مدار الساعة - كتب: إبراهيم السواعير
أهدى إليَّ الأخ الأستاذ سعيد تايه كتابه "الإملاء الصحيح في لغتنا العربية الجميلة"، خلال زيارته اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين، قبل أسابيع، وكم كنتُ فرحًا بالكتاب، وبصاحبه أيضاً، الذي أظهر لي أنّه يحبّ الدنيا كلّها ويرجو لها لغةً سليمةً خاليةً من اللحن والخطأ؛ فكان يهدينا عيوبنا بلطف، ويفترّ عن ابتسامةٍ آسرة، بالرغم مما قيل عنه، إنّه ممن يؤذون الناس بالتنبيه على أخطائهم وعثراتهم في الكتابة والتعبير.
كان الرجلُ، وهو عضو اتحاد الكتّاب والأدباء الأردنيين، متأنقًا، يتحدث مثلنا اللهجة المحكيّة، ويمازح، ويستذكر دراسته في جامعة دمشق، تلك الجامعة العريقة، التي ذكّرتني شخصيًّا والحاضرين، بأمجاد بني أميّة وجهودهم الكثيرة على الأمّة، حتى في تعريب الدواوين.
من المهمّ ألا نحكم على الإنسان قبل أن نخالطه أو نتجاذب معه أطراف الحديث، أو ربما نتشاكل معه في مسألة نحويّة، والحقيقة أنّ (سعيد تايه) إنسانٌ متسامح أبعد ما يكون عن الشخص الذي ينتقم بعلمه من الناس أو يستقوي على الآخرين لأنّه تخصص أو تفقّه في هذا المجال أو ذاك.
ولمّا عرفتُ من سيرته أنّه حاصلٌ على شهادة الدراسة الثانوية(المترك-أ)، وشهادة كليّة المعلمين التربويين بالعروب، وشهادة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية وآدابها من جامعة دمشق،... وأنّه يتقن من الفرنسية واللاتينية ما يسمح له بعمل مقاربات لغوية مهمّة ومواكبة،...وقبل هذا هو من مواليد التنور(بيت عطاب) إحدى ضواحي مدينة القدس،..وبعد هذا، أنّه عمل مدرّساً للغة العربية للصفوف الإعداديّة بالغزاليّة بنابلس، وعمل مدرساً للغة الإنجليزية لصفوف الثالث الثانوي(التوجيهي) الأدبي في الراشدية/القدس، ومدرساً للغة الإنجليزيّة ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بكليّة الملك فهد الأمنية بالرياض، وهي كليّة جامعيّة، مدّة أربعة وعشرين عامًا،.. وعمل مترجمًا في شركة سابك (الشركة السعودية للصناعات الأساسيّة) في الرياض مدّة أحد عشر عامًا، ومترجمًا في مكتب رئيس مجلس إدارة بنك الرياض مدّة ثلاث سنوات،..... قلتُ لاشكّ أنّه موسوعةٌ تعرض نفسها على الأبناء والأصدقاء والزملاء، بالرغم مما يلاقيه من عدم قبول أو انتقاد أو تحسس،..والمهمّ في الأمر أنّ مقارباته ومقارناته بين اللغتين: الانجليزية والعربيّة بحكم النشأة والتخصص، يمكن أن تسهم الإسهام الكبير في الإفادة وإثراء منصّة الاتحاد والمنصّات الإلكترونيّة التي نتعامل معها يوميًّا،.. كما أنّه شاعرٌ مُفلِق، يذهب إلى صفاء المفردة والصورة الشعريّة ويبتعد عن النظم لصالح الرقّة والعذوبة والتعبير عما يجول في نفسه، وقد ضمّن قصائد وأبياتًا رائعة في هذا الكتاب، تجعلنا نعيش عصور العربيّة الزاهرة، في نقوش الكتاب وحروفيّاته، وهو الكتاب الصادر عن دار زهران للنشر والتوزيع، إذا ما علمنا أنّ لديه ثلاثة دواوين جمعتها أسماء (صدى الوجدان، أشجان، فيض الخاطر) في مجلّد واحد، صدر عن دار الأيّام بعمّان، وكذلك ديوان (قصائد حميمة) الصادر أيضًا عن دار زهران، إضافةً إلى مؤلفات ودواوين منها ما صدر ومنها ما يصدر قريبًا، من مثل: (قصائد من الوجدان)، و(دولة الشعر)، وكتاب (معلومات عامّة) الواقع في خمسة آلاف سؤال وجواب، وكتاب (المثنيات)، والكتاب الثقافي المعرفي (صفات الرجل والمرأة الحسنة والسيئة) على وفق الحروف الأبجدية، وكذلك (أسماء الذكور والإناث ومعانيها)، وأسماء كثيرٍ من الحيوانات وأبنائها، وأصوات بعض الحيوانات والطيور، وكتب متفرقة أخرى يشتغل عليها مشروعًا ومنهجًا، في أداء رسالة مهمّة نحتاجها في خضمّ التآكل الورقيّ والطغيان الإلكتروني، مع أنّ الأستاذ سعيد تايه منسجمٌ ويفيد ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، على صفحات المجموعات الأدبيّة والثقافيّة، ومنها مجموعة اتحاد الكتاب والأدباء والأردنيين، المجموعة التي تهيج وتخبو، فتهيج وتخبو بالأفكار والمعتقدات والرؤى والإبداعات التي تشكّل منصّةً إضافيّةً وصداقات فيها خيطٌ إنساني وإعجابات بالرغم من البعد الإلكتروني الذي نعيش في ظلّ ما فرضته الأزمة الكونيّة "كورونا"، وهي مناسبة لنعيد التذكير بأهمية التقارب الاجتماعيّ الثقافي الإبداعي غير الافتراضي وجهًا لوجه على منصّة الاتحاد الحقيقيّة، ففي اللقاء تبادلٌ لوجهات النظر وقراءات جديدة للوجوه وقناعات يمكن أن تتغيّر وانطباعات يجب ألا تطغى على تعاملنا الأدبيّ والفكريّ والثقافي.
أقول هذا، وفي النفس ما فيها، من تقهقر وانسحاب من المثاقفة وارتداد عن المحبّة، وتسابق نحو "الفيس" و"التويتر"، و"الواتس"، بكلّ ما في هذه الوسائل من جغرافيّات ذهنيّة عن بُعد وأحاسيس ربما تتحوّل أحاسيس ماحقة، حين تنوب عنّا الأصابع الإلكترونيّة في التعبير، فتحلّ المصالح و"البراغماتيّات" محلّ الدفء والعلاقات الحميمة التي كنّا نعيشها في اتحاد ألفين وخمسة وما تلاها من فترات ذهبيّة ومضيئة في عمر الاتحاد ولقاءات بنيه وضيوفه وأصدقائه ومحبيه.
وقد صدّر الأستاذ سعيد تايه، كتابه (الإملاء الصحيح في لغتنا العربية الجميلة) بإشادة شعريّة بأمّ اللغات، مهديًا هذا السفر اللغويّ إلى (أصحاب النفوس الكبيرة والهمم العالية الغيورين على أشرف وأرقى اللغات على وجه الأرض، لغة الضّاد، لغة أشرف الكتب السماويّة وأعظمها، لغة القرآن العظيم الذي تكفّل الله بحفظ لغته العربية الأصيلة.....).
يبحث الكتاب في الإملاء الصحيح عبر محاور مهمّة جدًا للطالب والدارس والكاتب، وعلامات الترقيم، والحروف العربية، والأخطاء الشائعة وما يجب أن يكون حيالها، ليرفد الكتاب بمقالات ثقافية ورؤى حول الحياة والأخلاق والعائلة والصبر ومفهوم السّعادة،.. أما قصائده الطوال، فهي غاية في الجمال والتنضيد الجميل في كتاب جاء في ورق أصفر يشي بكتب القدماء وعباقرة اللغة الذين نذروا أنفسهم لخدمة العربيّة والإخلاص لها: هويّةً وفكراً ولغة عبادة ولغة جمال وبيان.
أمّا سؤالنا بيننا وبين أنفسنا: هل يتحدث الأستاذ سعيد، وعلماء اللغة وأدباؤها، اللغة الفصيحة، أو الفصحى، بين أهلهم وأبنائهم وزوّارهم وجلسائهم؟!.. فأعتقد أنّ أجابته ستكون سهلة من منظور حديثي معه، وهو يتحدث بين الزملاء بلهجة عاديّة لا يتكبّر فيها أو يرى نفسه، بل لقد كانت دماثته وخجله المبرر بالخلق الكريم، سبيلًا ليصل الرجل إلى قلوبنا، وهو يروي طرائف لغوية حصلت معه أثناء الدراسة الصارمة التي لم تكن لتسمح بالخطأ، في جامعة عريقة ومهيبة وعظيمة، بحجم جامعة دمشق.
في الواقع، هذه اللغة هي لساننا ورأسُ مالنا، وقد تعلّمناها بين أهلنا في خلواتنا بالطبيعة والنفس في فضاءات فسيحة لا تتسيّج بتقنيات تكنولوجيّة، ..وأذكر أنني كنت أهرب من دراستي للاقتصاد والإحصاء في الجامعة نحو المكتبة لأتنعّم بالمعاجم وأمهات الكتب وما سار سيرها من روائع الأدب والقصص والطرائف والمقامات والأشعار،... وهو أمرٌ نعتزّ به ويفيدنا اليوم حين نقف على منصّة أو نخاطب فقيهًا في اللغة وعالمًا بها بحجم الأستاذ سعيد تايه حفظه الله وطيّب أنفاسه وهو يدافع عن اللغة ويتحمّل في سبيلها هجران الأصدقاء وجفاء القريبين وملل المبدعين.
وبعد،
فهذه كلماتٌ كتبتها وأنا أراقب صبر الرجل ودأبه وإخلاصه ومحبّته، في مشروعه اللغويّ والثقافيّ، آملًا أن يحفظ الله الجهود ويباركها، ويقيّض دائمًاً للعربيّة من يحفظها ويقيلها من عثرتها، من أدبائنا والمعجميين الأردنيين والعرب والأكاديميين والدارسين، ولي معهم صحبة طويلة خلال عملي الصحافي وانخراطي في الجسم الثقافي والأدبيّ، فللجميع محبّة خالصة وعرفان كبير، وإلى اللقاء في الحديث عن شخصيّة ثقافية وإبداعيّة تستحقّ الإشادة والتبجيل،