مدار الساعة - خسرت البحرين اليوم الكاتب والمفكر الدكتور محمد جابر الأنصاري، الذي شغل منصب مستشار جلالة الملك في الشؤون الثقافية والعلمية، وكان أستاذاً لدراسات الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر، وترك وراءه إرثاً أدبياً غنياً وسيرة حافلة بالعطاء للبحرين.
يعتبر الأنصاري أيضاً عميد كلية الدراسات العليا في جامعة الخليج بالبحرين وعضو المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون في البلاد.
تميزت أعماله بتناسق الرؤية الفكرية ضمن مشروع نقدي للفكر العربي السائد، ساعيا إلى تجديد المشروع النهضوي، كما عُرفت رؤيته الفكرية بتشخيص دقيق للواقع العربي في أبعاده السياسية والاجتماعية والحضارية، مع التركيز على التراث العربي الإسلامي وفكر عصر النهضة.
ولد الأنصاري في عام 1939 لعائلة بسيطة، كان ربها يعمل في الغوص وصيد اللؤلؤ قبل أن ينتقل للعمل في شركة النفط بين عامي 1938 و1959 في مدينة المحرق، التي تعتبر عاصمة البحرين القديمة، وهي مسقط رأس العديد من الأدباء والشعراء الكبار، مثل الأديبين الشيخين إبراهيم بن محمد آل خليفة ومحمد بن عبدالله آل خليفة، والشاعر عبدالرحمن قاسم المعاودة، ورائد الصحافة البحرينية عبدالله الزايد، بالإضافة إلى رواد الطرب الشعبي مثل محمد بن فارس وضاحي بن وليد ومحمد زويد وغيرهم.
علاوة على ذلك، تُعتبر المحرق مهد التعليم النظامي في الخليج والجزيرة العربية، حيث احتضنت أول مدرسة للبنين، وهي مدرسة الهداية الخليفية التي أُسست في عام 1919، حيث تلقى الأنصاري تعليمه الابتدائي على يد مجموعة من المدرسين العرب من مختلف التيارات الفكرية. كما قام بتثقيف نفسه ذاتياً من خلال مكتبتها التي كانت تضاهي المكتبات الجامعية، بالإضافة إلى احتضانها لأول مدرسة للبنات، وهي مدرسة خديجة الكبرى.
هناك العديد من العوامل التي ساهمت في تشكيل فكر الأنصاري المتسامح وانفتاحه ونبوغه وحبه للمعرفة هو انتقاله إلى مدينة المنامة لاستكمال دراسته الثانوية بعد إنهائه المرحلة الابتدائية في الهداية الخليفية. كانت المنامة في الأربعينات والخمسينات، وما قبلها، تعتبر بمثابة "باريس" ومنتجع "بياريتز" الفرنسي، كما وصفها أمين الريحاني في كتابه "ملوك العرب"، بالنسبة للوافدين إليها. فقد كانت أسواقها نابضة بالحياة، وشوارعها مزدحمة، وبيوتها التجارية مرتبطة بالعالم المتحضر، بينما كانت أحياؤها تضم مزيجًا من الإثنيات والثقافات والمذاهب، مع توفر العديد من مصادر الترفيه والمعرفة.
ومن حسن حظ الأنصاري أن منزله في المنامة كان يقع في منطقة "الحورة"، حيث تتجاور الجوامع والحسينيات والكنائس، بالإضافة إلى مقابر المسيحيين واليهود والمسلمين من الطائفتين السنية والشيعية، فضلاً عن منازل العرب والفرس والبلوش والأجانب وغيرهم.
تخرّج في عام 1958 وحصل على المرتبة الأولى في دراسته الثانوية. ومن حسن حظه كما يذكر، أنه لم يُرسل للدراسة في بريطانيا كما كان مقررًا للأوائل، بل اختار الجامعة الأميركية في بيروت التي كانت مليئة بالحياة الفكرية والسياسية والعلمية، واستمر في دراسته هناك حتى نال درجة الدكتوراه في عام 1979.
في بيروت، التي يعتبرها من أهم محطات حياته الأكاديمية، التقى بإحسان عباس وقسطنطين زريق ويوسف إيش وحمد يوسف نجم ونديم نعيمة، الذين كانوا أعضاء في لجنة مناقشة رسالته للدكتوراه، كما تعرف على أستاذه وصديقه الشاعر خليل حاوي وكمال اليازجي، وواصل دراسته من خلال دورات أكاديمية في كامبردج والسوربون حتى حصل على درجة الأستاذية. خلال هذه الفترة، ساهم أيضًا في تأسيس مجلس معهد العالم العربي في باريس بين عامي 1981 و1982.
بدأ الأنصاري مسيرته التدريسية في عام 1964 في مدرسة المنامة الثانوية، التي تخرج منها. وفي عام 1966، شغل منصب أستاذ للغة العربية والأدب العربي في المعهد العالي للمعلمين الذي تم تأسيسه في ذلك العام. وفي عام 1969، أصبح أول رئيس لـ "أسرة الأدباء والكتاب في البحرين"، التي أسسها بهدف تعزيز العمل الثقافي بمفهومه الشامل، بعيداً عن أي أبعاد سياسية أو أيديولوجية. وفي نفس العام، عُيّن رئيساً للإعلام في مجلس الدولة، الذي كان يشبه مجلس الوزراء، لمدة عام واحد.
يعتبر المفكر البحريني الراحل من أبرز الباحثين في فكر ابن خلدون، حيث يدعو إلى إعادة النظر في الذات العربية، واستند إلى آراء ابن خلدون في تحليل الواقع العربي والإسلامي، مشدداً على أهمية الاستفادة من ثورته الفكرية. ويشير إلى أن ابن خلدون، من خلال مقاربته التاريخية، تجاوز الفهم الرومانسي العجائبي الذي لا يزال يؤثر على العقلية العربية، وبدلاً من ذلك، اقترب من القوانين الثابتة والفاعلة التي تحكم حركة العالم بين الماضي والحاضر. وهذا يبرز في كتابه "لقاء التاريخ بالعصر: دعوة لبذر الخلدونية بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب تأسيساً لثقافة العصر"، حيث يتجاوز النظرة التمجيدية للتراث التي يتبناها آخرون.
وعلى الرغم من الإنجازات العظيمة التي حققتها الحضارة الإسلامية في مجالات متعددة، إلا أنه يرى أن سعيها لبناء نظام سياسي فعال يعتبر الحلقة الأضعف في تاريخها. وقد أدت هذه الأزمة إلى حبس الهوية العربية، مما زاد من تفاقمها مع مرور الزمن. ويعزو الأنصاري التخلف الحالي إلى ترسبات ذهنية متجمدة في العقل الجمعي والنخبوي، والتي لم نتمكن من الخروج منها منذ قرون.
بين عامي 1975 و1980، تولى مسؤولية تزويد مجلة "الدوحة" بالدراسات المتعلقة بالأدب والثقافة في الخليج والجزيرة العربية. وفي عام 1975، بدأ بكتابة أطروحته للدكتوراه بعنوان "الاتجاهات التوفيقية في الفكر العربي الحديث بالمشرق"، والتي صدرت لاحقاً ككتاب تحت عنوان "الفكر العربي وصراع الأضداد". بعد عودته من أوروبا في عام 1983، بدأ العمل في جامعة الخليج العربي كأستاذ مساعد ثم أستاذ لدراسات الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر. وفي عام 1988، تولى عمادة كلية التربية، ثم أصبح عميداً لكلية الدراسات العليا في عام 1994.
على الرغم من انشغالات الأنصاري الأكاديمية، استمر في تقديم مساهماته الصحفية في مختلف الإصدارات العربية، حيث بدأ مسيرته منذ أيام دراسته الثانوية في جريدتي القافلة والميزان تحت اسم مستعار هو "نصار"، وهو الاسم الذي أطلقه عليه أحد أساتذته المصريين. وفي عام 1966، كتب في "الأضواء"، التي كانت الجريدة الوحيدة في البحرين في ذلك الوقت.
حصل على العديد من الجوائز، منها جائزة الدولة التقديرية في البحرين، وجائزة سلطان العويس في الدراسات القومية والمستقبلية، وجائزة منيف الرزاز للدراسات والفكر. كما نال جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي عن كتابه "تحولات الفكر" عام 1981، وجائزة الدولة التقديرية للإنتاج الفكري في البحرين عام 1989، ووسام قادة مجلس التعاون في قمة مسقط في نفس العام. وفي تلك الفترة، اختاره ملك البحرين حمد بن عيسى، عندما كان ولياً للعهد، ليكون مستشاراً ثقافياً وعلمياً في ديوان ولي العهد، ولا يزال يشغل هذا المنصب حتى اليوم كمستشار للملك. وفي عام 1999، حصل على عضوية أكاديمية المملكة المغربية.
حصل على العديد من الجوائز، منها جائزة الدولة التقديرية في البحرين، وجائزة سلطان العويس في الدراسات القومية والمستقبلية، وجائزة منيف الرزاز للدراسات والفكر. كما نال جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي عن كتابه "تحولات الفكر" عام 1981، وجائزة الدولة التقديرية للإنتاج الفكري في البحرين عام 1989، ووسام قادة مجلس التعاون في قمة مسقط في نفس العام. وفي تلك الفترة، تم اختياره، ليكون مستشاراً ثقافياً وعلمياً في ديوان ولي العهد، ومن ثم شغل منصب مستشار جلالة الملك في الشؤون الثقافية والعلمية. وفي عام 1999، حصل على عضوية أكاديمية المملكة المغربية.
أصدر الأنصاري، بالإضافة إلى مئات المقالات الصحفية، أكثر من عشرين مؤلفًا في مجالات الفكر والأدب والثقافة والسوسيولوجيا السياسية. من أبرز مؤلفاته: "العالم والعرب" عام 2000، و"تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي" الذي صدر ضمن سلسلة عالم المعرفة، و"الفكر العربي وصراع الأضداد"، و"الحساسية المغربية والثقافة المشرقية"، و"التفاعل الثقافي بين المغرب والمشرق"، و"تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها"، و"تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القُطرية"، و"التأزم السياسي عند العرب وموقف الإسلام"، و"العرب والسياسة: أين الخلل؟"، و"رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية وشواغل الفكر بين الإسلام والعصر"، و"انتحار المثقفين العرب وقضايا راهنة في الثقافة العربية".
من بين الذين أثنوا على فكر الأنصاري واعتبروه "غذاء فكريًا ضروريًا لفهم جذور القضايا والتعمق في تحليل المجتمعات العربية والإسلامية" هو الدبلوماسي المصري السابق الدكتور محمد نعمان جلال، الذي ألف كتابًا عنه في عام 2004 بعنوان "الواقعية الجديدة في الفكر العربي: المشروع الفكري للأنصاري نموذجا".
والجدير بالذكر أن للأنصاري مشروعين فكريين، المشروع الأول يعرف باسم "مشروع نقد الفكر العربي"، وقد تجسد في ثلاثة من مؤلفاته: "تحولات الفكر والسياسة في المشرق العربي" (1988)، و"مساءلة الهزيمة: جديد الفكر العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الألفية" (2001)، و"الفكر العربي وصراع الأضداد" (1996).
أما المشروع الثاني، فقد أطلق عليه "نقد الواقع العربي"، وهو الذي أدى إلى ظهور ثلاثة كتب أخرى له، وهي: "تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية" (1994)، و"التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام: لماذا يخشى الإسلاميون علم الاجتماع؟" (1995)، و"العرب والسياسة: أين الخلل؟ جذر العطل العميق" (2000).
بروفايل
ولد في البحرين عام 1939.
حصل على درجة البكالوريوس في الأدب العربي من الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1963.
دبلوم في التربية من الجامعة الأميركية في بيروت، 1963.
ماجستير في الأدب الأندلسي من الجامعة الأميركية في بيروت، 1966.
حضر دورة الدراسات العليا في جامعة كامبريدج عام 1971.
دكتوراه في الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر من الجامعة الأميركية في بيروت، 1979.
شهادة في الثقافة واللغة الفرنسية من جامعة السوربون ، فرنسا (1982).
رئيس دائرة الإعلام في البحرين وعضو مجلس الدولة (1969-1971)
المؤسس المشارك وأول رئيس لجمعية كتاب البحرين (1969)
عضو المجلس التأسيسي لمعهد العالم العربي في باريس (1981)
حاضر في المعهد العالي للمعلمين في البحرين والجامعة الأميركية في بيروت وجامعة الخليج.
مستشار ثقافي وعلمي في ديوان سمو ولي عهد البحرين.
عميد الدراسات العليا وأستاذ الثقافة الإسلامية والفكر الحديث بجامعة الخليج في البحرين
عضو المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في البحرين