مدار الساعة - تعد الأسرة نواة المجتمع، وحلقة هامة من حلقات التنظيم البشري عامة على مر العصور والأزمان، لا تدانيها في أهميتها ومكانتها ودورها أي وحدة أخرى من الوحدات المستحدثة للمجتمع كالأحزاب والنقابات والجمعيات وغيرها، ولذلك ليس غريبا أن تحيطها الشريعة الإسلامية بكل هذه التعاليم السامية، فقد اعتنت ببناء هذه المنظومة من خلال إرساء مبادئها العامة، وغطت كل تفاصيلها بالأحكام الجزئية، وكان للسنة النبوية دور ظاهر في هذه العناية، وإبراز مقاصدها وغاياتها النبيلة في كثير من تشريعاتها، وهذا تلخيص لأهم مقاصد الأسرة في السنة النبوية.
المقصد الأول: من مقاصد الشريعة في مجال الأسرة : تنظيم العلاقة بين الجنسين.
حرصت السنة النبوية على تنظيم العلاقة بين الجنسين من خلال تحريم العلاقات الجنسية غير الشرعية، وحذرت أشد التحذير من انفلات الغريزة الجنسية فيما حرم الله تعالى، وأغلقت كل ما من شأنه أن يثير الغرائز الساكنة، ويفتح منافذ الفتنة على الرجل أو المرأة ويغري بالفاحشة أو يقرب منها أو ييسر سبيلها، فإن الإسلام ينهى عنه ويحرمه سدا للذريعة، ودرءا للمفسدة.
ومن توجيهاته صلي الله عليه وسلم في الترهيب من الزنا، والترغيب في حفظ الفرج، قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " رواه البخاري ومسلم.
وفي حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم: "إياكم والدخول على النساء"، فقال رجل من الأنصار: فرأيت الحمو؟ قال: "الحمو الموت ". رواه البخاري ومسلم، وقال عليه الصلاة والسلام أيضا: "لا يخلون رجل بامرأة، ولا تسافر امرأة إلا معها ذو محرم " أخرجاه في الصحيحين.
كما نهت السنة النبوية المطهرة عن مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: "لأن يطعن في رأس أحدكم. بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له" أخرجه الطبراني في معجمه الكبير، ورجاله رجال الصحيح.
المقصد الثاني من مقاصد الشريعة في مجال الأسرة : حفظ الأنساب والأعراض وصيانتها من الفوضى والاختلاط.
فمنعت السنة النبوية الذرائع والأسباب المؤدية إلى الإخلال بمقصد حفظ النسب والعرض كالخلوة بالمرأة الأجنبية والنظر بشهوة، وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: "يا على! لا تتبع النظر النظرة، فإنما لك الأولى، وليس لك الأخرى " أخرجه الترمذي في سننه.
كما رتبت السنة النبوية الأجر العظيم والثواب الجزيل على غض البصر، كقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ترى أعينهم النار: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين كفت عن محارم الله " أخرجه الطبراني في معجمه الكبير.
ومن ذلك أيضا إيجاب السنة العدة على المرأة المطلقة أو المتوفى عنها، حيث أوجبت الشريعة الإسلامية على المرأة التي فسخ نكاحها، أو مات عنها زوجها، أو طلقت، أن تعتد لتكون تلك العدة دليلا على براءة الرحم، وحفظا للأنساب من الاختلاط. وقد جاءت السنة النبوية المطهرة مؤكدة لما ورد في كتاب الله تعالى بخصوص عدة المرأة التي توفي عنها زوجها، وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث إلا على زوجها، فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا". رواه البخاري ومسلم.
وإذا كانت السنة قد رغبت بالنكاح، ورهبت من ابتغاء ما وراءه من سبل العلاقات المحرمة، فتكون الشريعة بذلك قد قصدت إلى تقنين العلاقة بين الجنسين، وتنظيم قنوات تصريف هذه الغريزة، بمنظومة من التشريعات المرتبطة بالأخلاق والقيم المثلى، فنستطيع القول بأن من مقاصد الشريعة في أحكام الأسرة: تنظيم العلاقة بين الجنسين، وإبعاد أتباعها عن الفوضى التي شهدتها الجاهلية الأولى، ويشهدها العالم اليوم بأبشع من سابقتها.
المقصد الثاني: من مقاصد الشريعة في مجال الأسرة: تحقيق السكن والمودة بين الزوجين.
ولكي لا تنحصر العلاقة بين الزوجين في صورة جسدية بحتة، نبهت السنة النبوية المطهرة إلى أن من مقاصد هذه العلاقة أن يسكن كلٌ من الزوجين إلى الآخر، وأن يكون بينهما مودةٌ ورحمةُ وتآلفٌ وتعاون على البر والتقوى.
فاهتمت السنة النبوية المطهرة أيما اهتمام، بتحقيق هذا المقصد وتفعيله في حياة الزوجين، وذلك من خلال: الدعوة إلى المعاشرة بالمعروف بين الأزواج، وفي ذلك يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: "إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله " أخرجه الترمذي في سننه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» رواه البخاري ومسلم.
وقال أيضا في حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:: "لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إن كره منها خلقا رضى منها آخر" أخرجه مسلم.
ومن خلال: سن جملة من الآداب والأحكام عند الجماع بين الزوجين، يرقى بالعلاقة عن أن تكون لذة بهيمية صرفة، وقضاءا عابرا للوطر، بل قرنها بأمور من النية الصالحة والأذكار والآداب الشرعية ما يرقى بها إلى مستوى العبادة الي يثاب عليها المسلم.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (زاد المعاد): " وأما الجماع أو الباءة، فكان هديه فيه صلي الله عليه وسلم أكمل هدي، يحفظ به الصحة، وتتم به اللذة وسرور النفس، ويحصل به مقاصده التي وضع لأجلها، فإن الجماع وضع في الأصل لثلاثة أمور هي مقاصده الأصلية:
أحدها: حفظ النسل، ودوام النوع إلى أن تتكامل العدة التي قدر الله بروزها إلى هذا العالم.
الثاني: إخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتقانه بحملة البدن.
الثالث: قضاء الوطر، ونيل اللذة، والتمتع بالنعمة، وهذه وحدها هي الفائدة التي في الجنة، إذ لا تناسل هناك، ولا احتقان يستفرغه الإنزال " انتهى.
ومن آداب الجماع التي شرعت في السنة النبوية للوصول إلى تحقيق هذا المقصد:
1. أن يقدم الزوج بين يدي الجماع بالملاطفة والمداعبة والملاعبة والتقبيل، فقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يلاعب أهله ويقبلهم.
2. وأن يقول الدعاء الوارد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله، قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا"، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "فإن قضى الله بينهما ولدا، لم يضره الشيطان أبدا" أخرجه البخاري في صحيحه.
3. لا يجوز له بحال من الأحوال أن يأتي امرأته في الدبر، ففي حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ملعون من أتى امرأته في دبرها" أخرجه النسائي في سننه الكبرى .
4. وإذا جامع الرجل أهله ثم أراد أن يعود إليها فليتوضأ، لقوله صلي الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءا، فإنه أنشط في العود" أخرجه مسلم في صحيحه.
5. يحرم على كل من الزوجين أن ينشر الأسرار المتعلقة بما يجري بينهما من أمور المعاشرة الزوجية، بل هو من شر الأمور، يقول النبي صلي الله عليه وسلم: "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضى إليه ثم ينشر سرها" أخرجه مسلم في صحيحه.
6. أن لا يعجل زوجته حتى تقضي حاجتها، فقد روى عبد الرزاق في مصنفه وأبو يعلى في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا غشي أحدكم أهله فليصدقها، فإن قضى حاجته ولم تقض حاجتها فلا يعجلها". . قال المناوي رحمه الله في فيض القدير: ( فإن سبقها ) في الإنزال وهي ذات شهوة ( فلا يعجلها ) أي فلا يحملها على أن تعجل فلا تقضي شهوتها بل يمهلها حتى تقضي وطرها كما قضى وطره، فلا يتنحى عنها حتى يتبين له منها قضاء إربها، فإن ذلك من حسن المباشرة والإعفاف والمعاملة بمكارم الأخلاق والألطاف". انتهى.
وكل هذه الآداب الراقية، والتوجيهات النبوية السامية، تهدف إلى تحقيق علاقة عادلة، يتحقق بها المودة بين الزوجين، والسكن والاطمئنان بينهما، فهذا مقصد من مقاصد الشريعة في تكوين الأسرة، وإقامة بنيانها على أساس محكم، حتى تتمكن من القيام بمهمة التربية والتنشئة في ظلال من الطمأنينة والأمان.
المقصد الثالث: من مقاصد الشريعة في مجال الأسرة: حفظ التدين في الأسرة:
اعتنت السنة النبوية الشريفة بإبراز هذا المقصد في مجال الأسرة، ولفتت الأنظار إلى أهمية التدين في الأسرة، ومسؤولية رب الأسرة عن العناية بذلك، ومن أجل تحقيق هذا المقصد دعت السنة النبوية إلى ما يأتي:
أولا: الدعوة إلى اختيار المرأة ذات الدين، وتقديم ذلك على المال والنسب والحسب والجمال، فقد أرشد النبي صلي الله عليه وسلم إلى الصفات التي ينبغي أن يطلبها الرجل في المرأة التي يريد الزواج بها، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، وحسبها، وجمالها، ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك " أخرجه البخاري في صحيحه.
ثانيا: أمر الأبوين بتنشئة الأولاد على العقيدة الصحيحة السليمة، واجتناب ما يهدمها أو يضعفها، كما ورد في حديث عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء" أخرجه البخاري في صحيحه.
ثالثا: دعوة الزوج إلى تعليم الزوجة والأولاد أحكام دينهم، وتربيتهم على الأخلاق الفاضلة، عن عبد الله بن عُمَرَ رضيَ الله عنهما أنَّه سَمِعَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته. ..."، الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، وفي سنن الترمذي عن أيوب بن موسى، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما نحل والدٌ ولداً من نَحْل أفضل من أدب حسن".
فالأسرة إذن هي النواة الأولى لتنشئة الإنسان على الإسلام عقيدة وعملا وسلوكا، وحفظ التدين في الأسرة يعد من الضروريات وذلك لما يترتب على فقدانه في البيئة الأسرية من فساد وتفكك وسوء تربية الأجيال التي ستحمل مسؤولية المستقبل، ولذلك لحظ العلماء هذا المقصد من خلال النصوص النبوية التي سبقت، وغيرها مما لم يذكر.
المقصد الخامس من مقاصد الشريعة في مجال الأسرة: حفظ النسل (النوع ) وتكثيره .
يعد حفظ النسل المقصد الأصلي للزواج، وفي ذلك يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في (إحياء علوم الدين): " إن للزواج خمس فوائد: الولد، وكسر الشهوة، وتدبير المنزل، وكثرة العشيرة، ومجاهدة النفس بالقيام بشؤون الزوجات، وإن الولد هو الأصل المقصود، وله وُضِع النكاح، والمقصود بقاء النسل، وأن لا يخلو العالم عن جنس الإنس " انتهى.
وذلك من خلال: الترغيب بالنكاح كما سبق، النهي عن التبتل والاختصاء، قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "رد رسول الله صلي الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لا ختصينا" أخرجه البخاري في صحيحه.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كنا نغزو مع رسول الله صلي الله عليه وسلم وليس لنا شيء فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك" أخرجه البخاري في صحيحه.
هذه أهم مقاصد النكاح في الشريعة عموما، وقد أبرزتها النصوص النبوية على وجه الخصوص، ولو تأملنا النصوص النبوية فيما يتعلق بالأسرة لبرزت مقاصد كثيرة، وذلك لأن الشريعة اهتمت بهذه المنظومة اهتماما ظاهرا، في الأصول والفروع، ووجهت البشرية إلى نظام الارتباط بين الرجل والمرأة بشكل تفصيلي، ولذلك ظلت قوانين الأسرة، أو ما يسمى (قوانين الأحوال الشخصية) عصية على التدخلات البشرية في كثير من بلدان المسلمين، لإحاطة الشريعة لها بالنصوص الشرعية الوافرة.