أخبار الأردن اقتصاديات دوليات مغاربيات خليجيات جامعات وفيات برلمانيات رياضة وظائف للأردنيين أحزاب مقالات مختارة تبليغات قضائية مقالات أسرار ومجالس مناسبات مستثمرون جاهات واعراس الموقف شهادة مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم

الغاز المسيّل للدموع.. قصة السلاح المحرَّم في الحرب المباح لدعم الديكتاتورية

مدار الساعة,أخبار ثقافية,كورونا,وزارة الخارجية,الأمم المتحدة,الضفة الغربية,قطاع غزة
مدار الساعة ـ
حجم الخط

المدار الساعة - يخرجون للتظاهر تنديداً بالفساد والقمع والسلطة التي استماتت على مقاعدها حلباً لخيرات البلاد وسلباً لآدمية العباد، فتواجههم آلة القمع بأسلحتها التي اشترتها السلطة بأموالهم المنهوبة. وأبرز تلك الأسلحة وأكثرها استخداماً قنابل "الغاز المسيّل للدموع"، وهو السلاح الأول الذي يظهر في وجه المتظاهرين السلميين في أغلب الأحيان.

وللغاز المسيّل للدموع قصة تستحق أن تروى بتفاصيلها، فقد بدأ استخدامه قبل أكثر من ألف عام، لكنه كان سلاحاً تستخدمه الجيوش في ساحة المعارك، ولم يكن فتاكاً ولا قاتلاً حتى قبل قرن واحد من الآن.
فتطوّر العلم انعكس على تطوير ذلك السلاح ليصبح فتاكاً وقاتلاً؛ لدرجة أن الدول جميعاً اتفقت على ألا تستخدمه الجيوش في ساحة المعارك. لكن الدول لا تجرم استخدامه ضد المتظاهرين من مواطنيها، في مفارقة تستحق التوقف أمامها طويلاً.
فمن الولايات المتحدة الأمريكية إلى فرنسا وهونغ كونغ، مروراً بأمريكا الجنوبية وإفريقيا، أصبحت مشاهد استخدام الأجهزة الأمنية للغاز المسيل للدموع- بأنواعه المتعددة- تتصدر نشرات الأخبار وتغرق منصات التواصل الاجتماعي، مثيرة تساؤلات منطقية حول تلك الصناعة التي تدر أرباحاً خيالية على منتجيها لتصل إلى أيدي سلطات "إنفاذ القانون" لتطلقها في أجساد مواطنيها المحتجين على تلك السلطات.
الغاز عند العرب
أما في منطقتنا العربية، فللغاز "المسيل للدموع"، أو إن شئنا الدقة للغازات المستخدمة في تفريق الجموع بأنواعها، قصص بعضها أغرب من الخيال. فهذه دولة عربية تفتح خزائنها لتدفع منها مليارات الدولارات لشركات بريطانية وأمريكية وفرنسية كي تستورد منها "الغاز المسيّل للدموع"، رغم أن نفس الدولة نادراً ما تستخدمه ضد مواطنيها من الأساس، فأين يذهب؟
الربيع العربي لم ينته
متظاهر مصري أثناء ثورة 25 يناير/ أ ف ب
لكن حتى لا نستبق الأحداث، دعونا نروِ القصة من بدايتها لنستكشف خباياها، وما أكثرها وما أغربها. فمتى استخدم الغاز المسيل للدموع بأنواعه المتعددة لأول مرة؟ وما هي أنواعه المتعددة؟ وأي الدول تنتجه؟ وأيها تستخدمه بكثافة دون أن تكون قادرة على إنتاجه أو حتى دفع ثمنه لمنتجيه؟ وكيف يكون سلاحاً ممنوعاً على الجيوش استخدامه في ساحة الحروب، بينما نفس السلاح يستخدم بشكل "قانوني" لردع مواطنين يعبرون عن غضبهم تجاه السلطة وبشكل سلمي في أغلب الحالات؟
قصة الغاز من الصين حتى الحرب العالمية الأولى
تذكر بعض المصادر التي تؤرخ للإمبراطوريات القديمة في اليونان أن الجيوش كانت تستخدم طرقاً بدائية لإطلاق الدخان أو الغاز، لكن هناك ما يشبه الإجماع على أن الصينيين هم أصحاب السبق في قصة استخدام الغاز في الحروب؛ إذ كانوا يستخدمون قذائف يدوية من "الفلفل المطحون المغلف بعيدان قش الأرز" لإفقاد أعدائهم القدرة على الرؤية في ساحة المعركة. كما تعتبر بعض المصادر أن إشعال الحرائق في ساحة المعركة حتى تستخدم سحب الدخان الناجمة عنها في التمويه على بعض التحركات للقوات أو تشويش الرؤية للعدو، كانت أيضا نوعاً من أنواع استخدام "الغاز" في الحروب.
لكن حقيقة الأمر هي أن الغاز المسيل للدموع بأنواعه قد أصبح سلاحاً فتاكاً يُستخدم في ساحات المعارك قبل قرن من الزمان أو أكثر قليلاً. فمع تطور العلم والثورة الصناعية، برز علماء متخصصون في الكيمياء طوروا أنواعاً متعددة من الغازات لاستخدامها كأسلحة ضمن ما يعرف بالحرب الكيماوية.
الأمريكيون وتطوير الغاز المسيّل للدموع بأنواعه
نترك أوروبا قليلاً ونعبر الأطلسي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث للغازات المسيلة للدموع بأنواعها تاريخ عمره نحو قرن من الزمان. فخلال صيف 2020، عندما اندلعت الاحتجاجات ضد العنصرية، بعد مقتل جورج فلويد، المواطن الأمريكي من أصل إفريقي، على أيدي رجال شرطة من البيض، كانت مشاهد إطلاق الشرطة الأمريكية لقذائف الغاز ضد المحتجين هي الصورة الأكثر انتشاراً على الإطلاق.
وبالرجوع للوراء نحو 90 عاماً، نجد أن الشرطة الأمريكية استخدمت قنابل الغاز لتفريق المحتجين أمام البيت الأبيض عام 1930. وكان المحتجون من العاطلين عن العمل. وبعد عامين، صرح هربرت هوفر الرئيس الأمريكي وقتها باستخدام الغاز لتفريق تجمع للمحاربين القدامى في الجيش الأمريكي كانوا يتظاهرون لعدم حصولهم على مكافآت وعدهم الرئيس بها من قبل.
وشهدت صناعة الغاز المسيّل للدموع بأنواعه ازدهاراً لافتاً في الولايات المتحدة، انعكس في موقف واشنطن الرسمي من استخدامها بشكل عام. ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى، وبعد أن تسبب استخدام الأسلحة الكيماوية (الغازات بأنواعها) في مقتل 90 ألفاً من الجانبين المتحاربين، قررت الدول وضع بروتوكول لحظر استخدام تلك الأسلحة في الحرب بشكل كامل.
وفي عام 1925 وقّعت دول العالم على بروتوكول حظر استخدام الغازات بأنواعها كسلاح في الحرب، وكان ذلك في سويسرا، مقر عصبة الأمم وقتها، لكن الولايات المتحدة اعترضت ولم توقع على البروتوكول. أرادت واشنطن أن تستثني استخدام الغازات من جانب سلطات إنفاذ القانون في فض التجمعات التي تشهد شغباً، لكن باقي الدول اعترضت. ولم توقع الولايات المتحدة على "بروتوكول جنيف" إلا عام 1975.
ويكشف تقرير تفصيلي لمجلة Business Insider حول قصة "صناعة الغاز" على الأراضي الأمريكية عن كيفية ازدهار تلك الصناعة التي أصبحت تقدر بمليارات الدولارات وتحقق أرباحاً هائلة. فبروتوكول جنيف لم يحظر "إنتاج الغازات بأنواعها كأسلحة"، وهو ما ساعد على تطورها بصورة سريعة لتتحول من أسلحة كيميائية إلى أسلحة بيولوجية وهي أسلحة دمار شامل. وارتكن المنطق الرسمي الأمريكي على أهمية التفريق بين "الغازات السامة أو القاتلة" من جهة وتلك "غير القاتلة" من جهة أخرى، وهو التصنيف الذي تعتمده الولايات المتحدة وغيرها من الدول المنتجة للغازات المسيّلة للدموع حتى الآن، رغم الأبحاث العلمية والنتائج الفعلية التي تكشف مدى "زيف هذا التصنيف".
خدعة التوصيف.. "سلاح قاتل بدرجة أقل"
اعتمدت الدول المنتجة للغاز المسيل للدموع على تصنيفه "كسلاح قاتل بدرجة أقل – Less Lethal Weapons"، وبناء على هذا التوصيف، الذي تعارضه الهيئات العلمية والطبية والمنظمات الحقوقية بشكل عام، توسّعت "صناعة الغاز" وازدهرت بشكل لافت على مر السنين، حتى أصبحت واحدة من أكثر الصناعات العسكرية ربحاً.
وعن ذلك تقول آنا فاينبوم Anna Feignbaum، مؤلفة كتاب عن تاريخ الغاز المسيل للدموع، لمجلة بيزنيس إنسايدر إن "صناعة الغاز قائمة على الربح فقط ولا شيء سواه"، مضيفة أن هناك دائماً ابتكارات جديدة في تلك الصناعة: "إننا نرى ضغوطاً لوضع مزيد من تلك الأدوات بين أيدي رجال الشرطة حول العالم"
وترى فاينبوم أن قطاع الحرب الكيميائية في الجيش الأمريكي في ذلك الوقت برئاسة الجنرال آموس فرايز، أراد أن يستمر في العمل، وبالتالي قاوم بشدة حظر استخدام تلك الأسلحة في الحروب. وهكذا وسّع الجنرال الفكرة مقرراً أن "الغاز المسيل للدموع" يمكن توظيفه بصورة أوسع، خصوصاً بين أيدي رجال إنفاذ القانون.
وبعد تقاعده، عمل الجنرال ومجموعة من زملائه العسكريين للترويج للغاز المسيل للدموع في السوق المحلية الأمريكية. وعرضوا الفكرة على "أصحاب المصلحة": المستثمرين (رأس المال) والمسؤولين عن قوات إنفاذ القانون (الشرطة)؛ لتبدأ مرحلة جديدة من تطوير وإنتاج الغازات المسيلة للدموع لاستخدامها من جانب رجال الشرطة في فض التجمعات بأنواعها، وما أكثرها في الولايات المتحدة الأمريكية طوال الوقت.
عملية أسد البحر
وشهدت فترة الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من القرن الماضي انتشار "الإعلانات التلفزيونية" التي تروّج لاستخدام الغاز المسيل للدموع. فهذا إعلان يظهر عصابة تحاول السطو على أحد البنوك فيضغط أحد موظفي البنك "زراً مخفياً" يطلق الغاز بكثافة على اللصوص ليتم إجهاض عملية السطو. وإعلان آخر يشرح لقوات الشرطة كيفية إطلاق قنابل الغاز لتفريق المحتجين ومثيري الشغب بطريقة آمنة "تؤدي الغرض" (أي تفريق مثيري الشغب) دون أن يسقط "ضحايا" (سواء من الشرطة أو المحتجين). الغاز المسيل للدموع إذن "غير قاتل" ويمثل سلاحاً فعالاً "لحفظ الأمن".
ووضعت "مراكز السيطرة على الأمراض ومنعها" (الهيئة الأمريكية الطبية الأعلى) تصنيفاً للغاز المسيل الدموع على أنه "سلاح قاتل بدرجة أقل"، عرّف تلك الغازات بأنها أي عنصر كيميائي "يجعل الناس غير قادرين على الفعل بصورة مؤقتة لأنه يسبب حساسية للأعين والفم والحلق والرئتين والجلد". والملاحظ هنا أن التصنيف لا يقول "سلاح غير قاتل"، والفارق بين التوصيفين واضح ولا يحتاج للتفسير.
أنواع الغاز المسيل للدموع وتأثيرها
صناعة جديدة وفرصة مضمونة لتحقيق الربح حولت الغاز بأنواعه من سلاح محظور استخدامه في ساحة الحرب إلى سلاح مرحب به تماماً ومستخدم على نطاق واسع في ميادين الاحتجاج. فالناس لا تتوقف عن الاحتجاج اعتراضاً على ظروفها المعيشية أو على العنصرية والظلم، والسلطة التي تجد نفسها هدفاً لتلك الاحتجاجات تريد "تسليح" الشرطة لتمارس فض التجمعات.
وصناعة الغاز لا تشمل فقط الغازات المسيلة للدموع بأنواعها المختلفة، لكن أيضاً القذائف التي تطلقها، والتي تطوّرت على مر العقود، وتنافست الشركات المنتجة في جعل تلك القذائف أكثر أمناً بالنسبة لمن يطلقونها (رجال الشرطة) وأكثر "تأثيراً" على من تطلق لتفريقهم (المحتجين).
فمن عبوات فردية تشبه القنابل اليدوية، يتم استخدامها بإزاحة الغطاء وإلقائها باليد على التجمعات المراد تفريقها، وصولاً إلى "قاذفات قنابل الغاز" التي تشبه الآر بي جي أو الصواريخ المحمولة على الكتف أو المدافع المثبتة على الأرض، والتي تطلق قذائفها لمسافات بعيدة، تطورت تلك الأدوات التكميلية ضمن صناعة الغاز المسيل للدموع وشهدت منافسة كبيرة بين الشركات (وبخاصة الأمريكية والبريطانية والفرنسية).
وعلى المنوال نفسه، شهدت عملية تطوير الغازات المسيلة للدموع مشواراً طويلاً، تم فيه توظيف علم الكيمياء واستعمالاته العسكرية بصورة جعلت كثيراً من أنواع تلك الغازات يؤدي في حالات كثيرة إلى "الوفاة" مباشرة، في مفارقة تكشف مدى "زيف التصنيف"!
وتصنع قنابل الغاز المسيل للدموع في الغالب من جسم خارجي من الألومنيوم بأعلاه خمسة ثقوب وأسفله ثقب واحد، مغطاة كلها بطبقة من الشمع اللاصق، ويؤدي إطلاق القنبلة المسيّلة للدموع إلى ذوبان طبقة الشمع اللاصق وخروج الغاز من القنبلة.
ومن أنواع قنابل الغاز المسيّل للدموع الأكثر انتشار حالياً، غاز سي إس (CS)، وهو الاسم الشائع لمادة كلوروبنزليدين مالونونيتريل. وفي حقيقة الأمر، سي إس ليس غازاً بل يوجد على شكل رذاذ لمادة مذيبة متطايرة مضافة إليها مادة سي إس وهي مادة تكون صلبة في درجة الحرارة العادية. ويرجع اكتشاف غاز سي إس إلى عالمي كيمياء أمريكيين عام 1928 هما بن كورسون وروجر ستوتون في كلية ميدلبيري، واشتق الاسم الشائع "سي إس" من الحرفين الأولين لاسمي عائلتي مكتشفيه.
والنوع الثاني من الغازات الأكثر استخداماً في تصنيع قنابل الغاز للدموع هو غاز سي إن (CN) ، وهو اختصار لمادة كلوريد الفيناسايل Phenacylchloride) ) . واللافت في هذا الغاز تحديداً هو أنه جرت تجربته أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية، لكنه لم يستخدم أبداً في الحربين بسبب سُمّيته العالية، قبل أن يتحول لاحقاً إلى "غاز مسيل للدموع" يستخدم على نطاق واسع في فض التجمعات الاحتجاجية.
أما النوع الثالث فهو غاز سي آر (CR)، وهو اختصار لمادة ثنائي البنزوكسازيبين (dibenzoxazepine) ، وهي مادة مسيلة للدموع ومسببة للشلل المؤقت، طوّرتها وزارة الدفاع البريطانية لتستخدم في تفريق المظاهرات في أواخر الخمسينات وبداية الستينات من القرن العشرين. ومادة سي آر بلورية صلبة رائحتها شبيهة برائحة الفلفل وهي ضعيفة الذوبان في الماء ولا تنحل فيه، وفي العادة تكون موجودة على شكل حبيبات متناهية في الصغر على شكل معلق في سائل أساسه مادة البروبيلين جليكول.
وهناك أنواع أخرى من الغاز المسيل للدموع، تتمثل الاختلافات فيما بينها في طريقة تحضير الغاز الرئيسي والمواد الكيميائية التي يتم مزجها معاً، وأيضاً طريقة استخدامها أو إطلاقها على المتظاهرين، وكل ذلك يؤدي في نهاية المطاف إلى تأثيرات مختلفة ومتنوعة وأضرار تصيب من يتعرض لتلك الغازات، التي من المفترض- طبقاً للتصنيف- أن تكون غير قاتلة ومؤقتة لا تترك أضراراً مستدامة.
لكن حقيقة الأمر مختلفة تماماً عما يفترض أن تكون عليه الأمور. فهناك الآن إجماع على أن أغلب الغازات المسيلة للدموع حالياً قد تؤدي إلى أضرار صحية خطيرة، وكثير منها قد يؤدي إلى الوفاة في الحال، إذا ما تم توجيهها بشكل مباشر وفي مكان مغلق. وحتى بعيداً عما يقوله العلم والمعارضون لتلك الغازات، فالشركات المنتجة نفسها بدأت مؤخراً في كتابة تحذيرات على عبوات الغاز التي تنتجها تستحق التوقف أمامها.
شركة Combined Systems الأمريكية، واحدة أكبر منتجي الغازات المسيلة للدموع في العالم، كتبت تحذيراً واضحاً على عبواتها التي استخدمتها الشرطة المصرية بكثافة ضد المتظاهرين في ميادين مصر المختلفة، وخصوصاً ميدان التحرير، منذ اندلاع الثورة في 25 يناير/كانون الثاني 2011، مفاده "إطلاق هذه القذائف الغازية ضد الأشخاص بشكل مباشر يسبب جراحاً خطيرة أو الوفاة".
وبشكل عام تتراوح آثار الغازات المسيلة للدموع بين سيلان الدموع والمخاط والقيء والانهيار الجسدي المؤقت أو الإغماء وعدم القدرة على الحركة. لكن رغم أن غاز السي إس يصنف كسلاح غير مميت، إلا أن العديد من الدراسات توصلت إلى أنه يتسبب في أذي شديد للرئتين، وقد يؤثر أيضاً تأثيرات بالغة على القلب والكبد.
شركات الإنتاج والدول المستوردة للغاز
تتصدر شركة Combined Systems Inc الأمريكية ومقرها ولاية بنسلفانيا السوق العالمية لإنتاج الغاز المسيل للدموع، كما توجد شركة أمريكية ثانية هي Less-Lethal Systems (الأنظمة الأقل فتكاً) وكان مقرها في ولاية أركانساس وتم نقله مطلع 2013 إلى فلوريدا، إضافة إلى شركة ثالثة هي Defense Technologies/ Federal Laboratories ومقرها حالياً ولاية بنسلفانيا. وهناك شركة رابعة هي Sage Ordinance Systems Group ومقرها ولاية شيكاغو.
وارتفعت قيمة صناعة الغاز الأمريكية بصورة لافتة على مر العقود، لتصل قيمتها إلى أكثر من 6 مليارات دولار عام 2016، متوقع أن ترتفع إلى أكثر من 11.3 مليار دولار عام 2022، بحسب تقارير اعتمدت على المتاح من تقارير الأرباح لتلك الشركات. وأشارت العشرات من التقارير التي تصدرها منظمات ضد استخدام الغاز المسيل للدموع إلى أن نسبة التصدير من إنتاج الشركات الأمريكية من الغاز قد ارتفعت بشكل مطرد خلال العقد الأخير، ونسبة كبيرة من ذلك الإنتاج تتجه إلى دول عربية على رأسها الإمارات والبحرين والأردن والسعودية ومصر.
وتحتل الشركات البريطانية والفرنسية مكانة متقدمة أيضاً في صناعة الغاز المسيل للدموع، وشركة Cherming- مقرها هامبشاير- من أكثر الشركات تصديراً للغاز لدول العالم، في الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا، وهناك أيضاً شركة برازيلية تدعى Condor Non-lethal Technologies تُعتبر كذلك من الشركات الكبرى في مجال تصنيع الغاز المسيل للدموع.
وعلى الرغم من أن تلك الشركات- خصوصاً الأمريكية والبريطانية والفرنسية- لا يمكنها تصدير منتجاتها من عبوات الغاز المسيل للدموع بأنواعها إلا بعد الحصول على رخصة تتطلب موافقة وزارة الخارجية، وعلى الرغم من أن وزارة الخارجية في تلك الدول لديها قوانين تمنع تصدير تلك المنتجات للدول ذات السجل السيئ في مجال حقوق الإنسان، إلا أن الشحنات تصل إلى "تلك الدول بالذات" دون توقف!
وفي أغلب الحالات لا يتم الكشف عن شحنات الغاز التي يتم تصديرها لدول ذات أنظمة قمعية إلا من خلال تقارير صحفية استقصائية، يتم على أثرها إصدار بيانات تتعهد بمراجعة الحالات والتأكد لاحقاً من عدم منح تراخيص التصدير لتلك الدول، دون أن يتوقف العمل المربح بشكل فعلي.
قوانين استعمال الغاز حول العالم
هناك قاعدة واحدة اتفق عليها زعماء العالم فيما يخص استعمال الغاز المسيل للدموع بأنواعه كما أسلفنا، وهي أنه "محرم في الحرب"، لكن استعماله من جانب قوات إنفاذ القانون لفض التجمعات بأنواعها لا ينظمه قانون واحد حول العالم. وبشكل عام لا يوجد تنظيم أو تشريع قانوني حول هذه النقطة، رغم وجود "إرشادات دولية" من جانب الأمم المتحدة، لا تلتزم بتطبيقها غالبية دول العالم.
وفي هذا السياق، نجد أن استعمال قوات الشرطة للغاز المسيل للدموع منتشر حول العالم، في دول ديمقراطية وأخرى قمعية ديكتاتورية. فهونغ كونغ وفرنسا والولايات المتحدة- جميعها أنظمة ديمقراطية- شهدت استخدام قوات إنفاذ القانون للغاز في تفريق المظاهرات بكثافة شبهها البعض بما يحدث في دول عربية كالبحرين ومصر وتونس وغيرها. وكانت سحب الدخان الكثيفة مشهداً ملازماً لاحتجاجات السترات الصفراء في فرنسا، واحتجاجات هونغ كونغ، ومظاهرات الولايات المتحدة الرافضة لعنصرية الشرطة أثناء احتجاجات "حياة السود مهمة".
ورصد تقرير نشره مجلس العلاقات الخارجية البحثي مدى التباين في القواعد والقوانين التي تنظم استخدام الشرطة للغاز المسيل للدموع لفض التجمعات، خالصاً إلى أن "الغموض والسرية" هما العنوان الأبرز لتلك النقطة. فأغلب الدول لا تكشف عن تفاصيل استخدامها للغازات المسيلة للدموع بأنواعها.
الغاز لدعم القمع والديكتاتورية
أما قصة الغاز المسيل للدموع في الدول العربية فهي تحمل في طياتها تفاصيل قد تكون أكثر غرابة من قصة تجريم استخدامه في الحروب نفسها. فالدول العربية بشكل عام لا تمتلك مصانع لإنتاج الغاز المسيل للدموع، بحسب ما هو متاح من معلومات، لكنها من بين أكثر دول العالم استيراداً وتخزيناً واستخداماً للغاز المسيل للدموع ضد مواطنيها.
فعلى الرغم من الضجة التي أثيرت حول استخدام الغاز المسيل للدموع في الدول العربية منذ أواخر عام 2010 عندما انطلقت شرارة الثورات ضد الأنظمة القمعية من تونس، فيما بات يُعرف بالربيع العربي، كشف تقرير لموقع ميدل إيست آي نشر في أكتوبر/تشرين الأول 2021 عن تفاصيل صفقات الغاز البريطاني لدول عربية منها الإمارات والبحرين والكويت والأردن وعمان، مشيراً إلى عدم توقف توريد الغاز المسيل للدموع لتلك الدول وغيرها في أي وقت، رغم الوعود المتكررة بالعكس.
وكانت الإمارات من أكبر مستوردي الغاز المسيل للدموع من بريطانيا، وفي واحدة من أضخم صفقات الغاز على الإطلاق، استوردت أبو ظبي غازات مسيلة للدموع و"ذخيرة للسيطرة على الحشود" من شركات بريطانية عام 2014 قيمتها أكثر من 6 ملايين جنيه إسترليني. وكانت تلك الصفقة واحدة من 5 صفقات حصلت عليها الإمارة الخليجية من عام 2012 وحتى 2014.
الشرطة البحرينية البحرين
وفي ظل ندرة استعمال الشرطة الإماراتية للغاز المسيل للدموع على أراضيها، حيث عدد السكان قليل ونادراً ما تحدث تجمعات احتجاجية من الأصل، تطرح تلك الكميات الضخمة التي تستوردها الإمارات من الغاز المسيل للدموع سؤالاً يتعلق بأين تذهب وفيم تُستخدم؟
لكن الإجابة تتجه مباشرة نحو القاهرة، حيث قدمت الإمارات جميع أنواع الدعم للنظام المصري، سواء أثناء ثورة 25 يناير 2011 التي أطاحت بالرئيس الأسبق حسني مبارك أو لنظام الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي الذي كان قائداً للجيش والذي أطاح بالرئيس الراحل محمد مرسي عام 2013، والواضح أن شحنات الغاز المسيل للدموع كانت واحدة من أبرز أشكال ذلك الدعم.
أما البحرين فتعتبر واحدة من أكثر الدول العربية استخداماً للغاز المسيل للدموع ضد مواطنيها، وكشفت تقارير بريطانية وأممية عن وفاة 13 شخصاً على الأقل كنتيجة مباشرة لاستخدام الغاز المسيل للدموع خلال 12 شهراً فقط بين 2011 و2012. والغريب هنا أن الحكومة البريطانية "راجعت" تراخيص لتصدير الغاز المسيل للدموع إلى الجزيرة الخليجية عام 2011، بعد تقارير استخدام السلطات البحرينية للغاز بكثافة ضد متظاهرين سلميين خلال ما بات يعرف باسم "الخميس الأسود"، لكن البيانات التي تم الكشف عنها بعد 10 سنوات أظهرت أن تصدير الغاز البريطاني للبحرين لم يتوقف أو حتى يقل حجمه!
فعلى الرغم من "المراجعة"، منحت بريطانيا أربع تراخيص تصدير أخرى من "الغاز المسيل للدموع وذخيرة السيطرة على الحشود" للبحرين في أعوام 2013 و2014 و2015 و2018، رغم استمرار استخدام السلطات البحرينية لتلك الغازات في قمع الاحتجاجات المنددة بالفساد، بحسب تقرير الموقع البريطاني.
الأردن أيضاً من الدول العربية التي تستورد الغاز المسيل للدموع بكثافة، رغم قلة استخدامه مقارنة بدول عربية أخرى. ففي احتجاجات عام 2012 أطلقت الشرطة الأردنية الغاز بكثافة، ثم استخدمته أيضاً عام 2020 لتفريق تجمع لعمال من سيريلانكا، أغلبهم نساء.
وهذا العام، استخدمت قوات الأمن الأردنية الغاز المسيل للدموع ضد محتجين أردنيين على فرض حظر تجول، كإجراء احترازي للسيطرة على وباء كورونا في المملكة. وكشفت بيانات بريطانية عن منح لندن تراخيص لتصدير الغاز المسيل للدموع لقوات الأمن الأردنية عامي 2015 و2018.
لكن تظل الحالات الصارخة لإساءة استخدام الشرطة للغاز المسيل للدموع مسجلة في السودان والعراق ولبنان؛ إذ أطلقت قوات الأمن السودانية قنابل الغاز داخل جناح طوارئ بأحد المستشفيات أثناء الثورة ضد نظام عمر البشير. وفي العراق، أطلقت قوات الأمن مقذوفات الغاز تجاه رؤوس متظاهرين مباشرة لتقتلهم في الحال وذلك أثناء الاحتجاجات الشعبية ضد الفساد والتي انطلقت مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2019، بحسب تقرير لمنظمة العفو الدولية رصد "التجارة السامة في الغاز المسيل للدموع حول العالم".
وأثناء أحداث "محمد محمود" الأولى والثانية في مصر عامي 2011 و2012، كانت قوات الشرطة توجه قذائف الغاز المسيل للدموع نحو رؤوس المتظاهرين مباشرة، ما تسبب في سقوط قتلى وفقدان العشرات عيونهم وإصابات أخرى خطيرة ودائمة، بحسب التقارير التي رصدت تلك الأحداث تحديداً.
وبشكل عام، هناك إجماع بين الرافضين لاستخدام الغاز المسيّل للدموع لتفريق المظاهرات أو التجمعات على أن أسوأ استخدام لتلك الوسيلة (المحرمة في الحروب أصلاً) يقع في المنطقة العربية؛ لأنه الخيار الأول لقوات الأمن في جميع الحالات تقريباً. ووثّقت منظمة العفو الدولية إساءة استخدام الشرطة لعبوات الغاز المسيل للدموع بطرق متعددة، منها: إطلاق العبوات في أماكن ضيقة؛ إطلاق العبوات مباشرة على الأفراد؛ استخدام كميات مفرطة من الغاز؛ إطلاق العبوات على المحتجين السلميين؛ إطلاق عبوات الغاز المسيل للدموع على الجماعات التي قد تكون أقل قدرة على الفرار أو أكثر عرضة لتأثيرات الغاز، مثل الأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة.
وجميع تلك الحالات موثّقة داخل دول عربية، إضافة بالطبع إلى دول أخرى في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، بينما رصدت تقارير دولية وأممية ما تقوم به إسرائيل بحق الفلسطينيين في هذا الصدد واصفة استخدام دولة الاحتلال للغازات بأنواعها بأنه "يهدف إلى القتل مباشرة". فإسرائيل تستخدم أنواعاً سامة من الغازات المسيلة للدموع، وتستخدم الطائرات المسيرة لإطلاق تلك الغازات على الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، بما يرقى إلى جرائم حرب وإبادة جماعية.
خلاصة القول في قصة الغاز المسيل للدموع إنها "تجارة سامة" تهيمن عليها شركات غربية بالأساس، خصوصاً أمريكية وبريطانية وفرنسية، تصدر منتجاتها إلى الأنظمة الديكتاتورية لمساعدتها على قمع مواطنيها المحتجين على الفساد والحالمين بحياة كريمة، وفي القلب من ذلك تأتي الدول العربية التي تدفع المليارات لاستيراد وتخزين الغاز المسيّل للدموع حتى تنتهي صلاحيته ولا يمنعها ذلك من استخدامه!
مدار الساعة ـ