بقلم: اللواء الركن (م) الدكتور محمد خلف الرقاد (*)
ولعل حدوث مثل هذا الأمر للمرة الأولى في التاريخ الأمريكي السياسي والعسكري والأمني يكون خروجاً على المألوف، ويشكل ضربة قاسية للديمقراطية على الأرض التي تتغنى أمريكا بقيادتها وملكيتها لناصية الديمقراطية في العالم، وقد تكون المرة الأولى التي تتقاطع فيها التوجهات بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية في التاريخ السياسي والعسكري في الولايات المتحدة الأمريكية.. وقد لا تُلام القيادة العسكرية الأمريكية بما فيها رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكي في عدم التعجل بإصدار إعلان بالتدخل العسكري باستثناء إنهاء عملية الشغب التي يقع إنهاؤها على عاتق الأجهزة الأمنية، اللهم إلا إذا خرجت الأمور عن السيطرة.
لكن في ظل الدستور الأمريكي القائم، وفي ظل استراتيجية الأمن القومي الأمريكي والاستراتيجية العسكرية للجيش الأمريكي، فإن الرئيس الأمريكي - كقيادة سياسية - هو المخول باتخاذ قرارات الحرب، ومن صلاحياته اتخاذ قرارات عسكرية لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية دون الرجوع إلى الكونغرس، والقيادة العسكرية الأمريكية - في ظل ما جرى - مرتبطة برباطين رئيسين أساسيين هما الدستور الأمريكي الذي أقسم العسكريون على العمل بموجبه، واستراتيجية
الأمن القومي الأمريكي - التي يضعها مجلس الأمن القومي المرتبط بالرئيس - وتخضع لها وتخدمها الاستراتيجية العسكرية في رسم سياساتها ووضع خططها وأهدافها العسكرية.
الظروف الراهنة والآنية بعد نتائج الانتخابات وسلوكيات الرئيس الحالي الذي يرفض الاعتراف بالهزيمة في الانتخابات وما تصرف به مؤيدوه وعمليات اقتحام الكونغرس، أنشأت وضعاً جديداً وغير مسبوق، تسبب في حدوث خلخلة في مصفوفة القيادات السياسية الأمريكية العليا، وحتماً كان لها التأثير الكبير والمهم على منظومة القيادة العسكرية في الجيش الأمريكي، فواجب القوات المسلحة الأمريكية حسب الدستور، القيام بمسؤولية حماية الأمن القومي الأمريكي في الداخل وفي الخارج من أي خطر أو تهديد، ولكن الخطر والتهديد جاء في هذه المرة من الداخل الأمريكي (الرئيس القائمة ولايته ومن أنصاره) وليس من الخارج، وذلك باستعمال العنف السياسي باقتحامه للمؤسسة التشريعية الأمريكية بمعنى أن جرحها في كفها ولن تشكيه لأحد.
وهنا إذا خرجت الأمور عن السيطرة، قد تكون القيادة العسكرية ملزمة بالتفكير بشكل أعمق يوازن بين الدستور والقانون والضبط والربط العسكري وطاعة الأمر وبين تهميش دور الرئيس من أجل عيون مصلحة أمريكا العليا، وتُخلِّصُ بلادها من أزمة قد تُفْرض عليها، وقد تدمر علاقتها الخارجية وسياساتها الداخلية، ومن المعتقد أن لدى القيادة العسكرية الأمريكية من الفكر الاستراتيجي السياسي والعسكري ما يمكنهم من إخراج الولايات المتحدة من الأزمة قبل أن تصل إلى عنق الزجاجة خلال العشرة أيام القادمة، ومن المتوقع على غير ما يروج له بعض التنظير السياسي من خشيتهم من ضحالة فكر العسكر السياسي وقلة ثقافتهم السياسية، وأؤكد بأنه حينما تتقاطع توجهات القيادة السياسية مع القيادة العسكرية فإن الأمر سيقود البلاد إلى مهب الريح،، ولا أعتقد أن السياسيين والعسكريين الأمريكيين سيتلكأون أمام منع سقوط بلادهم في محرقة الخلاقات السياسية، حتى لو كان موقف الرئيس الحالي على ماينوي، بحيث قد يقود البلاد إلى بداية خط التهلكة، فالناظر من بُعد استراتيجي لا بد وأن يعرف بأن في الولايات المتحدة دستوراً يخضع له الجميع من الرئيس حتى الجندي والمواطن، فعند اتضاح سير الانتخابات، وتبين أن الفوز سيكون حليف الرئيس المنتخب " بايدن " الديمقراطي واعتراض الرئيس الحالي " ترامب " على الانتخابات، ورفضه القبول بالنتائج التي أفرزتها الصناديق، وإعلانه بعدم نيته أخلاء البيت الأبيض، وإصراره على عدم تسليم السلطة حسب الدستور وبقائه على رأس السلطة حتى وأن وصل موعد 20 نوفمبر 2021، نرى أن رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكي قد خرج بتصريح في تلك الأيام، وحسم الموقف في إطار صلاحياته بقوله : " نحن أقسمنا على خدمة الولايات المتحدة بموجب الدستور، فإذا لم يتخل الرئيس الحالي " ترامب " عن السلطة حسب الدستور، فإن الجيش سيقوم بواجبه ".
وعلى الواقع الآن، فإن الرئيس الأمريكي الذي ما تزال ولايته قائمة، وما زال على رأس سلطته بشكل رسمي ودستوري وقانوني يتمتع بشرعيتين هما الشرعية القانونية حتى 20 نوفمبر الجاري والشرعية السياسية التي ستنتهي حكماً في التاريخ نفسه، خلال العشرة ايام قد يكون من الممكن تجريده من شرعيته السياسية بعزله بموجب الدستور مع بيان الأسباب الموجبة خاصة إذا ترتب على الأمر قرارات قد تورط الولايات المتحدة بأبعاد سياسية وعسكرية جديدة وتضر بمصالحها العليا، وهي في غنى عنها على الأقل الآن، أما شرعيته القانونية فتمنحه الحق في البقاء على راس السلطة بموجب الدستور إلا إذا قدّم استقالته من تلقاء نفسه، وهنا ستواجه القيادة العسكرية الأمريكية حرجا ًشديداً، وسضعها الوقف تحت مطرقة الدستور والقانون وشرعية الرئيس والضبط والربط العسكري وطاعة الأوامر وبين سندان المصلحة العليا للبلاد التي قد تتعرض للإضرار بها داخلياً وخارجياً، إلا أنه من المرجح أن تكون هناك موازنة دقيقة بين تطبيق الدستور، وقرارات الرئيس السياسية والعسكرية - التي قد يعمد لاتخاذها في مدته المتبقية - والتي منحها له الدستور الأمريكي، ومن المؤكد ان مصلحة البلاد العليا ستكون هي الغالبة، ولكن لا بد أن تكون في إطار دستوري وقانوني، ولن يَقْصُرَ الفكر العسكري الاستراتيجيى الأمريكي في اجتراح الآليات التي سيحافظ بموجبها على المصلحة العليا لبلاده دون اختراق للدستور، ومهما كان القرار السياسي أو العسكري الذي قد يُقْدِمُ الرئيس ترامب على اتخاذه فإنه لن يستطيع، لأن استخدام الأسلحة الأمريكية حسب استراتيجياتها هو للردع وللدفاع عن أرضها ومصالحها وليس لمهاجمة أحد في النظام الدولي، وإنْ تمكن الرئيس الحالي من اتخاذ أي قرار فإنه سوف يواجه بالفرملة حت تمضي العشرة أيام، فالعسكريون هم الذين يمسكون فنياً بأذرع القوة التي تقع ضمن صلاحيات الرئيس ويمكنه استخدامها دون الرجوع إلى الكونغرس، وهم الذين أقسموا على خدمة مصالح بلادهم، وليس على خدمة أشخاص يعدون أياماً قليلة جداً جدا، ولكن ستبقى الأحداث التي جرت ندبة قوية وواضحة في تاريخ الديمقراطية الأمريكية عبر التاريخ العسكري والسياسي الأمريكي.
(*) مدير التوجيه المعنوي الأسبق واستاذ العلوم السياسية الأسبق (محاضر غير متفرغ ) في الجامعتين الأردنية الهاشمية.