مدار الساعة - الحسين لعوان - شهر رمضان له خصوصيته ومنزلته الرفيعة عند المسلمين، ومظاهره الإحتفالية تكاد تكون متشابهة في البلاد العربية، وإن كانت تختلف أحيانا في بعض العادات والطقوس التي تميز كل بلد عن الآخر نتيجة مجموعة من العوامل خاصة منها الجغرافية والثقافية.
وفي الأردن، تتجسد مظاهر الإحتفال بالضيف الكريم في الشوارع والمحلات والمراكز التجارية، وفي البيوت وحتى بالمساجد وغيرها، والهدف هو إضفاء أجواء البهجة والسرور في نفوس الجميع، وإشاعة قيم المحبة وروح التكافل والتضامن والمبادرة بين كافة أفراد المجتمع، خلال هذا الشهر الفضيل الذي يتسم بروحانيته وعباداته وطقوسه الخاصة.
وتشكل الزينة الخاصة برمضان من بين المظاهر الإحتفالية التي تميز هذا الشهر المبارك في الأردن، حيث تقبل الأسر، تعبيرا منها عن فرحتها وسعادتها بمقدم شهر الصيام، على اقتناء "الفوانيس" للأطفال، والقناديل المختلفة الألوان والأشكال، إضافة إلى ما يعرف ب "هلال رمضان" الذي هو عبارة عن شريط كهربائي على شكل هلال تتوسطه نجمة تزين بها الشوارع ومداخل وشرفات المنازل، التي تتحول طيلة ليالي رمضان إلى ما يشبه لوحة بانورامية جميلة متعددة الألوان وزاهية الأطياف.
ويظل وسط العاصمة عمان أو "وسط البلد" كما يسميه الأردنيون، الأكثر تمسكا حتى الآن بعادات وتقاليد رمضان وأجوائه، كما يتجلى ذلك في عدة أسواق تقليدية مميزة ومشهورة، مثل سوق البخارية (نسبة إلى التجار الذين قدموا من بخارى)، وسوق اليمنية (نسبة إلى تجار اليمن)، ثم سوق العطارين، وكلها أسواق تدب فيها الحياة وبخاصة أثناء الليل بعد الإفطار لتواجدها بالقرب من أكبر مساجد عمان (المسجد الحسيني)، إضافة إلى سوق "البالة" للملابس المستعملة الذي يشهد بدوره حركة دؤوبة وإقبالا كبيرا لاسيما خلال العشر الأواخر من رمضان.
وفي المملكة الأردنية الهاشمية، كما في بلدان عربية وإسلامية أخرى، تغيرت موائد الإفطار الرمضانية ووجبات "السحور" بفعل تغير أسلوب ونمط الحياة، حيث كانت من قبل تحوي بضع حبات من التمر، والطماطم (البندورة)، و"الرشوف" أو العدس، إضافة إلى حلوى "اللزاقيات" و"المطابق"، وهي أكلات شعبية بسيطة وغير مكلفة.
واليوم، تزخر المائدة الرمضانية في المملكة بالعديد من الوجبات المتنوعة بأسمائها وأشكالها، حيث تشتمل إضافة إلى التمر والماء اللذين يسبقان صلاة المغرب، على "الشوربة" التي تتكون عادة من الخضر الطازجة و"الشعرية أو الشعيرية"، وكذا أنواع من "السلطة"، وطبق رئيسي غالبا ما يحتوي على الأرز مع اللحم أو الدجاج، إضافة إلى بعض "المقبلات" مثل "فتة الحمص" باللحم المفروم و"المخللات"، ثم (المسخن) وهو خبز بلدي مع البصل المقلي وزيت الزيتون ولحم الدجاج المحمر مع السماق.
ومن أبرز وأشهر الأطباق التي تؤثث المائدة الرمضانية في هذا الأردن ، نجد "المنسف" الذي يعتبر سيد المائدة، وهو عبارة عن وجبة شعبية يتم إعدادها بالأرز واللحم "البلدي" واللبن المجفف ورقاق الخبز، إلى جانب "القطايف" الحلوى الرئيسية التي تتواجد بدورها وبشكل يومي على المائدة الرمضانية، وبعض المشروبات مثل "قمر الدين" و"العرق سوس" و"التمر الهندي".
ويحظى جانب العلاقات الاجتماعية باهتمام بالغ لدى الأسر الأردنية، حيث يحرص أفراد العائلة الواحدة وكذا الأقرباء والأصدقاء، في هذا الشهر الكريم، على الالتقاء على مائدة الإفطار، خاصة في اليوم الأول منه، وذلك في إطار واجب اجتماعي لا تلغيه الظروف الاقتصادية الصعبة لبعض العائلات، بل أضحى أكثر من ذلك تقليديا يتوخى منه لم شمل أفراد الأسرة وترسيخ العلاقات الاجتماعية أكثر في هذه المناسبة المباركة.
وخلال أيام رمضان تتنوع أوجه التكافل والتضامن الاجتماعي، حيث تكثر موائد الرحمان والخيم الرمضانية التي أضحت تقليدا سنويا في هذا البلد على غرار عدد من البلدان الأخرى العربية والإسلامية، ذلك أنه إلى جانب الموائد التي تنظمها وزارة الأوقاف وعدد من الجمعيات الخيرية، نجد مبادرات تطوعية وتلقائية من الأفراد والعائلات التي تتسارع إلى فعل الخير طيلة هذا الشهر (توزيع مواد غذائية وعينية على الفئات المعوزة والمحتاجة)، إيمانا منها بقيم التضامن وواجب التآزر والتكافل الإنساني. كما تحرص الأسر بهذه المناسبة العظيمة على إخراج زكاة الأموال أو دفعها للمؤسسات الخيرية التي تتولى بدورها توزيعها على مستحقيها من الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل (...).
وما يثير الانتباه أيضا خلال هذا الشهر الفضيل هو إطلاق مبادرة تسمى "إفطار الصائم"، وتتمثل في توزيع المياه والتمور على المارة في الشوارع والطرقات والذين لم يسعفهم الوقت للوصول إلى وجهتهم قبل وقت الإفطار، إلى جانب المبادرات التي تقوم بها جمعيات من خلال نصب خيم لمساعدة المحسنين وأهل الخير على إقامة مأدبة إفطار الصائم للأسر المعوزة وللطلبة من الدول الإسلامية والعربية الدارسين بالجامعات الأردنية.
وفي هذا الشهر العظيم، وفي إطار التعايش الديني بين المسحيين والمسلمين، نجد مبادرات محمودة يقوم بها عدد من أبناء الطائفة المسيحية في بعض محافظات المملكة من خلال توزيع التمور على الصائمين وإقامة موائد وإفطارات رمضانية، ضاربة بذلك أروع الأمثلة في المودة والتآخي والتعايش والتسامح والمساندة بين أبناء الوطن الواحد في رمضان وغيره من الشهور الأخرى.
وفي نفس الإطار، تشارك الطائفة المسيحية بالأردن المسلمين احتفالاتهم بأجواء هذا الشهر الأبرك، بالانضمام إلى الأعمال الخيرية، من خلال برنامج الإعانة الرمضاني الذي تنفذه جمعية "مجلس الكنائس للشرق الأدنى لإغاثة اللاجئين" والذي يشمل الإستجابة لحاجات ما يقرب من 3090 أسرة لاجئة ومحتاجة يقدر عدد أفرادها بحوالي 18 ألف و540 شخصا موزعين على مجتمعات محلية في عدد من المحافظات الأردنية.
ومن بين المظاهر الأخرى التي تميز شهر الغفران، الجانب الروحي الذي يحظى هو الآخر باهتمام كبير لدى كافة أفراد الأسر الأردنية على غرار باقي المسلمين في بقاع العالم، حيث تكثر فيه العبادة وتبادل صلات الرحم والزيارات بين الأقارب، إلى جانب المواظبة اليومية على أداء الصلوات الخمس والتراويح في المسجد، وكذا الإقبال على تلاوة القرآن والأذكار وحضور المجالس العلمية التي قلما نجدها على مدى باقي أشهر السنة.
وبمختلف محافظات الأردن، سطرت الجهات المعنية برامجا للوعظ والإرشاد والتوعية الدينية في مختلف مساجد ومصليات المملكة والتي يقدر عددها بنحو سبعة آلاف مسجد ومصلى، حيث يشكل شهر رمضان مناسبة لتحسيس المواطنين ومناقشة مجموعة القضايا والظواهر الاجتماعية التي تهم الحياة اليومية للإنسان وكذا فضائل ومزايا هذا الشهر الكريم.
وبعد أداء صلاتي العشاء والتراويح، يفضل الكثير من ساكنة الأردن قضاء أوقاتهم خارج البيت خاصة في خيام يتم نصبها في الأحياء الشعبية وتخصص للجلسات الرمضانية الليلية، وتبادل أطراف الحديث، وتناول الطعام والمشروبات، هذه الجلسات التي قد تستمر في كثير من الأحيان حتى وقت متأخر من الليل وقبل الفجر.
وما يميز شهر رمضان لهذه السنة هو حضور الجانب الثقافي بشكل مختلف ومتنوع من خلال برنامج لأمسيات رمضانية تتضمن الغناء والأمداح والإنشاد الصوفي لفرق فنية محلية وعربية وإسلامية تؤثث طوال الشهر فضاء المدرج الروماني الصغير (الأوديون) بوسط عمان، إلى جانب أمسيات أخرى فنية في مواقع أخرى مختلفة بالمملكة.
وتندرج هذه الأنشطة الثقافية والفنية ضمن البرنامج الثقافي لأمانة عمان بالتزامن مع اختيار عمان عاصمة للثقافة الإسلامية للعام الجاري، والذي يتضمن العديد من الفعاليات الثقافية الكبرى في مجالات الفنون والفكر والأدب.
ورغم تنوع وسائل التكنولوجيا الحديثة التي يستخدمها الإنسان للاستيقاظ لوجبة "السحور"، وكذا التغير الذي طرأ على نمط وأسلوب الحياة، فإن شخصية (المسحراتي) في الأردن لا تزال حاضرة في بعض الأحياء ولو بشكل محدود جدا، حيث يتطوع شخص ما للقيام بهذا العمل إيمانا منه بضرورة الحفاظ على هذا الموروث الثقافي الذي ارتبط بشهر رمضان ولفترة طويلة من الزمن. (ومع)