مدار الساعة - تناول الأديب الأردني والكاتب جبريل عايد الزيدانيين في كتابه "بصيرا ذاكرة الزمان والمكان" الذي صدر مؤخرا عن وزارة الثقافة الأردنية، تاريخ هذه البلدة التي تتربع على ربوة عالية تحيط بها الأودية السحيقة من جهاتها الثلاث لتشكل منطقة استراتيجيةً ذات مدخل ومخرج واحد متصل مع المناطق المجاورة لها من الجهة الجنوبية فقط في محافظة الطفيلة في جنوب المملكة الأردنية الهاشمية، منذ عهد ممكلة آدوم مرورا بالفتوحات الإسلامية والحقب التاريخية التي مرت عليها إلى ثمانينيات القرن الماضي.
ويرصد الكتاب من خلال "11" فصلا تطور مجتمع هذه البلدة الواقعة في محافظة الطفيلة جنوب العاصمة عمان "180" كلم والتي تعد من أقدم المدن في الأردن ، تفاصيل حياة الأباء والأجداد، ويروي بشكل شيق للأبناءِ والأحفاد قصص الآباء والأجدادِ بلغة سهلة وأسلوب بسيط ليستذكروا حكاياتِ الماضي، ويسرد على مدى "100" الملامح العامة لبلدة بصيرا متضمنا : اسمها وموقعها، وكنوزها وثرواتها الطبيعة والحضارات التي تعاقبت على المدينة ومقامات الصحابة فيها، والحياة اليومية بكافة تفاصيلها، بما يحسد مكانة هذه البلدة الثقافية وكنوزها التاريخية والحضارية.
وتعد محافظة الطفيلة إحدى محافظات الجنوب الأربعة التي تتكئ على إرث تاريخي وثقافي وطبيعي شهد انطلاقة الثورة العربية الكبرى، وبدايات تأسيس الدولة، فضلا عن مساهمتها من خلال الثروة الطبيعية – الاسمنت البوتاس الفوسفات الكهرباء المنتجة من طاقة الرياح والكثير من المعادن- في مسيرة نهضة الدولة الأردنية.
وتحدث الكاتب عن الموقع والحدود والتقسيمات الإدارية والخصائص الجغرافية، والثروات المعدنية والطبيعية ومنها محمية ضانا التي اصحبت محمية طبيعية في عام 1989م على مساحة تتجاوز "300" كلم وتمتد على سفوح عدد من الجبال وتتخلها بعض الوديان وتتنوع التركيبة الجيولوجية فيها بين الحجر الجيري والجرانيت، وهي المحمية الوحيدة في الأردن التي تحتوي الأقاليم الحيوية الجغرافية الأربعة: إقليم البحر الأبيض المتوسط، والأقليم الإيراني-الطوراني، وإقليم الصحراء العربية، والإقليم السوداني، وهي أكثر المناطق تنوعا في الأردن وتزخر ارضها بحوالي "800" نوعا من النباتات، كما أنها موئل للعديد من الطيور والثديات وفيها أنواع معهددة بالانقراض عالميا مثل النعار السوري، والعويسق، والثعلب الأفغاني، والماعز الجبلي، وهي من أفضل الأماكن في العالم التي تدعم تواجد مثل هذه الثديات وتكاثرها.
وتطرق الكاتب إلى كنوز بلدة بصيرا الطبيعية وآثارها التاريخية مشيرا إلى البلدةِ القديمةِ التي اكتشفتها الباحثة الإنجليزية "كريستنال بِنِتْ" في بدايةِ السبعينياتْ وهي عبارة عن بيوت وأسواق مطمورة تحتَ الترابِ في شمالِ البلدةِ التي كانت عاصمةً لمملكةِ آدوم هذه المملكة التي كانت تمتد على مساحات شاسعة، كما تحدث عن عصر الفتوحات الإسلامية التي شكلتْ منعطفًا مهمًّا في تاريِخ بصيرا.
ووثق الكتاب الآثارِ الإسلاميةِ في بصيرا ومن أهمّها مقام الصحابي الجليل الحارثِ بنِ عمير الأزْدي؛ وهو رسول رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، إذ تقولُ الرواياتُ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلمْ - في السنةِ السادسةِ للهجرةْ - بَعَثَ معهُ خطابًا إلى عظيمِ بُصْرَى من أجلِ دعوتِهِ للإسلامْ، لكنَّهُ عندما اقترب من منْطقة مؤتةْ تعرّضَ له شُرَحْبيلُ بنُ عمرو الغسّاني؛ عظيمُ بُصْرَى وضربَ عنقه، فاشتدّ ذلك على رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ، فجهزَ جيشًا مؤلفا من ثلاثةِ آلافِ مقاتل لملاقة الروم في غزة مؤتة، تحت إمرةِ زيدِ بنِ حارثة، فإنِ استُشْهدَ فعبدالله بن رَوَاحة، فإنِ استشْهدَ فجعفر بن أبي طالب، فإنِ استُشْهِدَ الأخير فيَختارُ المسلمونَ قائدًا لهم، وبالفعلِ استشْهد الثلاثة رضوان اللهِ عليهم، فاختارُ المسلمون خالدَ بنَ الوليد، فكانَ النصرُ حليفَهم رغمَ قلةِ عددِهم مقارنةً بالروم.
وتناول الكتاب في الجزء الثاني من الكتابِ وعنوانه "حكاية بصيرا من ذاكرة الزمان والمكان"، العشائرَ وعاداتِهم وتقاليدَهم في المدةِ من بدايةِ العشرينياتِ إلى بدايةِ الثمانينياتِ من القرنِ الماضي التي تميزتْ بالبساطةِ، والاكتفاءِ الذاتي، والتكافلِ الاجتماعي، وذلكَ وفقًا لما سمعَهُ الكاتبُ من كبارِ السنِّ من أهلِ البلدة، كما تناول فصول السنة وكيفية التعامل مع فصل الشتاء القارص مرورا بأحداث اليومِ العامرةِ بالحركةِ الدؤوبةِ للنِسوةِ كما للرجالِ كلّ في مجالِ اختصاصِه، وكذلكَ تحدثَ الكاتبُ مطولًا عن فصلِ الصيفِ وعن الحصادِ للعديدِ من المزروعاتِ سيما محاصيلُ العدسِ والقمحِ والشعير.
وخصص الكاتب فصلا بعنوان " بصيرا في سطور الماضي" تناول فيه الملامح العامة في بصِيرَا بين الثلاثينياتِ والثمانينياتِ منَ القرنِ الماضي، وعشائرُ بُصِيرَا، وبيتُ الشَّعَرِ.. بيت العز، والطعامٌ الصحيٌّ دونَ إضافات، والقهوةُ العربيةُ ومدلولاتُها، وإكرامُ الضيف، وبصيرا وعلاقاتها مع فلسطين قبل عام 1948م.
ويبين الكاتب أن أهل بصيرا بخاصة والأردن بعامة يذهبون إلى فلسطين بشكل طبيعي قبل النكبة عام 1948م حيثُ لا حدودَ ولا جوازات، وكانت الرحلةُ سيراً على الأقدامِ أو على الدوابِّ، وتستغرقُ يومًا وليلةً للوصولِ إلى الخليل، حيث كانَ المسير من بصيرَا إلى مدينةِ الخليلِ عبرَ وادي الضَّحْلِ، مرورًا بوادي عَرَبة، ومن ثمَّ إلى جبالِ الخليلِ الشرقية، وبعد الوصولِ إلى الخليلِ يذهبون إلى القدس، ويافا، وحيفا، وبئر السبع، وغزة، وباقي مَناطقِ فِلَسْطِين، بقصدِ العملِ لكسبِ لقمةِ العيشِ، وكانتِ الأجرةُ اليوميةُ وقتئذٍ قرشين، وكانوا يذهبون إلى فِلَسْطِين بشكل جماعي للعملِ والتجارةِ وبيعِ المواشي والدواب، وإحضارِ القُمَاشِ والسّكرِ والشّاي والأَرُز والفواكه، حيثُ كانَ شُوالُ البرتقالِ الواحدِ بقرشٍ واحدٍ فقط. وفي رحلةِ العودةِ يُحضرون معهم من فِلَسْطِينَ أشجارَ البرتقالِ والخشخاشِ والليمون، ويزرعونَها في قرقور لأنها مِنْطَقَةٌ دافئة في بصيرا.