أخبار الأردن اقتصاديات دوليات مغاربيات خليجيات جامعات وفيات برلمانيات رياضة وظائف للأردنيين أحزاب أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مختارة مقالات مناسبات مستثمرون جاهات واعراس الموقف شهادة مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم

التجريد في الفن بين الإسلام والغرب

مدار الساعة,أخبار ثقافية
مدار الساعة ـ
حجم الخط

مدار الساعة - أول ما ظهر التجريد كمذهب فني، كان من خلال المدرسة التجريدية (كاندنسكي، موندريان) التي ظهرت في أوائل القرن العشرين، حيث تنتمي إلى تيار الحداثة في الحضارة الغربية، والتي أنتجت أشكالا وقوالب تعبيرية مغايرة للسابقة عليها من تيارات فنية، ومرد ذلك إلى مراحل علمنة الإنسان الغربي من خلال تراكم النسق الفلسفي والديني الغربي على مدى التطور التاريخي للحضارة الغربية، والذي سنتعرض له آتيًا إن شاء الله.

ولعل الاستعانة بالثقافة الإغريقية القديمة كدافع للديانة المسيحية في عصر النهضة (المذهب الإنساني) أدت بالتالي إلى تغيير الرؤية المفاهيمية للوجود والعالم، وذلك حيث حلول المطلق القيمي من الله إلى الإنسان المثالي النهضوي. فالإله قد تم تجسيده على يد مايكل أنجلو وذلك بتشخيصه على هيئة رجل كبير في لوحة خلق الشمس والقمر والنجوم المرسومة على سقف كنيسة سيستينا بإيطاليا، بالإضافة إلى لوحات أخرى بنفس المكان. وكذلك دافنشي عند تقديمه للإنسان الذي عندما تتخذ سرته مركزا لدائرة حوله، يستطيع بلوغ محيطها في حالة مد الذراعين والقدمين في كل اتجاه، يصبح هو الإنسان المثالي. فإنسان دافنشي الكامل في هذه الصورة الأخيرة إنسان ذو تناسب رياضي هندسي وتناسب عضلي بين أجزاء جسمه، إلا أنه في النهاية بلا بعد جواني قيمي، فهو شكل هندسي بحت، ولا تسمح الصورة بأكثر من تلك الدلالة الرياضية. فالإنسان بذلك يصبح ظاهرًا فقط وفق معايير وفرضيات وضعية، ومن هنا يصبح الواقع هو المثال، ومن ثم نلمس هنا توظيف منهج المحاكاة، حيث تضييق الفاصل بين الدال والمدلول، وبين الغيب والعين.

الجذور الإغريقية للفن الغربي

لعل الجذور الحقيقية والمؤثرة للحضارة الغربية هي الجذور الإغريقية، وذلك على مدى التطور التاريخي، في جميع مناحي الحياة الأوروبية الحديثة، ومنها المنحى الديني. فالعالم الأوروبي بفلسفته يدين بالفضل للإغريق، وذلك ما قرره هيدجر بقوله: “فعبارة الفلسفة هي في جوهرها يونانية عبارة لا تقول شيئًا سوى أن الغرب وأوروبا وحدهما فلسفيان أصلاً في مجراهما التاريخي الباطن”(11)، فالغرب إذن هو الامتداد الطبيعي القديم، وذلك ما يدعونا إلى إلقاء نظرة على القديم كثابت تفسيري للجديد.

فالمحاكاة اليونانية تقوم على التركيز على شدة الشبه الواقع. وبالاستقراء نجد أن “الكلمة الشائعة للتمثال باليونانية كانت تعني حرفيًا التشابه أو الصورة”(12). وذلك ينطبق على مجمل اللغة اليونانية القديمة، حيث التسمية المطابقة للشيء المسمى. “فبالكلمة اليونانية المسموعة نكون في حضرة الشيء نفسه الواقع أمامنا مباشرة، لا في حضرة معناها وحده”(13). فهي لغة مثالية بمعنى الكلمة، حيث يتلاشى الفارق في التخيل وفي العلاقة بين الدال والمدلول. ولذلك تأثيره الكبير في معالجة المرئيات (الصور والتماثيل)، حيث يتم استحضار الشيء الممثل عينيًا، حيث يتم الوصول إلى المحاكاة النموذجية.

فالمحاكاة هي تنحية اللامرئي والغيب، وصنع نموذج مرئي معقول ليتم قياس الصورة عليه.

وقد كانت المحاكاة اليونانية بتطبيقاتها تبلغ حد الفرضية المثالية، حيث يقال عن فنان النحت “بوليجنوتوس” Polygnotus إنه “صور الناس على صورة أفضل من حقيقتهم”(14). فالمسألة هي صنع نموذج مرئي متكامل، بالرغم من كونه زائفًا وغير واقعي. فالوصول إلى الكمال هو المستحيل الذي حاول الفن اليوناني أن يحققه معتمدًا على رؤيته الخاصة عن الوجود. وقد علّق سقراط على ذلك بقوله: “إن اليونانيين قد أباحوا لأنفسهم درجة عظمى من الحرية”(15)، وهي الحرية التي مارسها الفنان في التمثيل والتشبيه المحاكاتي الخاضع لرؤيته النموذجية للإنسان المصور.

وقد وافق على تعليق سقراط هذا الرسام بارها سيوس Parhasius بقوله: “عندما تحاول نسخ نماذج للجمال فمن العسير أن تعثر على نموذج كامل، حتى تضطر إلى جمع معظم التفاصيل الجميلة للأشياء المتعددة، وبهذا تجاهد في أن تجعل التمثال بكامله يبدو جميلاً”(16). ولعل ذلك أيضًا ينسحب على تماثيل آلهة اليونان أيضًا، فهي تصور بصفات بشرية شبابية. وليس هناك عناصر تميز الآلهة اليونانية عن الإنسان. فالكل واحد أمام الطبيعة. وبذلك نجد أن الهدف الرئيسي هو صنع نموذج قوامه القوة والبذل واللذة والشباب الدائم، حيث إن الغرض من ذلك هو تدعيم فكرة الخلود البشري. ولذا؛ وجدنا الفنانين يبالغون في الاهتمام بصفات على حساب صفات أخرى. “فالصفات المنشودة هي تلك التي يتشابه بها الإنسان مع الآلهة إلى حد كبير”(17). ولعل هذه الطريقة هي التي مارسها فنانو عصر النهضة، حيث انتقاء الأجزاء المرسومة من عدة أشخاص مختلفين للوصول إلى نموذج أجمل من الحقيقي. ويمكن القول بأن مفاهيم وتطبيقات الإغريق المنبثقة عن رؤيتهم الفلسفية للكون والوجود قد وجدت تربتها الخصبة في عصر النهضة ذي الإطار المسيحي الشكلي.

المسيحية والصور

يحدد بول تيليش علاقة المسيحية بالعقائد السابقة عليها بقوله “كان للمسيحية أساس مشترك مع النزعة التوفيقية الدينية للعالم القديم، ألا وهو فكرة هبوط كيان إلهي لتحقيق خلاص العالم. وفي إطار الحركات الدينية التي تدور حول هذه الفكرة تم قهر القلق إزاء القدر والموت؛ من خلال مشاركة الإنسان في ذلك الوجود الإلهي”(18). ونستنبط من كلمة تيليش السابقة أن فكرة الهبوط الإلهي لتخليص العالم كانت مشتركة مع أفكار ومعتقدات العالم القديمة، وأقربها الإغريقية.

ويمكننا أيضًا أن نجد أن قضية الطبيعة المزدوجة للإنسان كانت فكرة عامة ملحة في العقل اليوناني القديم. فهي فكرة أيقونية مجسدة من خلال تقديم النموذج المصور كما أسلفنا القول. يُضاف إلى ذلك أن فكرة التجسد الإلهي في المسيحية من خلال الصور، لم تحسم في البدايات الأولى للدين، حيث كان ثمة خلاف وصراع حول مدى مشروعية التصوير في المسيحية.

فاليهودية في عهدها القديم حرّمت صنع الصور. إلا أن هذه الأفكار الخلافية لم تظهر إلا من خلال تأثر العقيدة المسيحية برواسب الفكر الإغريقي والروماني المصورة، حيث اعتبرت المسيحية الأيقونة أو الصورة عاملا هاما في تقريب وتدعيم فكرة الإيمان لدى البشر. ولهذا “حُسِمَت مشروعية الصورة من خلال المجمع الديني المنعقد بمدينة نيسي سنة 787م”.

لقد نص المرسوم الذي أصدره المجمع الديني ليس فقط على أن من يتعبد لأيقونات المسيح والعذراء والملائكة والأولياء ليس وثنيًا؛ لأن “الإجلال الذي تلاقيه الأيقونة يذهب للنموذج” (19)، وبذا فإن الشخص والصورة يصبحان شيئًا واحدًا دونما فاصل يذكر. فالأيقونة هي مرجعية ذاتها. وهنا نجد أن الفكرة الوثنية الأولى تبرز من جديد؛ حيث الصنم على شكل المسيح (تمثال) والصورة المسطحة على شكل المسيح، ومن ثم تغير شكله حسب وجهة نظر الرسام ودرجة تخيله وحبه له ،[*] حيث بذلك يصبح الإله الحاضر في الزمان والمنتقل في المكان. ومن خلال هذا الطرح نستنتج أن المسيحية الأوروبية قامت بتأويل الأفكار اليونانية القديمة، “بيد أن الجوهر اليوناني الأصيل للفلسفة قد وجهته وسادته – إبان سيطرته على أوروبا في العصر الوسيط – تصورات المسيحية”(20). فالمسيحية بذلك غلفت الأطر اليونانية بغلاف يبدو دينيا إلا أنه في الحقيقة عكس ذلك. ولعل السبب المعضد لذلك هو مفهوم التصوير الذي لم تستطع المسيحية أن تتخلص منه كعنصر بنائي في عقيدتها؛ برغم اختلاف الصور في العصور الوسطى عن الصور والتماثيل اليونانية، فقد كانت تأخذ ملمحًا شعبيًا أو رمزيًا إن جاز الوصف، مثل ضخامة الرأس عن الجسم في الشخص المصور، وهكذا باقي ملامح هذا النوع من التصوير الذي يعتمد إلى حد ما على التقييم المسيحي لمرتبة ودرجة الأشخاص المصورة التي تبتعد عن قيم البلاغة الإغريقية، من محاكاة شديدة للنموذج، أو المثال المتكامل البشري.

لقد لجأ فن العصور الوسطى إلى تمثيل الأشخاص المقدسة على صورة الإنسان الغربي العادي وليس المتكامل، بالإضافة إلى اختفاء دقة التشريح ووضعية وقوف واتجاه العمل المصور، ونسب الجسد المضبوطة التي تعبر عن القوة واللذة والشباب الدائم (قيم الخلود والاستمرار)، التي ما لبثت أن استنبطت في عصر النهضة.

الإنسان الحديث وظهور التجريدية

في عصر النهضة كان الإنسان في المركز والكل حوله، حيث هو القيمة العليا كما حدد تيليش. “فبينما يقيِّم العالم القديم الفرد لا باعتباره فردًا، وإنما بوصفه ممثلاً لشيء كلي، أي فضيلة، نجد أن بعث القديم يرى في الفرد تعبيرًا عن الكون لا يمكن أن يقارن بغيره، ولا يمكن استبداله، ويتمتع بأهمية لا متناهية”(21). فالإنسان بذلك هو المثال، ومن ثم تعلو قيمة المحاكاة، حيث الصورة هي المرجع لكل شيء ومنها الغيب.

فالإنسان الغربي في عالم النهضة أصبح صورة الإله وليس المسيح المجسد في الصور. لقد حسم الأمر حول خلافية كنه المسيح في السابق على مستوى صور النهضة من حيث هو الله أو ابن الله أو أن الإله المتعالي قد حل فيه فترة الصلب (حسب المعتقد المسيحي)، حيث إن عالم الصورة قد اختزل كل هذه المسافات والمسميات والفواصل التي شابت التصورات الذهنية، وبات نموذج الإنسان هو الحقيقة الوحيدة، أو قل: إنسان المثال والنموذج الإغريقي المتكامل. فبذلك تم تشكيل الذهن الإنساني وفق ما هو مرئي وملموس، حيث الغيب غير المتصور في الحضارة الغربية على طول فتراتها هو العدم. فالمتعالي والملموس قد اتحدا في الإنسان، وكانت تلك هي الأيقونة الثقافية لعالم النهضة.

إلا أن هذا الحال لم يستمر إلى الأبد، بل أخذ في الانحدار حينًا بعد حين، خاصة بعد تمكن المشروع العلماني شيئًا فشيئا في النموذج الحضاري الغربي، وشاعت الفلسفات التي تنفي الماوراء؛ مثل: النيتشوية، والداروينية، والماركسية، التي سيرت الإنسان الغربي وفق مجموعة من الجبريات المؤكدة على الكينونة المادية له فقط، دون اعتبار الأصل الرباني الروحي غير المادي. وبعد أن كان عصر النهضة يحاول وضع الإنسان في المركز الوجودي محل الإله أصبح الإنسان مفعولاً به بدلاً من كونه فاعلاً.

لقد تم إبعاد الإنسان عن المركز لتحل محله الطبقة (في الفكر الماركسي)، أو الطاقة الجنسية المحركة (في الفكر الفرويدي)، أو مفهوم موت الإله وبالتالي موت الإنسان وظهور الإنسان الأعلى حيث إرادة القوة (كما في الفكر النيتشوي). وهكذا تم تقويض الأخلاق والمعاني المعيارية، وبذا وُضِع الإنسان في موضع المُسيَّر وليس المُخيَّر، فهو يمشي ويتقدم تبعًا لأسباب مادية كامنة في العالم؛ يعرفها ولكنه لا يتحكم فيها، وبخاصة بعد ظهور الثورة الصناعية التي أدت دورًا في تسييد هذه التيارات الفكرية المادية في العقل الغربي، وسعت لاستبدال مفاهيم فلسفية اقتصادية اجتماعية مثل: الفردوس الأرضي بالمفاهيم الماورائية كالجنة.

لكن ما لبث مشروع الفردوس الأرضي أن عانى الفشل. فبعد حلول المطلق من الله إلى الإنسان كما في المثال النهضوي، أصبح المطلق كامنًا في الطبيعة، وهو ما أدى إلى اغتراب ونشوء إنسان المجتمع الغربي، حيث أصبح وحيدًا في هذا التيه من الحتميات، التي تسير به قدمًا نحو الهاوية، والتي بدورها هدمت نقاط الارتكاز والبناء في الفكر الغربي؛ ما أدى إلى ظهور الفن الطليعي (الحداثي) الذي أصبح فيه مفهوم العقل الذاتي مرجعًا لرؤية العالم الكلية بالنسبة للفرد.

ومن هذا المنطلق تحطم الشكل النهضوي ذو البعد الكلاسيكي كنقطة ارتكاز، حيث تمت محاولات لبعثه في القرن الثامن عشر على يد دافيد (الكلاسيكية الجديدة) ولكنها فشلت لاختلاف معايير العصر، وبالتالي ظهرت تيارات نفي هذا الشكل الكلاسيكي المستهلك ذي الخصائص المثالية مثل (الرومانسية – الواقعية – التأثيرية وغيرها). ثم ما لبثت أن ظهرت التجريدية في هذه الحقبة من الحضارة الغربية على يد فاسيلي كاندنسكي وبيت موندريان، ويؤسس كل منهما مرجعيته على دعامات تختلف عن المدارس السابقة عليه.

وكان أهم ملامح هذه الحركة الفنية الجديدة بروز البعد الذاتي الأكثر نسبية. وكما يقول مارسيا إلياد، فالفنان “كان عليه أن يرمي في هاوية العدم تلك الأطلال والأنقاض التي راكمتها الثورات التشكيلية السابقة. لقد كان عليه أن يصل إلى وضع رشيمي (محدد) للمادة حتى يستطيع أن يبدأ ثانية تاريخ الفن انطلاقًا من الصفر” (22).

كاندنسكي والبحث عن العالم المفقود[**]

غير أن هذا لا يعني عودة كاندنسكي بالإنسان إلى مكانة عصر النهضة، بجعله قيمة معيارية مركزية، بل من خلال تجربته الذاتية النسبية التي لا تكتمل إلا بتوحده مع الطبيعة المادة، حيث ثنائية الإنسان والطبيعة. ويتأكد ذلك بقوله: “لا يمكن للإنسان أن يتخلى عن العالم المحيط به، حتى لو أراد لما عرف السبيل إلى ذلك، ولكن يمكنه التحرر من الشيء”(24).

فعالم المادة وفق هذه الرؤية حتم لا فكاك منه، ولا جدوى من مقاومته، ولكن يمكن الهروب منه عن طريق إخضاعه لرؤية الإنسان الذاتية. ولعل ذلك هو الباعث وراء أسلوب كاندنسكي التصويري ذي التباينات اللونية والمتضادات الشكلية، والذي يعتمد على مفردات تصويرية محررة من التشابه مع الأشكال الطبيعية المتعارف عليها. وكذا في قوله “فاللحظة الديناميكية تأتي مع نشوء انفعالَين على الأقل؛ يسببهما وجود العناصر: الألوان والخطوط والأصوات والحركات… إلخ (التضاد) نُطقَان داخليان”(25). لذا فالتضاد بين الألوان والخطوط… إلخ، يمثل السمة العامة لأعمال كاندنسكي في مرحلته التجريدية، والتي يحاول فيها محاكاة تأثير الموسيقى على المتلقي.

ومن السابق نجد أن أعمال كاندنسكي التصويرية تتخذ أشكالا عضوية متحولة ومبهمة، فهو يقدم مفهوما صراعيا بين مجموعة من الدوال مبهمة المدلولات التي تعبر عن علاقات جدلية عشوائية بين الذات والموضوع؛ أي: بين الإنسان والعالم. فأسلوبه التصويري التبايني يعكس التمزق والتخبط الذي يعاني منه إنسان هذه الحضارة بين واقع لا مفر منه وآمال تطلعية مستحيلة. لذا فطرح كاندنسكي لعالمه الصوفي والقائم على تشويه الواقع المعيش، يندرج ويتوافق مع طرح وتحليل “تيودور أدورنو” وتعليقه على الفن الطليعي بالمقارنة مع الفن الكلاسيكي، “حيث كان الفن مرتبطًا بالتطهير في الأعمال الكلاسيكية التي تصور البطل في صورة كلية. لكن مفهوم القبح في الفن المعاصر الذي يتخذ صور التمزق والتفتت بدلاً من التناغم والانسجام قد تبدل بحيث أصبح بناءً إيجابيًا يخرج المرء من الانغماس في الواقع”(26).

ويتثبت ذلك بأحد تعليقات كاندنسكي بأن المضمون بالنسبة لأعماله هو حصيلة الانفعالات المثارة بوسائط التصوير الخالصة”(27)، حيث أصبح المضمون “شكلاً” في نهاية المطاف. فكاندنسكي يطرح رؤية عدمية لهذا الوجود، قاصدًا من خلالها النفاذ إلى عالم الحقيقة المضبب، غير واضح المعالم، والذي يعبر عن تيه وتخبط إنسان هذا العصر، حيث التمرد على المؤسسات الواقعية الفاسدة.

موندريان ورموزه الهندسية[***]

فموندريان عندما يرسم شجرة، نجده يقدم مجموعة لوحات متتالية لنفس الشجرة ولكن في كل لوحة تتخذ الأغصان والأفرع والجذع شكلاً هندسيًا مجردًا أكثر فأكثر مع متتالية اختزالية للشجرة الأصلية، وذلك وصولاً إلى الشكل النهائي المرجو وهو الهندسي الرياضي، المفصوم والمفارق للشكل الأصلي (الشجرة).

ومن ذلك يتضح أن محاولات موندريان للوصول إلى القيمة الحقيقية تتم من خلال فرضيات مادية رياضية، وذلك بعد تيقنه من حتمية ارتداد الإنسان إلى الطبيعة المادة، أي: الأصل المادي للإنسان، حيث التوافق مع النظريات والأطروحات المادية البحتة الهائمة في ذلك العصر. وذلك يجعل موقفه مختلفًا عن موقف كاندنسكي الاغترابي عن هذا العالم. ويتأكد ذلك بقول موندريان “أمقت كل ما هو مزاجي وإلهامي ونار مقدسة، وكل هذه النعوت المميزة للعبقري، والتي لا دور لها سوى حجب فوضى الفكر”(28).

فموندريان بذلك يعلن موت إنسان هذا العصر برفضه كل أشكال التمايز بينه وبين المادة. فهو يرفض حتى الإيمان به كقيمة. لقد كانت المشاعر والأحاسيس الإنسانية والمفاهيم الذاتية معايير تمثل آخر خنادق إنسان هذا العصر تجاه الطغيان المادي في الحاضرة الغربية، وقد هدمها موندريان بتأسيس مرجعيته على الطبيعة/ المادي، رافضًا حتى المرجعية الذاتية كآخر بصيص للأمل، وهذا ما يعني موت الإنسان.

فموندريان بذلك قد استسلم لواقعه المادي، وأصبحت محاولاته تبريرية لهذا الواقع، وذلك نتيجة للرؤية المفاهيمية المادية القابضة على نواحي الأمور، والتي ترى أن نكسة هذا العالم مردها إلى الإنسان عندما يعتمد على المفاهيم الغيبية. فالجمالية عند موندريان تكمن في مجموعة العلاقات الرياضية التي تتحكم في العالم، والتي إن قدَّمت فإنها تقدم حالة من الجمود والتحجر لهذا العالم.

ومما سبق نستخلص أن كلاً من كاندنسكي وموندريان له وجهة نظر تختلف عن الآخر، وذلك تبعًا لاختلاف رؤية كل منهما للعالم وللوجود، على الرغم من انتمائها إلى تيار فني واحد.

فكاندنسكي يلعب لعبة تفكيك للعالم من خلال تقويض رموز العالم المرئية المتفق عليها إدراكيًا وإعادة طرحها من جديد، ومن ثم فتح مجال رحب من التأويل. فهو يقدم دالا بلا مدلول اتفاقي محدد. فبالرغم من كمون المدلول داخل الشكل وخضوعه لشفرته، فإن تأويله وإدراكه تابع لمزاجية المتلقي النسبية. فكاندنسكي يقصد غاية مجهولة أشبه بالطيف، ويتوصل إليها بوسيلة مجردة هي أسلوبه الفني الباحث عن مساحة تأويل جديدة للعالم ورموزه، فهو يقدم عالما مؤولا غير معلومة حدوده الدنيا من الإدراك، أي إنه يقدم لغة جديدة للتعبير عن العالم ولكنها مفقودة الأبجدية.

أما موندريان فهو يقصد غاية معلومة أي عالما محددا لديه، وهو البناء الرياضي الذي يمثل ما وراء الطبيعة، ويتوصل إليه بطريقة مجردة عبر أسلوبه الفني غير المتداول فنيًا، لذلك فهو يقدم دالاًّ متمثلاً في عالم اللوحة المكون من أشكال هندسية، وهذا الدالُّ متطابق مع المدلول المتمثل في البناء الرياضي الماورائي، حيث تم قتل مساحة التأويل والمجاز بينهما. فنقطة البدء لديه هي نقطة النهاية حيث تشابه الغاية والوسيلة. وبذا نستخلص أن العمل الفني لا يمكن تأويله وتفسيره دون الرجوع إلى رؤية وعقيدة صانعه. ومن ذلك يتضح لدينا علاقة الفن الحداثي بالعالم المحرك له، والدافع لتفجيره داخل العالم الغربي.

وقد حدد ماركيوز ذلك بقوله “إن الفن، شأنه شأن التقنية، يخلق عالمًا جديدًا من الفكر والممارسة داخل العالم القائم بالذات، ويضع هذا الأخير موضع اتهام. ولكن العالم الفني، بعكس العالم التقني، هو عالم من الوهم والترائي. ولكن هذا الوهم أو الترائي مشاكل للواقع الموجود، وهو وعيد الواقع القائم ووعده في آن واحد”(29).

فالفن الحداثي هو وليد انتصار المادة في العالم الغربي، ولكنه في نفس الوقت المدمر لها. فهو التعبير الصريح عن الحضارة الغربية كإطار عام يحمل مجموعة من المتناقضات التي بدورها هي بذور فنائه. فالمثال النهضوي قدم الإله الغربي من خلال الإنسان في أيقونة واحدة مستلهمًا التراث الإغريقي والروماني.

فالتأيقن “هو أن يصبح الدال مدلولاً ملتفًا حول نفسه لا يشير إلى شيء خارج ذاته”(30).

أما في التجربة الحداثية فالإنسان قد تم تفكيكه وتقديمه من خلال الطبيعة/المادة. ولعل الخلاف بين كاندنسكي وموندريان من خلال رؤية كل منهما النسبية، يرجع إلى الفصام النكد في هذه الحضارة بين مختلف مؤسساتها. فانفصال الدين عن الفن والعلم أدى إلى تشتت الرؤية المعيارية، ومن ثم المفاهيم العامة التي تحكم علاقة الإنسان بالكون، وهو ما أدى إلى تعدد الأطر المرجعية الخاصة بكل مؤسسة، وإلى التشتت حتى داخل إطار كل مؤسسة على حده.

ولذلك، فما من فنان كبير، اليوم، إلا ويؤمن بانحطاط فنه واختفائه الوشيك. من هذه الوجهة يشبه موقفه موقف “البدائيين”: يساهمون في تدمير العالم – أي تدمير عالمهم هم، عالمهم الفني – حتى يخلقوا منه عالمًا آخر”(31). لذا فالفن على الرغم من كونه وليد المجتمع والواقع الآني، ولكنه الراغب في نفس الوقت في تدميره وتغييره، فإن دوره يتعدى ذلك إلى التكهن بالرؤية المستقبلية القادمة. فسقوط وانهيار النسق الفني هو مؤشر هام للإيذان ببدء الانهيار الحضاري عامة. فالفن الغربي يضع يده على الفجوات الناشئة بين المفاهيم العامة الحاكمة والممارسة التطبيقية لها، وذلك خاصة في حضارة متعددة ومتتالية ومتغيرة الأطر أو المقاصد الحاكمة بالنسبة للمجتمع، لذلك فإن “الفنانين من خلال إبداعهم، يستقرئون ما سوف يحدث – أحيانًا بعد جيل أو جيلين – في القطاعات الأخرى من الحياة الاجتماعية والثقافية”(32)، ولعل ذلك ما نلحظه من تفكك وتشرذم داخل الأبنية الاجتماعية الغربية.

أما في الفن الإسلامي، فثمة تطابق بين الرؤية الذاتية للكون والرؤية الدينية التي تشكل مرجعا عاما أشمل، يحوي بداخله الرؤى الخاصة للأفراد، والتي تشكلت من خلال نفس المرجع، وبالتالي ينسحب دور المرجعية الدينية على الفن والعلم. وبذا نجد أنه لا يوجد في الإسلام فن نخبة، حيث تذوق وتلقي العمل الفني سواء مجردًا أو بأي صورة أخرى، فإنه يتم بشكل واحد في مختلف الطبقات التي تحيا داخل الأمة (خليفة، فقيه، رجل أمي)، وذلك لأنه يوجد مرجع واحد لكل أفراد الجماعة المسلمة. والفن بالتالي لا يتعامل خارج إطار هذا المرجع.

فالفن الإسلامي ليس مرتبطًا بإطار مرئي دنيوي محدد. وإن وُجِد إطار مرئي فإنه يكون ظاهرًا فقط؛ لأن الباطن يحيل إلى الله المتعالي. فالعمل الفني المجرد في الإسلام يصبح دالا ذا مدلول غيبي؛ حيث يرجع المتلقي إلى غير المجسد وغير المتخيل، وهو الله سبحانه وتعالى، مدبر الكون ومسيره. ويتحقق ذلك بصنع دالٍّ مجازي بصري مرادف لمدلول الكلمة (النص) يسمى في النهاية بالتجريد، وعلى مستوى الصورة يسمى التجريد.

ومما سبق نجد أنه من العسير إيجاد أوجه شبه بين التجريد في الفن الإسلامي والآخر في التجربة الحداثية. فالتجريد الإسلامي نابع من الرؤية العقائدية الإسلامية، وبالتالي موجه لتدعيمها. وهو، بذلك، ينتمي إلى ثقافة وحضارة معلومة المطلق والغاية، حيث يقر بوجود ثوابت للأمة، ويصون هذه الثوابت.

فالتجريد الإسلامي مهما اختلفت أشكاله التعبيرية فهو منوط به دور إيماني يختلف عن دور التجريد الحداثي الذي من تسميته يتبين ارتباطه بفترة زمنية بدأت تتفجر فيها أزمة الحضارة الغربية (وما زالت)، حيث عمومية الوجه التقني وفقدان المرجعية، فالتجريد الحداثي ظهر ليعبر عن أزمة إنسان هذه الحضارة الذي يبحث عن مرجعية وغاية؛ ولذا فعدمية الواقع التي يقدمها التجريد الحداثي هي رؤية إيمانية ولكنها ضلت الطريق. فمارلو يقول: “إن حضارتنا هي الحضارة الوحيدة في التاريخ التي تجيب على سؤال: ما معنى حياتنا؟ بـ لا أعرف”(33).

مراجع الدراسة:

11- مارتن هيدجر، ما الفلسفة.. ما الميتافيزيقا.. هيلدرلن وماهية الشعر، تعريب: فؤاد كامل ومحمود رجب، سلسلة النصوص الفلسفية (2)، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، انظر مقال: ما الفلسفة؟ ص: 54.

12- س. م. بورا، التجربة اليونانية، تعريب د. أحمد سلامة محمد السيد – الألف كتاب (الثاني) (67) – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة ص 222.

13- مارتن هيدجر، المصدر السابق، ص: 58.

14- س. م. بور، التجربة اليونانية، المصدر السابق، ص: 223.

15- المصدر السابق، ص: 223.

16- المصدر السابق، ص: 223.

17- المصدر السابق، ص: 224.

18- بول تيليش، الشجاعة من أجل الوجود، تعريب: كامل يوسف حسين، دار الكلمة، القاهرة، ص: 34.

19- ريجيس دوبري، مصدر سابق، ص: 62.

20- مارتن هيدجر، مصدر سابق، ص: 54.

21- بول تيليش، مصدر سابق، ص: 41.

22- مرسيا ألياد، مظاهر الأسطورة، تعريب: نهاد خياطة، دار كنعان للدراسات والنشر، دمشق، ص: 71.

23- فاسيلي كاندنسكي، كاندنسكي بقلمه، تعريب: عدنان المبارك، مجلة فنون عربية، العدد الثاني، 1981، ص: 100.

24- المصدر السابق، ص: 99.

25- المصدر السابق، ص: 100.

26- د. رمضان بسطاويسي محمد، علم الجمال لدى مدرسة فرانكفورت.. أدورنو نموذجًا، مطبوعات نصوص 90، القاهرة، ص: 118.

27- فاسيلي كاندنسكي، مجلة فنون عربية، مصدر سابق، ص: 102.

28- د. محمود أمهز، الفن التشكيلي المعاصر، دار المثلث، بيروت، ص: 146.

29- هربرت ماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد، تعريب: جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، ص ص: 249 – 250.

30- عبد الوهاب المسيري، اللغة والمجاز، دار الشروق، القاهرة، ص: 162.

31- مرسيا إلياد، مصدر سابق، ص: 71.

32- المصدر السابق، ص: 71.

33- رجاء جارودي، حفارو القبور، تعريب: رانيا الهاشم، منشورات عويدات، بيروت، ص: 7.

[*] يحيل الكاتب القراء لفحص علة تحريم الإسلام لتمثيل الأنبياء.

[**]كاندنسكي: من أبرز رموز المدرسة التجريدية الغربية. وهو روسي الأصل، وله بصمة واضحة في الفن الغربي، كان منها تأسيسه لمدرسة فنية سميت “”.

[***]موندريان.. من أبرز رموز المدرسة التجريدية الغربية. وهو فنان فرنسي عاش في باريس خلال الفترة من 1919 إلى 1938، حيث انتقل إلى لندن، ومنها إلى نيويورك في عام 1940. حازت أعماله شهرة واسعة وإن لم تحقق مبيعات، وكان من أشهر أعماله الأخيرة المسماة: “فيكتوري بوجي ووجي”.. لم يكن قد انتهى منها حين توفي في نيويورك في عام 1944.

مدار الساعة ـ