النفس حين تريد إنفاذ بغيها وعدوانها حالة الغضب، وجعلت التغلب على هذا النوع من الهوى معيارا للقوة الحقيقية، في حين أبطل مفهوم القوة المغلوط، المبني على التصور البشري المجرد عن القيم والمبادئ، كما في الصحيحين أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس الشديد بالصرعة؛ إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" يقول الوزير ابن هبيرة في الإفصاح: وفي هذا الحديث من الفقه نفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشدة عن قوة أعضاء الإنسان وإثباتها في عقله الذي يصرع هواه عند الغضب.
وفي حديث أبي ذرِّ، -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة يُحبهم اللهُ، وثلاثة يَبغُضهم اللهُ؛ فأما الذينَ يُحبُّهم اللهُ: فرجل أتى قوماً فسألَهم باللهِ ولم يسألهم لقَرابة بينَه وبينهم، فمنًعوه، فتخلفَ رجل بأعيانِهم، فأعطاه سراً، لا يعلَمُ بعطِيَّتِه إِلاَّ اللهُ والذي أعطاهَ. وقومٌ سارُوا ليلتَهم حتى إِذا كانَ. النَّومُ أحبَّ إليهم مما يُعْدَلُ به، فوضَعوا رُؤوسهم، فقامَ يتَملَّقُني ويتلو آياتي. ورجل كانَ في سرية، فلَقَي العدُوَّ، فهُزموا، فأقبلَ بصدره حتى يُقتلَ أو يُفتحَ له. والثلاثةُ الذينَ يَبغُضُهم اللهُ: الشَّيخُ الزَّإني، والفقيرُ المختالُ، والغَنيُّ الظَّلومُ)). رواه الترمذي، والنسائي.
وحين نتأمل القاسم المشترك بين الثلاثة الذين يحبهم الله كما في الحديث سنجد أنه مدافعة هوى النفس، ومجاهدة المرغوبات من حب المال، والرغبة بالنوم، والخلود إلى الأرض، وتغليب داعي الشرع على ذلك كله، وهي درجة من الكمال استحقت الإشادة من صاحب الشرع، وبشارة مَن هذا حاله ببلوغه درجة المحبة.
وفي مقام آخر نجد التحذير النبوي من الهوى بصورة مباشرة، كما في حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن مما أخشى عليكم، شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى " رواه الامام احمد.
وفي حديث أبي الدَّرداء، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال:" حُبُّكَ الشَّيءَ يُعْمِي وُيصِمُّ" رواه البخاري في التاريخ الكبير موقوفا، وفي مسند الامام احمد عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: قال رجل لابن عباس: الحمد لله الذي جعل هوانا على سواك، فقال: «إن الهوى كله ضلالة» وفي جامع معمر بن راشد قال علي بن أبي طالب: " إنما أخشى عليكم اثنين: طول الأمل، واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسي الآخرة، وإن اتباع الهوى يصد عن الحق" الزهد والرقائق لابن المبارك.
كانت تلك نظرة سريعة في النصوص الواردة في هذا المعنى، وتبقى التشريعات متضمنة لهذا المقصد، وترمي إلى جعل المسلم متحررا عن قيود الهوى، متفيئا في رحاب العبودية الواسعة، دائرا مع مراد الشارع وأمره ونهيه سواء توافق مع رغبته، أو تعارض معها، وهو أمر مبثوث في أرجاء التشريع الإسلامي، وينقص من عبودية المسلم وانقياده وطواعيته بقدر ما يخترم هذا الأصل من دواعي الهوى، والناس في ذلك على دركات متفاوتة، فمنهم من أصبح الهوى إلها يعبده من دون الله، ومنهم دون ذلك، والناجون من تروضت أنفسهم بقانون الشرع، ودانت رقابهم لسلطان الإسلام، فأسلموا وجوههم لله، وأخلصوا دينهم لله، (فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما).