مدار الساعة - تحت عنوان "صاحب الرئاسات الثلاث" كتب السفير الليبي في الاردن محمد البرغثي:
- حدثني أبو نشأت عن مرحلة التكوين قائلاً : "ولدتُ فى نابلس ( جبل النار ) ، من عائلة عملت بالتجارة ، فى طفولتي شاهدتُ الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين يتكدسون فى المدارس والمساجد والخيام، ولقد حُفرتْ تلك الصورة فى ذاكرة الطفل الصغير ، وكان الملك عبدالله الأول فى ذلك الوقت على وشك إعلان وحدة بين الضفة الغربية والضفة الشرقية ، وفى مرحلة الإدراك كانت الثورة المصرية بقيادة عبدالناصر ، الذى كان له تأثير كبيرا على جيلي فى تلك الفترة ، التى عُرفت بمرحلة المد القومي ، وتولى الحكم فى الأردن الملك الحسين الذى قاد عملية تطهير الجيش الأردني وأخرج ( جلوب باشا ) ، وهكذا وجدتُ نفسي فى خضم مشاعر وطنية وقومية متأججة .
- يرى دولة طاهر المصري أن حرب حزيران 1967 ، قد أحدثت تحولاً عميقاً فى مسار تفكيره ، وعن ذلك يقول : " كم كانت سعادتي كبيرة عندما سمعت بإن الجيش المصري قد هاجم اسرائيل، وكنت أتابع إذاعة صوت العرب وهى تعلن إسقاط عشرات الطائرات الاسرائيلية ، وتحلّق حولي الأصدقاء في شقتي فى عمان نتابع الأخبار ، ليتبين لنا فى ما بعد بأن الأمور لم تجر كما كنا نشتهي، أصبتُ بخيبة أمل ، وأستمعتُ الى عبدالناصر يلقى خطابه فى 10 حزيران 1967 ويعلن أستقالته ، بكيتُ يومها بُكاءاً مُراً ، حيث أحسستُ فى تلك اللحظة بأن ما كنتُ أؤمن به قد انهار أمامي بشكل مُفاجئ، وأحسستُ حينها بولادة الشخصية الناقدة ؛ التى لم تعد تقبل الأمور على علاتها".
- لم يمض أبو نشأت فى هذا المقعد سوى ثلاثة أسابيع، ليتصل به الديوان الملكي ويحدد له موعداً للقاء زيد الرفاعي ، وعن ذلك يقول : "كانت المفاجأة أنه عرض عليّ أن أكون وزيراً فى حكومة كٌلف بتشكيلها ، قلتُ له : أصبر عليّ لأستجمع أفكاري، ماهى الوزارة ؟ قال : وزارة شؤون الأرض المحتلة وهى وزارة جديدة، سألتُه: من معنا ، أجاب : وبعدين فيك، اللي أكبر منك ما سأل، لقد صرتُ وزيراً وعمري احدى وثلاثون سنة، وذهبتُ لأداء القسم بشعر كثيف ، وتشكيلة ملابس زاهية ملفتة للنظر ولازلتُ أذكر نظرات الملك الحسين الى قيافتي " .
- المهمة لم تكن سهلة بالنسبة للوزير الأردني الشاب ذو الأصول الفلسطينية ، لقد مثلت قمة الرباط تحدياً كبيراً ، وعن ذلك حدثني قائلاً : " لقد حضرتُ قمة الرباط ، وكان التآمر على الملك الحسين وعلى الوحدة بين الضفتين واضحاً.....
- لم يمض وقتٌ طويل حتى عاد أبو نشأت الى العمل العام ، ليدخل عالم الدبلوماسية ويعين سفيراً لدى أسبانيا ، وكما ذكر ليّ بأنها تجربة رائعة ، تعلم منها الكثير ، فقد جاءت متزامنة مع التحول الديموقراطي فى أسبانيا : " رحل فرانكو ، بدأت مراسم تنصيب خوان كارلوس ، كان فرانكو ديكتاتوراً وزعيماً قوياً ، مُمسكاً بكل الأمور ، مدعوماً من الجيش ، ولكنه قرر ان ينقل السلطة بشكل سلس ، وبالفعل أستطاع خوان كارلوس وبمساعدة زوجته صوفيا أن يدركوا أهمية التحول ، وأصبحوا ملوكاً دستوريين مثل بقية ملوك أوروبا ، وليتحول الحكم تدريجياً من الحكم الديكتاتوري الى الحكم الديموقراطي ، وقد نجحت أسبانياً نجاحاً كبيراً، وأصبح خوان كارلوس من أقوى ملوك أوروبا ، تجربةٌ رائعة تعلمتُ منها الكثير " .
- تحول أبو نشأت الى محطة دبلوماسية اخرى ، حيث عُين سفيرا. لدى فرنسا ومندوباً للاردن لدى اليونسكو ، وخلال السنوات الخمس التى أمضاها سفيراً لبلاده فى باريس ، ربطته علاقة طيبة بالرئيس الفرنسي جيسكار ديستان وعن ذلك حدثني قائلاً : " ذات يوم تلقيتُ دعوة من الرئيس الفرنسي لمصاحبته فى رحلة صيد ، علماً بأنني لا أعرف شيئاً عن عالم الصيد ، ولكنها كانت فرصة أُتيحت للحوار مع الرجل، والذي لم يخفي تأييده للحقوق الفلسطينية ، ودعمه للاعتدال الأردني، لفت نظري أستغرابه لموقف العرب من القرار 242 فهو لايراه نهاية الحل، ويقول انه بداية ويجب أن يبدأ العرب ، ولقد تردد الملك الحسين على باريس كثيراً وذلك خلال فترة وجودي ، وربطته علاقة جيدة بالرئيس ديستان ، ولقد بُذل جهد لإقناع الرئيس الفرنسي أن يزور المنطقة ، وبالفعل تمت الزيارة، وأُلتقطت للرئيس صورة فى منطقة أم قيس ، وهو ينظر الى الضفة الاخرى بالمنظار ، أستخدم اللوبي اليهودي فى فرنسا هذه الصورة أثناء الانتخابات الفرنسية ، حيث تم تقديمها للرأي العام بأن الرئيس يقف فى موقع عسكري أردني ويحمل منظاراًعسكرياً ينظر من خلاله الى اسرائيل ، وأعتبر ذلك موقفا معادياً لها ، وكان للصورة تأثير كبير ، ولقد خسر الرئيس ديستان الانتخابات، ولم ينس الرجل العلاقة التى ربطتنا ، فقد دعاني على غداء فى بيته بعد أن ترك الرئاسة" .
- انتقل أبو نشأت للعمل كسفير لدى بريطانيا ، أمضى فى هذا الموقع ثلاثة شهور فقط ، ليعود بعدها الى وضعه البرلماني السابق كنائب، وذلك بعد إعادة مجلس النواب عقب التجميد ، وفى هذه الأثناء استقال مضر بدران ، وكلّف الملك أحمد عبيدات مدير المخابرات السابق بتشكيل الحكومة ، ليُعرض على أبو نشأت منصب وزير الخارجية : " عندما تم اللقاء بيني وبين أحمد عبيدات فى وزارة الداخلية، قدم ليّ عرضه لتولي وزارة الخارجية ، لكني رفضتُ ذلك، قال : أتريد الاعلام ؟ قلتُ له : لا أريد وزارة ، أفضل العودة الى لندن وأستمر هناك ، قال ليّ : هل يُعقل أن ترفض وزارة الخارجية وتبقى سفيراً ؟ فى هذا الأثناء كان الملك الحسين يعالج داخل المستشفى، وجاءت دعوة للقاء الرئيس ، ولم أعرف أيهم ؟ هل هو الرئيس المستقيل أو الرئيس المُكلف ؟ ذهبتُ الى الرئاسة وإذا بنا نتحرك جميعاً الى المستشفى، لنحلف اليمين وأصبحتُ وزيراً للخارجية" .
- بدأ الملك الحسين يضع الترتيبات لمرحلة جديدة ، ويُعد العدة لإنطلاق قطار المفاوضات ، الملك الخبير بتعقيدات وتفاصيل القضية الفلسطينية ، أدرك أن الوقت مناسب لأن يكون طاهر المصري رئيساً للحكومة ، استلم أبو نشأت الحكومة والأردن فى حالة أقرب الى حالة الحصار ، دول الخليج غاضبة من الموقف الاردني، على خلفية الاجتياح العراقي للكويت، ورغم هذه الظروف الأستثنائية الصعبة ، أكد ليّ أبو نشأت : " لقد أنجزنا قوانين مهمة ، ألغينا الأحكام العرفية ، أصدرنا قانون جديد للمطبوعات ، اصدرنا قانون احزاب منفتح الى حد ما ، أنهينا عمل لجنة الأمن الاقتصادي التى كان يتم اللجؤ إليها لتمرير ما يصعب تنفيذه قانوناً " .
- بدأ الاعداد لمؤتمر مدريد وتشكل الوفد الأردني الفلسطيني المشترك للمفاوضات ، وقبلت الأطراف بذلك ، وقد انعكس ذلك على الداخل الأردني ، وبالتحديد فى داخل مجلس النواب ، وفى إطار حراك سياسي متعدد الأسباب ، واجهت حكومة طاهر المصري محاولات لحجب الثقة، وعن ذلك حدثني قائلاً : "أشهد بأن هذا المجلس كان من أحسن وأنظف المجالس، وعندما علمتُ بأنه تم جمع خمسين توقيعا لإعادة طرح الثقة فى حكومتي ، ذهبتُ الى الملك الحسين عارضاً استقالتي ، لقد رفض الرجل ذلك، وهذا يعني أن الملك قد يضطر الى حل البرلمان ، طلبتُ من الملك أن يحافظ على هذا الوليد الديموقراطي، فمن الأفضل أن تذهب حكومة وتأتي حكومة ، حفاظاً على صورة الأردن وصورة العرش ، وتم الاتفاق على الاستقالة ، وجاءت لحظة السلام على الملك وكانت لحظة عاطفية مؤثرة ، التفت الملك نحوي قائلاً : "أشهد الله أني ما تعاملتُ مع أشرف منك ، لقد تأثرتُ تأثراً شديداً وحبستُ دموعي بصعوبة ، ورأيتُ فى ذلك خروجاً مشرفاً ليّ ولحكومتي ".
- لقد كان دولة طاهر المصري قريباً من الملك الحسين ، حظي بثقة الملك ، وبقرب الملك ، ولقد سألته ذات مرة وأنا الواثق من قدرته على معرفة الرجال، كيف وجدت هذا الرجل ؟ يقول المصري : " الملك الحسين يحمل فى داخله شعورا دون أن يبوح به ، بأنه جاء ملكاً وله مهمة ، وريث للثورة العربية الكبرى ، كان مؤمناً بها ، الرجل يرتبط عاطفياً ونفسياً بجده الملك عبدالله، الذى كان يشعر بظلم نتيجة لحصوله على شرق الأردن فقط، الملك الحسين هو الآخر كان يشعر بأن قدراته أكبر من المكان ، كان يستطيع أن يدير منطقة أوسع بهدف الوحدة وليس بهدف السلطة ، لقد أثرت فى شخصيته حادثة اغتيال جده وهو بجانبه فى الأقصى ، وتألم كثيراً لخسارة القدس، ومات وفى قلبه غُصة ، كان الملك يكره الضعف والضعفاء ، حريصاً على الظهور بشخصية قوية ، كان انساناً مهذباً محترماً بشكل عجيب "، وفق رصد مدارالساعة.
- لقد جسد أبو نشأت فى حواراته معي حالة وحدوية ، حيث لم أرى خطأ فاصلاً بين ماهو أردني وماهو فلسطيني ، بل كان طرحه وحدوياً بإمتياز على مستوى الأمة ، فما بالك على مستوى الضفتين ، وهو يُرجع ذلك الى : "تربيتي كانت قومية ، الملك عبدالله الاول كان يحل فى بيت عمي الحاج معزوز فى نابلس ، كنا صغاراً ننتظر الدنانير الخمسة هدية العيد ، يوم استشهاد الملك عبدالله كان الملك فى بيت عمي، اراد الملك أن يذهب للصلاة فى الأقصى ، لا زلت أذكر المشهد حينما طلب منه عمي وأبي أن يبقى للصلاة والغداء معنا ، لكن الملك أصر على الذهاب، ودعنا الملك عند نهاية حدود متصرفية نابلس ، وبالتحديد فى منطقة اللبُن، ذهب الملك للصلاة ، وسمعنا خبر الاغتيال من خلال الراديو ، لقد كان لهذا الحدث الأثر العميق فى نفوسنا " .
- يُنظر الى دولة طاهر المصري بأنه ركيزة أساسية ورافعة وطنية فى المشهد السياسي الأردني، حيث يحظى بإحترام كبير على كلتا الضفتين لمواقفه الوطنية ورؤيته العقلانية المتوازنة . أعتزُ كثيراً بالعلاقة والصداقة التى ربطتني بأخ عزيز وصديق حميم وقامة وطنية ، لصديقي أبو نشأت كل التقدير والاحترام .