مدار الساعة - من القواعد الأساسية في أعمال القلوب وأعمال الجوارح أنه “لا عمل إلا بنية”، ومما يضاعف اللهُ به الأجرَ على الأعمال استحضارُ المسلم نيته قبل العمل، ومراقبة نيته أثناء العمل، وبعد العمل رجاء الله تعالى أن يتقبله، وبقدر ما تتعدد النوايا للعمل الواحد يكون أجره وثوابه عند الله. لهذا كان من الضروري رفع مقاصد الاعتكاف أمام عين المسلم حتى يكون على بصيرة من أمره، ويقين من عمله، وحب في الله، ورجاء في ثوابه، فيحصل من الأجر والثواب ما لا يحصله دون علمه بهذه المقاصد ووقوفه عليها، وبالتأمل في طبيعة الاعتكاف وأعماله تبين أن أهم الاعتكاف ومقاصده وغاياته ما يلي:
وقال الله تعالى عن الزكاة: “خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها”. يقول الإمام الطبري في تفسيرها: “يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد خذ من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم فتابوا منها صدقة تطهرهم من دنس ذنوبهم”.
وعن الحج ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “من حج لله، فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه”(2).
أما عن الصوم فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه…”(3).
فغفران الذنوب ما تقدم منها وما تأخر هدف يرصده المسلم ويستحضره في عبادته لله تعالى، وبخاصة في رمضان الذي وردت فيه مغفرة الذنوب فيمن قام رمضان إيمانا واحتسابا، ومن صامه إيمانا واحتسابا، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا كما مر، ولا يكون الاعتكاف إلا في المسجد.
ولن يستعذب المسلم هذه المشاعر ويعيشها إلا بهمة تصون القلب عن وحشة الرغبة في الفاني، وتحمله على الرغبة في الباقي، وتصفيه من كدر التواني، قال ابن القيم رحمه الله: “الفاني: الدنيا وما عليها أي يزهد القلب فيها وفي أهلها، وسمى الرغبة فيها وحشة؛ لأنها وأهلها توحش قلوب الراغبين فيها وقلوب الزاهدين فيها، أما الراغبون فيها فأرواحهم وقلوبهم في وحشة من أجسامهم إذ فاتها ما خلقت له فهي في وحشة لفواته، وأما الزاهدون فيها فإنهم يرونها موحشة لهم؛ لأنها تحول بينهم وبين مطلوبهم ومحبوبهم ولا شيء أوحش عند القلب مما يحول بينه وبين مطلوبه ومحبوبه”(4).
ومن أجل أن يكون التفرغ لله وحده دون شيء سواه منع الشرع أن يخرج المسلم من معتكفه إلا لضرورة أو حاجة، لأنها فترة تجرد لله ومن ثم امتنعت فيها المباشرة -مباشرة النساء- تحقيقًا لهذا التجرد الكامل، الذي تنسلخ فيه النفس من كل شيء، ويخلص فيه القلب من كل شاغل كما قال سيد قطب رحمه الله.
فالتفرق يوقع وحشة الحجاب، وألمه أشد من ألم العذاب قال الله تعالى: “كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم”. فاجتمع عليهم عذاب الحجاب وعذاب الجحيم كما قال ابن القيم رحمة الله عليه.
وهنا معنى مهم في تشريع العبادات في الإسلام أو مقاصده، وهي أن العبادات لا تبرح النفس لحظة من اللحظات، من صلوات خمس في اليوم والليلة، وحج وعمرة، وزكاة وصدقات، ونوافل لهذا كله، ثم يأتي الصيام لينظف النفس والقلب، ثم تأتي العشر الأواخر لتبلغ النفس أسمى ما يمكن أن تبلغه من شفافية ورقة وحضور؛ ليكون شهر رمضان انطلاقة كبرى لبقية العام.
وهذا كله يصب في تحقيق معاني التقوى في النفس الذي هو المقصد الأكبر من الصيام، بل من العبادات كلها؛ حيث يقول الله تعالى: “يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون”. البقرة: 21.
هذه بعض المقاصد للاعتكاف وليست على سبيل الحصر، بل غيرها كثير مثل: الانقطاع التام إلى العبادة الصرفة من صلاة ودعاء وذكر وقراءة قرآن، وحفظ الصيام من كل ما يؤثر عليه من حظوظ النفس والشهوات، والتقلل من المباح من الأمور الدنيوية، والزهد في كثير منها مع القدرة على التعامل معها، كل هذا وغيره من مقاصد ينبغي أن يبتغيها المسلم في اعتكافه، ويضعها نصب عينيه حتى يحقق المقصود من الاعتكاف، ومن الله العون والقبول.
* وصفي عاشور أبو زيد، دكتوراه في مقاصد الشريعة الإسلامية