مدار الساعة - ضمن سلسلة "مختارات العائدون الإبداعية" التي تصدرها دار "العائدون للنشر والتّوزيع" (عمّان- الأردن)، صدر منذ أيّام كتاب يضمّ ترجمة لمختارات شعريّة للشّاعرة الأمريكيّة الفائزة بجائزة نوبل (2020) لويز غليكّ، وتضمّن الكتاب الذي حمل عنوان "قصائد للحبّ والحياة في أفق الموت"، قصائد من اثنتي عشرة مجموعة شعرية من مجموعات الشاعرة المعروفة. قامت باختيار قصائد الكتاب وترجمتها الدكتورة لمى سخنيني، وراجعها وقدّم لها الشاعر عمر شبانة.
وفي تقديمه للكتاب، يكتب شبانة "منذ تتويجها بجائزة نوبل للآداب 2020، وحيث سبق أن تمّ الاحتفاء بها بعدد من الجوائز العالميّة، احتلّت الشاعرة الأمريكية لويز غليك، حيّزًا واسعًا وعميقًا، يشغل المهتمّين بالأدب العالَميّ، وبات العالَم يعرف عنها شغفها بموضوعات عدّة، هي في غالبيتها، ذات طابَعٍ إنسانيّ وحميمٍ عمومًا، حيث الإنسان وهمومه مركز الكون، والطبيعة مركز أساسيّ فيه، وحيث العلاقة بين الحبّ والكراهية، وبين الحياة والموت، وعداهما من ثنائيّات، تجسّد الكثير من مشاعر الشاعرة وأحاسيسها وأفكارها، لتنعكس في قصائدها في صوَر شتّى. فمَن هي هذه الشاعرة الصاعدة "فجأة" إلى هذه المكانة الشعريّة العالميّة، بعد أن كانت شبه مجهولة؟!
وللتعريف أكثر بالشاعرة غليكّ (مواليد نيويورك عام 1943)، يكتب شبانة، تحت عنوان "مختارات لويز غليكّ الشعريّة: الألمُ والأمل في الواقع والأسطورة"، إنّ من أبرز دواوينها "المولود البِكر"، و"وجه يدنو" و"انتصار أخيل" و"السَّوسنة البرّيّة" و"أفيرنو" الذي يعتبره النقاد الأمريكيّون الديوان الأهم في مسيرتها الشعرية. وقد وُصفت مجموعتها الشعرية "أرارات" (في إشارة إلى الجبل الذي رست عليه سفينة نوح) بأنها "أكثر كتاب ممتلئ بالحزن والقسوة في الشعر الأمريكيّ المنشور خلال ربع قرن". هذا بالإضافة إلى كتاب حول الشّعر بعنوان "براهين ونظريّات: مقالات في الشعر" صدر عام 1994.. وغيرها.
وعن أسباب اختيار هذه الشاعرة لتقديمها إلى القارئ العربي يكتب إنّ "ما يشدّنا، ويشدّ قرّاء الشاعرة، إلى قصيدتها وشعرها عمومًا، وما يدعونا لتقديم ترجمةٍ لهذه "المختارات"، فهو عناصر أساسيّة وعلى غير صعيد، أوّلُها- ربّما- موضوعاتُها الحيويّة وأسلوبُها الذي يجمع الغُموضَ والبساطة معًا، في جملة تعمل هي على تقطيعها بحسب ما تشهده القصيدة من "تدفّق" مبعثُه روحُها الحُرّة، وتعامُل شعرها مع واقع الوجود الإنسانيّ، والتجارب المؤلمة فيه. وهي في هذا شديدة الوضوح، الأمر الذي وصفه رئيس لجنة جائزة نوبل، أندرس أولسون، بصوت غليك الشعري "الصريح والصلب والمليء بروح الدعابة والسخرية اللاذعة"، وقال إن "مجموعاتها الشعرية تتميز بالتَّوق إلى الوضوح".
وعن موضوعات الشاعرة ومضامين شعرها يكتب في التقديم "يجذبُنا إلى شِعرها أيضًا، جانب شديد الحميميّة فيه، حين تتناول، في بساطة وشفافية، عوالِم الإنسان وعلاقاته بالوجود والكَون، بما في ذلك الطبيعة بعناصرها ومكوّناتها الأساسية، فهي شديدة التعلّق بهذه العناصر التي تُشكّل عالَمها، وتُميّزها عن سواها.. عالَم مسكون بالشجر والأزهار والخضرة والماء، وتفوحُ منه روائح وألوان شتّى، لا تجدها كثيرًا عند غيرها. لذا فأنتَ تشعر بحضورٍ قويّ للحياة في مواجهة أشكال الموت.. الأمر الذي يُشيع في قصيدتها متعةَ السّؤال عن مصدر هذا الحبّ والسلام مع الذات".
وحول هذه الترجمة، وما يميّزها عن سواها من ترجمات لشعر غليكّ (وهي قليلة جدًّا!)، يرى شبانة في مقدّمته "إننا ندّعي اختلاف ترجمتنا لجهة شموليّتها أوّلًا، ولجهة "الأمانة" في اختيار المقابل العربي الدقيق للنصوص، فضلًا عن الهوامش التي تتضمنها ترجمتنا للتعريف بالكثير من الأسماء والمفردات والمصطلحات الواردة في قصائد الشاعرة، خصوصًا تلك التي تعود مصادرها إلى الأساطير أو الكتب المقدّسة أو التاريخ والأمكنة بعامّة. ومن الواضح أن المترجِمة الدكتورة لمى سخنيني قد بذلت جهدًا كبيرًا في اختيار القصائد، وتابعتْ تجربةَ الشّاعرة (غليكّ) في مصادر ومراجع شتّى للإضاءة على هذه التجربة الغنية والفريدة، ولتكون هذه "المختارات" المتميّزة بدقّتها ورشاقة اللغة المُترجَم إليها".
حديث المُترجِمة:
وعن المختارات وسبب اختيارها وترجمتها، تقول المترجمة والرّوائيّة الدكتورة لمى سخنيني: السبب الأوّل هو فوزها بجائزة نوبل للآداب، ولكن عندما بدأت أقرأ بعُمق للشاعرة كما هو المعتاد لي عند بدء ترجمة أيّ نصّ لم أترجم منه من قبل، دخلتُ في عوالم غليك شديدة الواقعية، وفي الوقت ذاته عوالم مسحورة أسطوريّة شدّتني بشِباك من شوق إلى الأبطال الأسطوريّين للإلياذة، حيث أعادت الشاعرة بناء قصصهم بما يتوافق مع خيالها الخصب وتجربتها الحياتية الغنية. فهي توظّف تجربة هذه الشخصيات في مواجهة حقائق ينكرها معظم الناس، كالشيخوخة والطفولة المبكرة والموت والحياة في ظلال الموت. فهذا العمل الفذّ الهادئ ولكنّه الفولاذي لإعادة التكيّف مع التجربة الحياتية الحيّة جعلني أقارن حياتي بحياتها وأقيس تجاربي بتجاربها، لأستنتج بأن حياة النساء المبدعات متقاربة بالشكل والمحتوى. تقول غليك "بمجرد أن أصنع نفسي وأصف نفسي، أريد أن أفعل الشيء المعاكس في التوّ"، فهي الرغبة الدائمة في تدمير الذات والانسحاب من الحياة، وفي الوقت ذاته فأكثر ما يُرعبها هو بلاء الصمت، الغياب عن الإبداع، تكرار الذات، فهي تحثّ على التغيير في الانجاز. التجدّد الدائم، هو أكثر ما يعجبني فيها، فهي تقول "إذا كانت لديك رسالة فلتكتب". عندما تتناول موضوع الموت، فهي لا تعرف الخوف وتقترب منه بدون مقاومة أو نضال. فهذا الإحساس بالحرية يمنعها من التثاقل في اقترابها وممارستها للحياة، فتخيّم حرية النشوة في كتبها مثل أي رحلة يمكن لها القيام بها. يتنوّع خيال غليك على نطاق واسع، وتخلق أحلامًا سريالية، حلّقت معها بها، وغنّيت معها على مجموعة واسعة من النغمات، الاستسلام وخيبات الأمل، وأيضًا الفرح والنزوات وروح الدعابة، امتداد طبيعيّ لعقل الشاعرة المتعرّج في دروب الحياة. وقد قضيتُ شهورًا في ترجمة هذه المختارات وكأنني قد أدمنتُ الشعر، فالآن أنا أشتاق إلى تلك التجربة الغنية السحرية. ولكنّي وبالرغم من لحظات الفرح العميق التي طرقت قلبي فأنا هنا أتفق مع معظم النقاد الذين تناولوا شعرها، فغليك ليست شاعرة تقرأها لترفّه عن نفسك.
مقطع من المختارات
ومن هذه "المختارات"، ما تكتبه الشاعرة عن الرّوح، فهي بالنسبة إليها، مثل كل شيء:
لماذا تبقى سليمة، تبقى وفيّة لشَكلها الأوحد،
عندما تستطيع أن تكون حرّة؟
بل هي الحياة، وسواها يكون الموت في أشكال وصوَر شتّى:
تموتُ عندما تموت روحُك.
وسِوى ذلك فأنتَ حيّ.
قد لا تؤدي عملَك بشكل جيّد، إلّا أنّك تستمرّ -
هو أمرٌ ليس لديك خيار بشأنه.