مدار الساعة - مقاطعة بلنسية- في شرق إسبانيا الآن- واحدة من كبرى الحواضر الأندلسية، وتعتبر من قواعد الأندلس العامرة بالتجارة والعمارة، إذ تقع بالقرب من البحر المتوسط في شرق الأندلس، لهذا كان سقوط بلنسية مطمعاً للقشتاليين، الذين استولوا عليها بالفعل في زمن رودريغو دياث دي بيبار في 1094، وظلت بلنسية تحت حكم القشتاليين قرابة 8 أعوام حتى استردها المرابطون وذلك في عام 1102.
ثم في عام 1230 انسحب الوالي الموحدي أبو زيد عبدالله محمد، في الوقت الذي كان فيه سلطان الموحدين ينهار في الأندلس، فلجأ أبو زيد إلى ملك أراجون خايمي الأول وانضوى تحت حمايته، وعقد معه معاهدة، وكان ذلك بعد أن ثار أهل بلنسية على هذا الوالي.
كان يقود الثورة ضد الموحدين شخص يدعى أبو جميل زيان بن مدافع، الذي عمل على توطيد سلطانه في بلنسية وأحوازها خلفاً للموحدين، والذي لم يكتفِ ببلنسية، حيث توسع في الاستيلاء على المدن المجاورة، عازماََ على أن ينتقم من مملكة أراجون؛ لما قاموا به من تخريب في أراضي بلنسية بتحريض من أبو زيد.
من أجل ذلك، هجم أبو جميل على أراضي أراجوان وأوقع مجموعة من الجند في يده كأسرى، بجانب ما أسقطه من الغنائم، فعزم ملك أرجوان على غزو بلنسية وكان ذلك يقتضي أن يسيطر أولاًَ على سائر المدن الأمامية لبلنسية؛ حتى يستطيع عزلها ويحرمها من كل وسائل الدفاع.
في ذلك الوقت كان البابا غريغوري التاسع مهتماً بتنظيم صفوف النصارى لغزو الأندلس؛ وهو ما دفعه إلى دعم ملك أراجون، فأرسل له كثيراً من الفرسان تحت لوائه لاسيما فرسان الاسبتارية، وهم فريق من الجند شاركوا في الحروب الصليبية بالمشرق الإسلامي، ويعرفون بوحشيتهم وكرههم للمسلمين، كما شرح الجغرافي المغربي الشريف الإدريسي في كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق".
سقوط بلنسية: بداية الحرب وسقوط حصن أنيشة
في عام 1233 كانت أول قاعدة هامة قصد إليها ملك أراجون هي بلدة بريانة، فقامت قوات أراجون بحصارها، حيث كانت تتمتع بحصون منيعة، إلا أن المسلمين كانوا قد استعدوا للدفاع عنها بقوة، فضربها جيش أراجون بالمنجنيق وحاولوا اقتحامها عدة مرات، لكنها بقيت صامدة حتى استمر الحصار شهرين متتابعين حتى نفدت المؤن والموارد، واضطر المسلمون في النهاية إلى التسليم في يوليو/تموز 1233.
ثم زحفت قوات أراجون لتستولي على مجموعة من القلاع والقرى المجاورة لبريانة في عام 1234، لكن وقف مشروع غزو بلنسية عند هذه المرحلة، بسبب اضطرابات داخلية في مملكة أراجون، اضطر الملك بسببها إلى العودة لبلاده، ومضى أكثر من عامين لم يقم فيهما خايمي بأي من الغارات على بلنسية سوى غارات صغيرة.
وفي 14 أغسطس/آب عام 1237، قرر خايمي غزو حصن أنيشة المنيع الذي يقع على بُعد 11 كيلومتراً من شمال بلنسية، وهو أهم حصونها الأمامية. كان ما يزيد مناعة الحصن أنه يقع على ربوة عالية، وكان الأمير زيان يفطن إلى أهمية ذلك الحصن ومدى خسارة المسلمين إذا سقط الحصن في يد خايمي، فأمر بهدمه، لكن الملك أصر على احتلال موقعه، فهجم على أنيشة وهُزم المسلمون الذين تصدوا له، واحتل المكان وبنى فوق الربوة نفسها حصناً جديداً.
اتخذت قوات أراجون هذا الحصن قاعدة للإغارة على جميع أنحاء بلنسية، وشعر أبو جميل زيان بخطورة استيلاء خايمي على هذا الموقع، فجهز جيشاً قوامه 600 فارس و40 ألف مقاتل، ثم اتجه نحو تل أنيشة ووقعت معركة عنيفة انتهت بهزيمة المسلمين، حيث استُشهد منهم عدد كبير، لاسيما من العلماء والفقهاء والوجهاء في بلنسية.
وكان ممن استُشهد في هذا القتال؛ الشيخ أبو الربيع سليمان الكلاعي كبير علماء الأندلس ومُحدثها، وهو مع علمه ومكانته، كان قد اشترك مقاتلاً في معظم المعارك التي كان يدافع فيها أهل الأندلس عن مدنهم، ويصف المؤرخ المصري محمد عبدالله عنان في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس"، أن الكلاعي كان يتحلى بالجرأة والشجاعة، وكان في موقعة أنيشة يتقدم الصفوف ويقاتل في شجاعة، ويحث الجنود على الثبات قائلاً: "أعن الجنة تفرون؟!" ، حتى استشهد، فرثاه 70 عالماً من بلنسية.
وكانت هذه الهزيمة على هذا النحو نذيراً لانهيار قوى بلنسية الدفاعية وأن النهاية قد أضحت وشيكة.
انضمام قوات جديدة وحصار بلنسية
كان لسقوط قرطبة في أيدي القشتاليين في عام 1236 أثر كبير على حماسة خايمي ملك أراجون، إذ أراد أن يسبق القشتاليين باستيلائه على بلنسية، إضافة إلى ضعف الحصون الدفاعية وقلة موارد أهل بلنسية التي تضاءلت عقب موقعة أنيشة عام 1237، ما زاد في ثقة خايمي بقدرته على الاستيلاء على المدينة.
غير ذلك، وفي ذلك الوقت؛ كان ابن هود، أحد قادة الأندلس المدافعين عنها ضد ممالك النصارى، قد مات، وذلك عقب موقعة أنيشة في يناير/كانون الثاني 1238، وبهذا شعر خايمي بأنه لن ينجد أهل بلنسية أحد من أي جهة من جهات الأندلس.
لذا بدأ خايمي يعد العدة للهجوم، إلا أن قواته كانت قليلة بعد موقعة أنيشة، وفي هذه الأثناء وصله خبر وفاة خاله دون برناردو قائد حامية أنشية، فعيّن ابن خاله بدلاً منه لقيادة الحامية التي تتكون من 50 فارساً.
وحينما أتم خايمي إعداد الجيش، اصطحب معه زوجته الملكة والأميرة ابنته، معلناً أنه لن يعود إلا بعد سقوط بلنسية بيده. وفي شهر مارس/آذار عام 1238، اتجه إلى الجنوب صوب بلنسية، وعند اقترابه من مشارف بلنسية وجد في انتظاره كثيراً من الفرسان الذين أرادوا التطوع في جيشه، والذين كان من بينهم فرسان الهيكل المعروفون في الحروب الصليبية على المشرق الإسلامي، فطوَّق خايمي بلنسية، وتمركز هو بين المدينة والميناء عند خليج جراو، وشدد الحصار على المدينة.
بدأ الحصار في أبريل/نيسان عام 1238، وكانت أعداد النصارى تقدَّر بـ10 آلاف فارس و60 ألف مقاتل، وكان إمداد هذه القوات سهلاً عن طريق البحر، بما فتحه خايمي من حصون في شمال بلنسية.
طلب الاستغاثة والأسطول الحفصي
مع أن معنويات أهل بلنسية قد تحطمت بعد هزيمة أنيشة، إلا أنهم حينما وجدوا جيش أراجون تحت أسوار مدينتهم، عزموا على الدفاع عنها حتى الرمق الأخير، ولم يكن أبو جميل زيان أقل منهم عزيمة، فوجه بعض رسله إلى القواعد الإسلامية القريبة لطلب النجدة.
فوجَّه الفقيه محمد بن قاسم إلى مرسية، كما وجَّه وزيره ابن الأبار القضاعي إلى الأمير أبو زكريا الحفصي سلطان بني حفص بإفريقيا، فوقف الوزير في حفل كبير أمام الأمير وألقى قصيدة مشهورة تقع في 67 بيتاً، كان بعض ما جاء فيها:
أدرِك بخيلك خيل الله أندلسا إن السبيل إلى منجاتها درسا
وهَبْ لها من غريـر النصر ما التمست فلم يزل منك عز النصر ملتمسا
وكان لهذه القصيدة أبلغ الأثر في نفس الأمير أبو زكريا الحفصي، فأمر بتجهيز أسطول يتألف من 12 سفينة كبيرة، إضافة إلى 6 سفن صغيرة، وقُدرت قيمة ما شُحن في السفن بـ100 ألف دينار من الذهب، طبقاً لما أورده ابن خلدون في كتابه "العِبر".
أقلعت هذه السفن على جناح السرعة ومعها ابن الأبار، وكان جيش أراجون قد شدد الحصار على بلنسية وحاول اقتحام ضاحيتها الجنوبية الشرقية، لكن المسلمين ردوهم بخسارة كبيرة راح فيها كثير من مقاتلي أراجون، وكان المسلمون يخرجون من آن لآخر لقتالهم في جماعات صغيرة في معارك كرٍّ وفرٍّ، مما كبَّد جيش أراجون العديد من الخسائر.
ووقعت أعنف معركة من هذه المعارك حول بلدة سليا- ضاحية بلنسية الجنوبية- لكنها انتهت باستيلاء مقاتلي أراجون عليها، ولم تمضِ أيام على هذه المعركة حتى ظهر الأسطول الحفصي في مياه بلنسية، واستطاع أن يصل إلى خليج جراو، إلا أن رجال الأسطول لم يستطيعوا أن يَصلوا إلى المدينة، ولم يستطع رجال المدينة أن يَصلوا إليهم من الجهة الأخرى، بسبب الحصار المفروض عليهم.
فيما بعد، حاول الأسطول أن يتجه إلى المدينة من ناحية الشمال، فسار محاذياً للشاطئ حتى ثغر بنشكلة، لكن هذه المحاولة أيضاً لم تنجح؛ لظهور سفن أراجون التي اعترضتهم وقطعت عليهم الطريق، فما كان من الأسطول الحفصي إلا أن أقلع نحو الجنوب، وانتهى الأمر بأن أفرغ شحنته في ثغر دانية التابع لأبو جميل، لكن الثغر كان منفصلاً عن بلنسية، بسبب الحصار المفروض عليها، ما جعل هذه المحاولة فاشلةً لإنقاذ أهل بلنسية.
زيادة الحصار والتفاوض
ضاعف جيش أراجون- بعد فشل محاولة الأسطول الحفصي- التضييق أكثر على المدينة، فكان جيش أراجون تأتيه المؤن من البحر بانتظام، بينما كان يعاني البلنسيون أشد المعاناة؛ من قلة المؤن والموارد. وكان خايمي يضرب المدينة وأسوارها وأبراجها بالمنجنيق باستمرار.
ورغم ما كان يعانيه أهل بلنسية من تضييق الحصار وقلة المؤن، فإنهم كانوا لا يتوقفون عن الخروج لقتال قوات أراجون، حتى خاضوا معارك كثيرة، أصيب الملك خايمي في إحداها بجرح في رأسه، إلا أن الحصار استمر، وظل قرابة 5 أشهر، حتى فنيت الأقوات وعدمت الموارد واشتد البلاء على أهل بلنسية، بجانب ما أصاب أسوار وأبراج المدينة من هدم في أكثر من موقع.
وفي هذا الوضع الصعب رأى وجهاء المدينة ومعهم أبو جميل زيان، أن لا مفر من التسليم، فبعث رسولاً ليفاوض ملك أراجون في شرط التسليم، واتفق الفريقان على أن تُسلَّم المدينة صلحاً خلال 20 يوماً، ينتقل أهلها خلالها بأموالهم وما أرادوا من أمتعتهم لخارجها. وخرج أبو جميل زيان مع أهله من قصره، وخرج أهل المدينة نحو البحر إلي دانية في اليوم الثالث من الاتفاقية.
ويذكر "عنان" أنه في هذا الوقت خرج نحو 50 ألفاً شخص من بلنسية، وذلك في 28 سبتمبر/أيلول عام 1238، ودخل خايمي المدينة في 9 أكتوبر/تشرين الأول، ورفع علم أراجون على أعلى برج من أبراج المدينة، وحُوِّلت المساجد إلى كنائس، وطُمست سائر قبور المسلمين، وأقبل النصارى من أنحاء كثيرة للعيش في بلنسية، ومع ذلك بقيت بها جماعة كبيرة من المسلمين، فُرض عليهم فيما بعد، التنصر أو الرحيل.
ظل أبو جميل متنقلاً بين المدن والبلاد حتى وصل إلى تونس وتوفي هناك في 1269. أما عن بلنسية؛ فهكذا سقطت بعد أن حكمها المسلمون 525 عاماً، منذ فتحها في عام 714، والتي كانت من أكبر مراكز العلوم والآداب على مر تاريخ الأندلس.