د. صالح ارشيدات
شيع الأردن قبل أسابيع إلى رحاب الله، وفي ظروف صحية عامة صعبة، القامة الوطنية السياسية، احد فرسان الوطن الابرار الاوفياء عبد الهادي باشا المجالي وبرحيله يطوي الأردن صفحة ناصعة اخرى من تاريخ رجالاته المشرق ويبقى (أبو سهل) حياً في ضمير الشعب وعقول وقلوب كل الشرفاء والمخلصين لقضاياهم الوطنية والقومية في أرجاء هذا الوطن الشاسع.
لقد عرفت كغيري القامة الوطنية الكبيرة المرحوم عبد الهادي باشا عن قرب وتزاملت وعملت معه لسنوات طويلة بعد عودة الديمقراطية في بداية التسعينيات اثناء بناء المؤسسات السياسية الأهلية والأحزاب وبرهن (أبو سهل) خلالها، أنه قائد سياسي فذ له حضور متميز واسع الاطلاع والثقافة الوطنية والخبرة في مجالات متعددة وصاحب رأي وبصيرة وجريء بالحق.
فقد خدم عبد الهادي خلال مسيرة حياته الطويلة، الوطن الأردني بكل تضاريسه ومكوناته الإنسانية، وكذلك خدم النظام السياسي ومؤسساته المختلفة، بكل تفان وإخلاص في كل المراحل والمواقع التي عمل ونشط فيها منذ مراحل شبابه، بدء من انخراطه بعد التخرج، مهندساً في سلاح الهندسة الملكي، وآخرها في محطة العمل البرلماني والسياسي نائباً برلمانيا عام 93 ثم وزيراً وبرلمانياً وقائداً للبرلمان، والذي استمر لسنوات طويلة ولعدة مجالس نيابية، حيث تميز (الباشا) وظهر كقامة برلمانية سياسية أردنية وعربية، وكان مؤثراً في الحياة العامة وفي ال?رار الأردني وحلق عالياً خلالها، واستطاع أن يستفيد من نسج شبكة واسعة من الصداقات والعلاقات التي أقامها مع مختلف أطياف الشعب والعشائر والنخب السياسية الأردنية والعربية والفلسطينية، مما جعل منه زعيماً أردنياً مرموقاً وقامة وطنية مقدرة مارست طقوس الزعامة الطبيعية لسنوات طويلة من خلال خدمة قضايا المواطنين ولقاءاته المواطنين في بيته وديوانه اليومي المفتوح لكل الناس، وخطاباته ومواقفه السياسية الجريئة في كل المناسبات وخصوصاً البرلمانية وفي كل المنابر والمنتديات واثبت أنه قائد وطني مفوه، وفي لشعبه وربه وقائده بالفطرة والاصالة، وساهم ذلك كله في تكوين هوية سياسية بارزة لشخصية عبد الهادي كزعيم وطني سياسي بالممارسة اليومية وفارساً شهماً بأخلاقه وماله وتسامحه وتواضعه وسعة صدره، وقادر على إنجاز المهمات الوطنية الصعبة بشكل غير مسبوق، لقد كان عبد الهادي كبيرا كالنسر يحلق فوق كل الصغائر..
كانت قناعات الراحل الفكرية والسياسية والعروبية بسيطة وغير معقدة خلقتها مواقف وبيئة عائلته (المجالي) الوطنية والعسكرية، وصقلتها حياته العسكرية ودراسته للهندسة، لا يعرف اللف والدوران مما شكل هويته الوطنية المحبوبة من الشعب والنخب فهو ليس ايدلوجيا بالمعنى الفكري، يؤمن بأمته العربية ووحدتها وعمق ثقافتها الإسلامية ويؤمن بمركزية القضية الفلسطينية للعرب ويؤمن ايمانا عميقا بالنظام الهاشمي الاردني كما يؤمن بالدستور الأردني وأهمية احترامه.
حين عادت الحياة الديمقراطية بعد أحداث معان عام 89، انخرط عبد الهادي في العمل الحزبي ضمن رؤيته السياسية الوسطية المحافظة الواضحة ومصلحة الوطن ومساحات المرحلة الجديدة واستطاع حزبه الجديد ( العهد) في فترة زمنية بسيطة أن يلعب دوراً أساسياً في البرلمان وبعدها لعب دورا في تشكيل الحكومات ودفع عبد الهادي بأعضاء حزبه بإخلاص من مختلف الاقاليم الى مقاعد الوزراء وحين ظهرت فكرة ضرورة توحيد أطياف الأحزاب السياسية اليسارية والوسطية بادر إلى إنجاز أول تجربة حزبية لتجميع (9) أحزاب وسطية تحت اسم حزب (الدستوري) عام 97 وطرح ن?سه رئيساً قادماً للحكومة في مرحلة الاحزاب، وكان قاب قوسين من تحقيق ذلك.
في البرلمان الأردني أصبح لديه كتلة التيار الوطني أكبر كتلة برلمانية 55 نائباً من ثمانين نائباً، واصبح مؤثراً في تشكيل الحكومات مستفيداً من انفتاح الملك الشاب عبدالله الثاني للقوى الوطنية في مبادراته الجديدة الاجندة الوطنية واللامركزية، والتي أدت إلى تنشيط الساحة العامة السياسية، بعد الدعوة الملكية المباشرة الى تفعيل اليات لتعبير لتكتل الاغلبية الصامتة لخلق توازن للقوى الفاعلة على الساحة، حيث أسرع عبد الهادي في تأسيس اطار حزب التيار الوطني برئاسته ليصبح الحزب بعد فترة بسيطة أكبر تجمع سياسي في الوطن (الاغلبي? الصامتة) يجمع كل القوى الطامحة للعمل تحت ظل المبادرات الملكية وخصوصا مبادرة الاجندة الوطنية الاصلاحية الشاملة، فقد خلق تياراً مقبولا من الجميع واوجد علاقات وصداقات مع الوان الطيف السياسي والوطني والشعبي المتنوع.
في أحداث ما سمي بـ«الربيع العربي» برز دور عبد الهادي وحزبه في صناعة الحشد الشعبي الإيجابي ضد موجة الفوضى العمياء وساهم بأسلوبه المقنع، في خدمة تهدئة الساحة اثناء المظاهرات الصاخبة بما لديه من علاقات، وساهم حزبه في لجنة الحوار الوطني في إنتاج التوافق الوطني على مخرجات لجنة الحوار الوطني والتعديلات الدستورية المقترحة، وإنجاز القائمة الوطنية في مسودة قانون الانتخاب، والتي اعتبرها وحزبه انتصارا للعمل الحزبي واعترافا بالأحزاب كجزء من النظام السياسي البرلماني الأردني وخصوصاً أن الملك بدأ بإطلاق اوراقه النقاشية والتي هدفت الوصول إلى الحكومات البرلمانية ودور الأحزاب السياسية المميز في تلك المرحلة.
وفي انتخابات 2013 التي جرت على قانون القائمة الوطنية والتي قاطعها الاسلاميون قام حزبه بحشد كل الطاقات الممكنة لاستثمار القانون الجديد وإشراك معظم القوى التمثيلية من مختلف المناطق والأصول في قائمة الحزب الوطنية المغلقة، وحاول ثني الإسلاميين عن المقاطعة السياسية للانتخابات على القانون الجديد، وجرت الانتخابات بدون الإسلاميين، مما ترك أثراً سلبياً في نفسه، حيث أعتقد أن وجود الإسلاميين في المعركة الانتخابية يستدعي بالمقابل وجود مكونات التوازن الحزبي من التيار الوطني، مما كان ليعزز مسيرة الديمقراطية ونتائجها.
جاءت نتائج الانتخابات على نظام القائمة الوطنية مفاجئة للكثيرين من حزبه وللنخب السياسية وجاءت بعكس التوقعات العامة، فاعلن في مؤتمر الحزب مباشرة بعد إعلان النتائج، عن استقالته من عضوية البرلمان، وعاد عن قراره رغماً عنه بعد أن زاره اعضاء البرلمان الجديد احتراماً عند رايهم ورأي الشعب.
كان عبد الهادي يدرك تماماً صعوبة العمل الحزبي في ظروف وبيئة غير صديقة للعمل الحزبي خلقت عزوفاً شعبياً متأصلاً ضد فكرة وأهمية الأحزاب وأهدافها، بمعنى أن الأردن غير مستعد بعد للحياة الحزبية، واعتمد عبد الهادي في رده على تلك المقولة بالمقابل، على أن روح الدستور الأردني الليبرالي الديموقراطي سمحت بالحياة الحزبية وكذلك ممارسات الملوك الهاشميين وفلسفة الحكم الملكي في الأوراق النقاشية والمبادرات الملكية والتي آمن بها، اكدت رغبتها في ذلك، والتي اعتقد انه مؤهل وقادر على تحقيق الرؤية الملكية. ولكنه غادر قبل أن يرى ذ?ك يتحقق ومات حزينا على ضياع الفرص لخلق نواة تجربة أردنية جديدة تضيف بعداً عميقاً في التنمية السياسية للنظام السياسي الأردني ومزيداً من العزة والمنعة.
إلى جنات الخلد يا (أبا سهل).