المسايرة السياسية فن يتقنه العرب اكثر من غيرهم. في البيت والمدرسة والشارع والنادي والعمل نتعلم فن المسايرة وفي مضارب العشيرة وعلى شاشات التلفزة وخلال الندوات والمؤتمرات والزيارات نمارسها فنساير بعضنا وضيوفنا وكل من يصادفنا فنشعرهم بانهم اسمى من ان يقعوا في الخطأ او يقوموا بما يخرج عن الذوق. المسايرة وحسن الخلق والكرم امور متداخلة وربما تكون مسؤولة عن إدماننا على تكرار اللقاءات والمجاملات والزيارات التي تستهلك الكثير من وقتنا ولا تنتج الكثير من الاثر على حياتنا غير التأكيد على ما اعتدنا عليه والمحافظة على الواقع من اي تغيير.
كل مرة يلتقي فيها الافراد او الجماعات ينهال الاطراف على بعضهم بعبارات الترحيب والاطراء والاشادة ويتجنب الافراد التعبير عن مواقفهم وآرائهم الحقيقية لكي يحظوا بقبول ورضا الغير. في اجتماعاتنا ومؤتمراتنا ومناسباتنا نتوصل الى التوافق بسرعة كبيرة. في مجتمعاتنا نشأت المسايرة لتحافظ على تماسك ووحدة الجماعة واستمرت كعادة بفعل الخوف من الرفض وضعف الثقة بالنفس والخجل من السؤال اوالاعتراف بالجهل وتجنبا للنقد أو التجريح.
لفترات طويلة من تاريخ الامة كانت النميمة والاستغابة والمؤامرة بعضا من اوجه التعبير غير العلني عن الرفض والمعارضة والخروج على الاجماع. في التاريخ العربي نشأت مئات الانقلابات والانشقاقات والاغتيالات التي قام بها افراد كانوا يظهرون الحب والطاعة لمن خرجوا عليهم.
التحدي العلني للإجماع والخروج على قواعد المسايرة ظهر واضحا في السنوات الاخيرة بفعل الاتصال وثورة المعلومات وانتشار منابر التعبير. كنتيجة لهذا التغيير تمكنت بعض الشعوب العربية من التخلص من انظمتها السياسية إبان ثورات الربيع العربي وظلت تصارع للوصول الى توافقات حول ايجاد نظم بديلة. اليوم تمتد حركة التمرد والعصيان والمعارضة الى البنى والتنظيمات والمجالس الاقليمية الاكثر التزاما بقيم واخلاقيات المسايرة. فما الذي حصل؟ وهل أسهمت زيارة دونالد ترامب للمنطقة في تحريك المياه الراكدة؟
الحديث عن الامن العالمي ومحاربة الارهاب ومخاطبة العالم الاسلامي من خلال قياداته كان اول اللقاءات الدولية التي يواجه فيها الرئيس ترامب اكثر من خمسين زعيما يمثلون العالم العربي والاسلامي ويتحدث اليهم بلغة تشخيصية مباشرة فيها من الوضوح والحزم ما يلفت الانظار محليا ودوليا لشجاعة وقدرة الرئيس على طرح اكثر القضايا إلحاحا واهمية لمعظم دول ومجتمعات العالم على زعماء العالم الاسلامي الذين طالما اقتصرت استجابات بعضهم لاتهام الاسلام بالارهاب بالنفي والرفض والتبرير.
نجاح الزيارة الرئاسية للمنطقة وتوالي انباء الصفقات الاقتصادية اعطت للرئيس الاميركي احساسا بالنشوة وخففت مرحليا من حدة الهجوم الاعلامي الذي تعرضت له ادارته محليا لكنها ولّدت لدى الاطراف العربية والاسلامية الكثير من الاسئلة ودفعت بالبعض الى استثمار وجود الرئيس الاميركي والحضورالاعلامي الواسع لاظهار التزامهم بهدف محاربة الارهاب كما تعرفه الادارة الاميركية والدولة المضيفة دون الالتفات الى انعكاسات ذلك على القضية الفلسطينية ومصير الصراع العربي الاسرائيلي الذي اختفى الحديث عنه في كلمات الرئاسة المشتركة للقمة وورد على لسان الملك عبدالله الثاني.
الدفعة المعنوية التي اعطتها الزيارة للدولة المضيفة والحلفاء اشعلت حماسة البعض ودفعت بهم الى التعبير عن نقدهم ومآخذهم وتحفظاتهم على مواقف واتجاهات جيرانهم علنا وبلغة وروح تتجاوز اساليب المسايرة والغموض التي طالما هيمنت على العلاقات البينية العربية.
الحالة الجديدة التي تخيم على اجواء المنطقة والاقليم تمثل تحولا جديدا في نظرة الدول والانظمة والشعوب العربية للكثير من المواقف والقيم والعادات والممارسات التي هيمنت على تفكير وسلوك ابناء المنطقة لقرون. صحيح ان هذه ليست المرة الاولى التي يُخرِج فيها اعضاء مجلس التعاون الخليجي خلافاتهم للعلن لكنها المرة الاولى التي يحددون فيها اوجه الخلاف ويختبرون مدى التزام الاعضاء بمبادئ حرية وسيادة الدول وحق تقرير المصير وحق الاختلاف.
زيارة ترامب للعربية السعودية ودعوته دول المنطقة للوقوف صفا واحدا في مواجهة الارهاب وعزل الدول الداعمة والممولة له وتصنيف المؤتمر لكل من ايران وحماس وحزب الله ككيانات ارهابية اغضب البعض الذين رأوا في ذلك تجاهلا لاسرائيل وممارساتها التي شكلت مصدرا ومبررا للعديد من الجماعات التي اتخذت من ذلك مبررا لقيامها وافعالها وتعدياتها.
زيارة العمل الرئاسية وما تخللها من انجازات تركت آثارها على قيم وافكار واساليب تناول العرب لقضاياهم واختلافاتهم. كل ذلك بعيدا عن اساليب التوافق والمسايرة والمواقف المزدوجة التي استوطنت ثقافتنا لقرون.
الغد