مدار الساعة - كتب: اوس حسين الرواشدة
في مقابلة صحفية شهيرة ، قال الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو ،قبل موته بقليل : "إن مواقع التواصل الاجتماعي تمنح حق الكلام لجيوش من الحمقى ، فقد كانوا في الماضي يتكلمون داخل الحانات فقط وهم سكارى دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع ، وكان يتم إسكاتهم فوراً ، أما الآن فأصبح لهم الحق بالكلام كمَن يحمل جائزة نوبل ، ويضيف في حسرة ، إنه غزو الحمقى "
لا ننكر فضل وسائل التواصل الاجتماعي على العالم اجمع ، فقد مكّنت هذه الوسائل رسائل الشعوب والافراد من الوصول الى الناس ، وتم بفضلها تمكين الناس من المطالبة بحقوق ، كان من المستحيل لولاها أن نسمع بهم او بها .
لكنَّ وجود القدرة والاستطاعة المتعلّقة بنشر اي شيء والتحدث في أي موضوع وإبداء الرأي فيه من قبل العامة أمام العامة انفسهم ،هو أمرٌ خطير يقودنا الى دمار النفوس ، والحثِّ على التفاهة وتصديق أي شيء بلا أي دليل ، وجعل أشخاصٍ لا يمتّون للعلم او للثقافة بأي صلة ، مشهورين فقط لان ما يكتبونه ينال إعجاب الكثير من امثالهم ومؤيديهم بغض النظر عما اذا كان حديثهم صادقاً ويلامس الحقائق أو أنّه ببساطة مجرد سخافات .
قبل سنوات قامت الاذاعة المصرية باستطلاع لمعرفة آراء الناس حول أكثر المطربين شعبية ، ففوجئت الاذاعة - التي تهتم بالطرب الاصيل - بمغنٍّ شعبي فاق إقبال الناس عليه إقبالهم على عبد الحليم وعبد الوهاب ، ولنا ان نتصور لو اجرينا استطلاعا لرأي الشباب اليوم حول ما ينشر على منصات التواصل الاجتماعي ، عندئذ لكتشفنا ما يعاني منه مجتمعنا ، فيكفي أن تلقي نظرةً على حال الشباب ، فقد هرعوا الى التافه من الامور ، وسدّوا " جوعهم " الثقافي بثقافة مجتمعات أخرى لا تمتُّ لنا بأي صِلة ، فنحن اليوم امام مجتمع يجادل لا يحاور ، ويتبع منهاج السفسطة في الحديث مع الناس .
ويُقصَد بكلمة " السفسطة " فنٌّ يقتصر على الجدل بلا معنىً سليم والحرص على " الاطاحة " بالخصوم والحاق الغلبة بهم عن طريق التجردِّ من الفضيلة ، او لعلها بمعنىً بسيط تعني التضليل والفضيلة الخادعة ، وتم استعمال هذا الوصف في اليونان بخمسة قرون قبل الميلاد ، بمعنى أن " مجتمع التفاهة " والفضيلة الكاذبة كان موجودا - وما يزال - منذ زمن بعيد جدا ، وقد حذّر منه فلاسفة وادباء عظام ، امثال سقراط وميكاڤيلي وابن خلدون ، وحذروا من نتائج انتشاره " وتقبّل " الناس له ، وتأصيله في المجتمع ، مما يجعل المجتمع غير طبيعي إذا لم تكن التفاهة هي السائدة فيه.
واستذكر هنا قانون " غريشام " الذي ينصُّ على أنَّ العملة الضعيفة تُسقِطُ العملة القوية ، فالناس إذا تيقنّوا من أنّّ التفاهةَ هي " الموضة " الرائجة في هذه الايام ، نشروها وعززوها ليحظوا بإقبال الناس عليهم ، " وهمّشوا " المفكر والاديب ، مما يؤدي الى ازدياد اعداد " التافهين " وسيطرتهم على تفكير المجتمع وحركته واذواق الناس فيه .
علينا إعادة بناء منظومة الاخلاق من جديد ، وتعزيز حبِّ الناس للعِلم ، وتجاهل السطحية وما تجلبه علينا من " لعنة " التفاهة التي أصبحت مرضا تقبّلهُ المجتمع سريعا وأصبح شائعاً فيه ، علّنا ننقذ مجتمعنا من أن يتهالك ويتهاوى في عصر مظلم يمحق التفكير التسليم ، ويجعل من المفكر " سِلعةً بائرة " ومن السخيف " سِلعة رائجة " .