مدار الساعة - مراد كتكت - بين أزقة المناطق السكنية وغياهب ضواحيها، يرزح عاملون في توزيع اسطوانات الغاز يومياً بين صخب النغمة الموسيقية الموجودة في مركباتهم وأنين الفقر والعوز، وسط غياب تأميناتٍ صحية واجراءتٍ تحميهم من ضرر هذا الصخب.
وأعرب العديد من هؤلاء العمال خلال حديثهم لـ"المرصد العمالي" عن معاناتهم اليومية في تحمل هذا الضجيج الذي يكاد أن يطرش آذانهم بحسب تعبيرهم، فهم باتوا لا يفرقون بين صوتٍ عالٍ أو منخفض.
"احنا انطرشنا من زمان، بس لقمة العيش صعبة"، بهذه العبارة لخّص (الأربعيني) أبو العبد وهو يعمل سائق مركبة توزيع غاز معاناته في تحمل صخب النغمة الموسيقية الموجودة على مركبته طوال مدة عمله، فهو ينطلق يومياً من الساعة السابعة صباحاً حتى السادسة مساءً يجوب بين الأرجاء السكنية في منطقة ضاحية الياسمين.
"بشتغل في اليوم 11 ساعة بدون ما أوقف أو ارتاح، وطول هاي المدة بضل صوت النغمة يطبل بذاني لحد ما انطرش، حتى اني ما معي تأمين صحي اقدر اروح فيه عالمستشفى، وانتا بتعرف انو تكاليف المستشفى والأدوية غالية كثير".
ويستكمل أبو العبد حديثه "أنا بقدر أوطي صوت النغمة من عندي بس بضطر أرفعه عشان الناس يقدروا يسمعوني في الحارة... رزقتي وما بدي أضيعها".
رغم قدرة موزعي الغاز على التحكم في تخفيض صوت ضجيج النغمة بحسب أبو العبد، إلا أن الحاجة ملحة في رفع الصوت ليصل إلى أكبر قدر ممكن من سكان المنطقة وذلك من أجل كسب رزقهم وقوت يومهم، فهم يتسابقون فيما بينهم من خلال رفع الصوت لبيع اسطوانات الغاز قدر ما يستطيعون.
يتقاضى ابو العبد أجره يومياً وذلك على حسب كمية الإسطوانات التي يبيعها في منطقته، إذ يقوم ببيع ما يقارب 40 اسطوانة غاز يومياً، وفي فصل الشتاء يبيع ما يقارب 80 اسطوانة، "باخذ باليوم 10 دنانير ومرات 15 دينار على حسب ضغط الشغل، يعني في الشتاء بزيد الشغل وبالتالي بتزيد يوميتي".
وفي الحديث عن فصل الشتاء الذي يزداد فيه عمل هؤلاء الموزعين، فإن معاناتهم تزداد، خاصة، مع ارتفاع الطلب على اسطوانات الغاز في ظل الظروف الجوية الصعبة والمنخفضات الشتوية والثلجية.
يقول (الثلاثيني) ابراهيم- عامل في توزيع الغاز- لـ"المرصد العمالي": "صحيح الشغل في فصل الشتاء بزيد لكن بنفس الوقت بكون كثير متعب لانه الطلب على جرات الغاز بزيد، وخصوصاً خلال المنخفضات".
وحول ضجيج النغمة الموسيقية، يؤكد ابراهيم أن هذا الضجيج بات يشكل تهديداً لحاسة السمع لديهم خاصة وأنه لا يمتلك تأمينٍ صحي يحميه من هذا الضجيج، "الصوت كثير عالي ومزعج لدرجة إني بطلت أسمع منيح، وأكثر من مرة كنت بدي أروح أفحص ذاني بس لما سألت عن قيمة تكاليف الفحص بطلت أروح ... ايش أعمل مضطرين نتحمل هذا الصوت عشان رزقتنا".
تأثيرات صحية خطيرة
الدكتور مروان حلالمة اختصاصي جراحة الأنف ولأذن والحنجرة يؤكد لـ"المرصد العمالي" أن الأضرار الناجمة عن ضجيج مركبات توزيع الغاز على العمال لا يستهان بها، خاصة إذا تعرضوا لها على مدار ساعات طويلة.
واشار الحلالمة أن هذا الضجيج من الممكن أن يسبب على المدى البعيد ضعف واضطرابات في الأعصاب السمعية، ناهيك عن التأثيرات اليومية الأخرى مثل الصداع وارتفاع ضغط الدم أحياناً.
ورغم أن مستوى الصوت المعتاد والمسموح به في المناطق السكنية وفقاً لتعليمات وزارة البيئة هو ما بين (50 الى 60) ديسبل، إلا أن صوت النغمة الموسيقية الموجودة على مركبات توزيع الغاز تزيد عن 90 ديسبل، وذلك بحسب خبراء قاموا باجراء دراسة عن طريق استخدام تطبيق على الهاتف يقيس مدى نسبة الصوت.
رانيا العجارمة استاذ مساعد في كلية البيئة في الجامعة الأردنية بدورها تقول لـ"المرصد العمالي" أن العامل اذا تعرض لمستوى صوت 90 ديسبل فأكثر ولمدة ثمان ساعات متواصلة سيؤدي ذلك الى تلف في الأعصاب السمعية، موضحة.
واستكملت العجارمة حديثها: "من المفترض توفير الحماية لهؤلاء العمال من هذا الصوت من قبل الجهات المعنية، خاصة وأنهم يتعرضون لهذا التعذيب اليومي ولساعاتٍ طويلة".
وأضافت "أنه يجب أيضاً تفعيل التطبيقات الذكية الخاصة بتوصيل اسطوانات الغاز الى المنازل كباقي الدول، مما ستساعد على الحد من هذا الضجيج".
مدير بيت العمال والخبير العمالي حمادة أبو نجمة يقول لـ"المرصد": "أن هؤلاء العمال يقعون ضحايا لهذا الضجيج الذي يخلف أضراراً صحية عليهم في المستقبل".
وأشار أبو نجمة أن على وزارة العمل ووزارة البيئة والجهات المعنية تكثيف الرقابة على هذه الظاهرة والحد من تفشيها، مؤكداً أن هذا يعد انتهاكاً بحقهم ومخالف في نفس الوقت لمعايير الصحة والسلامة المهنية التي من المفترض أن يتمتع بها هؤلاء العمال.
اجراءاتٍ رقابية ضائعة
مدير الإتصال والتوعية البيئية في وزارة البيئة أحمد عبيدات بدوره يوضح لـ"المرصد العمالي": "أن الوزارة لم تتطرق لعمل دراسات حول هذا الضجيج الصادر من مركبات توزيع الغاز وتأثيره على العمال والسكان بسبب أنه لم يتم تقديم أية شكاوى سواء من العمال أو من السكان حول هذا الموضوع".
ورغم تعليمات وزارة البيئة حول تحديد مستوى الأصوات المسموح بها وطرق التعامل معها بحسب عبيدات، إلا أن هنالك ضعف في الرقابة على تنفيذها.
وأشار عبيدات إلى أن الوزارة ستسعى جاهدة الى البحث واتخاذ اجراءات وتشديد الرقابة للحد من هذه الظاهرة وعد انتشارها.
وحول اجراءات وزارة العمل بخصوص هذا الضجيج وأثره على عمال موزعي الغاز، صرح الناطق الإعلامي باسم وزارة العمل محمد الزيود لـ "المرصد العمالي" أن الوزارة غير معنية بشأن هذا الموضوع.
حمايات اجتماعية
رغم أن عمال موزعي الغاز الذين قابلهم "المرصد العمالي" مشمولين في الضمان الاجتماعي بحسب قولهم، إلا أن افتقارهم للتأمين الصحي بات يشكل هاجساً أمامهم وخاصة أن ضجيج النغمة الموسيقية لها آثار صحية خطيرة عليهم.
مدير بيت العمال حمادة أبو نجمة يقول لـ"المرصد" أن التأمينات الصحية لمثل هؤلاء العمال هو جزء أساسي بالنسبة لهم ويحميهم من الأضرار الصحية التي تخلفها أصوات مركباتهم عليهم.
وفيما يخص بشمول هؤلاء العمال بالحماية الاجتماعية كالضمان الاجتماعي، يعتقد أبو نجمة أن أغلب عمال موزعي الغاز غير مشمولين أصلاً بهذه المظلة الحمائية.
ويرجع أبو نجمة سبب عدم شمول هؤلاء العمال بالضمان إلى تهربهم من هذه الحمايات بسبب الإشتراكات العالية فيها التي تصل الى ما يقارب 17%، مشيراً إلى أن هذه النسبة لا يتحملها العمال ذوي الدخل المحدود.
الناطق الإعلامي باسم الضمان الاجتماعي شامان المجالي يوضح لـ"المرصد" أنه لا يوجد في المؤسسة تصنيف خاص بعمال موزعي الغاز وبالتالي من الصعب معرفة ما اذا كانوا مشمولين في الضمان أم لا، مشيراً الى أن بإمكان العامل إشراك نفسه بالضمان إما عن طريق تقديم شكوى لمؤسسة الضمان أو التسجيل في مبادرة "اشمل نفسك" الموجودة كخدمة في المؤسسة.
وبين المجالي أن الإشكالية الوحيدة في تحديد حجم العمال ومعرفة اذا كانوا مشمولين في الضمان أم لا هو عدم تطبيق المادة رقم (79) من قانون مؤسسة الضمان الاجتماعي والتي تشترط عند ترخيص أي منشأة إحضار براءة ذمة من مؤسسة الضمان الاجتماعي.
ولفت المجالي الى أن تطبيق هذه المادة سيساعد على تحديد ومعرفة حجم المشمولين في الضمان وبالتالي تخفيف العبء على العمال.
وأضاف المجالي أنه من المفترض شمول هؤلاء العمال في الضمان خاصة إذا كانوا يعملون في منشآت مرخصة، مبيناً أن هنالك عدد كبير منهم لا يرغبون بإشراك أنفسهم بالضمان بسبب اقتطاع نسبة الاشتراكات من رواتبهم.
رئيس نقابة أصحاب محطات المحروقات ومحلات توزيع الغاز نهار السعيدات بدوره يؤكد لـ"المرصد العمالي" أن أغلب وكالات توزيع الغاز المرخصة مشمولة بالضمان الاجتماعي.
وأوضح السعيدات أن النقابة غير معنية بوكالات الغاز التي لا تشمل عمالها بالضمان، وأن هنالك وكالات غير مرخصة أصلاً وغير مسجلة لدى النقابة، مشيراً إلى أن عدد وكالات توزيع الغاز المرخصة تصل الى 850 وكالة، وعدد سيارات توزيع الغاز 3400 سيارة.