حين كنت طفلا، كان الصباح شهيا جدا.. حين تغمس لقمة الزيت بالزعتر وترتشف القليل من الشاي، وأحيانا تمضغ لقمة جبن بين ثنايا الخبز.. ويتغلغل الطعم لفمك، ثم تذهب للمدرسة.. كل شيء يضيع إلا طعم الشاي.. مر بي العمر ومازال الشاي الذي كنت أشربه من يد أمي في الطفولة، يضج بذاكرتي.. لماذا تغير طعم الشاي اليوم، أنا صدقا لا أعرف!.. ربما أنا الذي كبرت وحواسي هي التي تغيرت... وليس الشاي.
حين كبرت قليلا, صار الصباح عندي مرتبطا بالقهوة.. والسيجارة, أتذكر أني في التوجيهي أصبحت مستجدا في التدخين, وعقدت دورات متقدمة للزملاء من مرتبات الصفوف الثانوية, وتحولت من الشاي للقهوة.. كان لدينا اعتقاد بأن القهوة تجعلك تغرق في التركيز, وتحفظ القصائد كلها (كرجة مي).. كان لدي اعتقاد أيضا بأن القهوة, تساعد الذهن على أن يصفو في الصباحات.. لهذا احترفت القهوة.. أتذكر (بكرج) أمي الذي كنت أغلي فيه الماء, وأنا أحبها بالسكر.. وأحبها طافحة تتفايض على حواف الفناجين.. مثل خدود صبية توردت بالحب للتو.
بعد أن انخرطت بالصحافة، دخلت (النسكافيه) إلى صباحاتي.. وهي مزيج من القهوة والحليب، وكانت تمثل انتقالا نوعيا.. مثل ان تكون معارضا وتصبح وزيرا, النسكافيه خلطة غريبة.. فيها الماء وفيها الكاكاو.. وتحاول عبثا أن تعرف الطعم ولكنك تفشل.. الأمر في النهاية مجرد تطور وعليك أن تواكب هذا التطور... وعليك أن تشربه.
الان بعد هذا العمر، صرت أشرب الماء الفاتر.. وأحيانا اليانسون, واندثرت القهوة, والبعض حذرني من (النسكافيه).. والطبيب قال لي أن القولون يحتاج للتكيف معه, وبعض الأصدقاء أخبروني بأن أتناول العسل... وصديق من الكرك لديه خبرة بأمراض القولون نصحني.. بأن أحتسي في الصباح معلقة (كركم) منقوعة في الماء.. وها أنا أفعل ذلك، والأولاد يضحكون مني حين يشاهدون فمي وقد تحول للون الأصفر.. بفعل الكركم.
كل يوم أعاتب (قولوني).. أعاتبه بشدة, ويقول لي الأطباء أن مرضي يسمى (القولون العصبي).. وأعاتب وطني أيضا، فقد بدأت حياتي فيه بالشاي.. وكان طعم الشاي شهيا كان مثل البلسم، وها أنا في الثلث الأخير من العمر..أنتهي بوصفات غريبة عجيبة, أنتهي (بالكركم)...
Abdelhadi18@yahoo.com
الرأي