مدار الساعة - عمر العساف - على قلق، وببطء، يتحسس الأردن مواطىء قدميه شمالا، في ظرف قد يكون الأدق والأشد حساسية في تاريخ المملكة الهاشمية منذ أيلول 1970 وهو يراقب بحذر مرأى العين إحدى أكثر المناطق سخونة وتعقيدا في العالم: "جنوب سوريا".
هناك، على جانبي الحدود مع سوريا، حيث أجناد من شتى أصقاع الأرض، بين حليف وعدو وما بينهما، يتبدل المزاج السياسي الأردني لحظيا وفق المتغيرات على الأرض والقرارات المتزامنة في عواصم القرار، وما يرافقها من توافقات معلنة ومخفية وضغوط، ربما كانت أخفها تهديدات دمشق الأخيرة لعمان.
ثوابت
الملك عبدالله الثاني ابن الحسين لخص أخيرا، في لقاء مع إعلاميين أردنيين، موقف المملكة حيال الأزمة السورية، بـ"لا بديل عن الحل السياسي، ولن يتم تحقيق ذلك من دون تعاون روسي- أميركي على جميع الملفات ... ولن نسمح للتطورات على الساحة السورية وجنوب سوريا بتهديد الأردن، ونحن مستمرون بسياستنا في الدفاع في العمق من دون الحاجة لدور للجيش الأردني داخل سوريا ... والهدف هو العصابات الإرهابية وعلى رأسها داعش".
فالثابت هنا أن الأردن الرسمي، الذي يدعو منذ اندلاع الأزمة السورية قبل أكثر من ست سنوات، إلى ضرورة الحل السياسي، لا يملك أن يفرض إيقاعه في ظل تصارع الإرادات بين الفرقاء الإقليميين والدوليين.
والثابت أيضا أن الأردن يصر ويرفض، حتى اللحظة، على عدم التدخل المباشر في ما يحدث خلف حدوده، على رغم أن شظايا الاقتتال الدائر هناك تصيب قراه ومدنه الحدودية من وقت الى آخر، وقت لن يسمح للإرهابيين بالتعدي على أمن البلاد.
ولكن الثابت كذلك أنه لا يستطيع أن يرفض حلولا وإجراءات يقررها الفرقاء، وخصوصا حلفاؤه الإقليميون (الخليجيون) والدوليون (الولايات المتحدة وأوروبا)، وإن كانت سياسة التملص قد أفادته كثيرا من الوقوع في مستنقع الحرب الدائرة كما حدث مع الروس والأتراك والإيرانيين ومؤيديهم من عراقيين وأكراد و"حزب الله" اللبناني.
لكن الأسابيع الأخيرة، التي بات الحديث فيها عن الحسم العسكري لما يسمى "الحرب الدولية على الإرهاب" المتمثل في "داعش" و "جبهة فتح الشام" (جبهة النصرة) ومن يدور في فلكهما، تشي بأن مساحة المناورة والتملص والتوفيق تتضاءل وتنحسر.
وربما هذا ما يفسر الإرباك الذي يحوط المواقف الأردنية وهو يحاول التوفيق بين ثوابته (الحل السياسي وعدم التورط عسكريا) والمتغيرات المتلاحقة والضغوط المتلاحقة من حلفائه، في ظل وضع داخلي بالغ الحساسية سياسيا واقتصاديا.
تحديات
جملة تحديات يواجهها صانع القرار الأردني وهو يبحث في السيناريوات المحتملة حيال تطورات الأزمة السورية، خصوصا عقب نتائج "آستانا 4" التي يبدو واضحا أنها تأخذ طريقها إلى الترجمة أرضا.
يمكن إجمال هذه التحديات بخمسة، هي الأكثر إلحاحا وضغطا على عمان:
الأول: التحدي الداخلي، وهو ما ركز عليه العاهل الأردني عبدالله الثاني مرارا، بالقول أن "التحديات الخارجية" على الحدود مع العراق وسوريا لا تخيفه، وأن ما يهمه بالدرجة الأولى "تماسك الجبهة الداخلية وتمتينها".
لكن الواقع يشي بغير ذلك، فسياسيا، المشهد متشظٍّ حيال الموقف من العلاقة مع النظام السوري، وكذلك من التدخل العسكري، وخصوصا البري منه.
فالأردنيون منقسمون بحدة منذ سنوات، حد التخوين المتبادل، على المستوى الشعبي والنخبوي، حيال الموقف من النظام السوري، بين من يعتبره مجرما يجب إطاحته، وقوميا "آخر قلاع الممانعة" في وجه الصهيونية.
أما ما يرتبط بالتدخل العسكري في جنوب سوريا، فأظهرت نتائج استطلاع أجراه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، وأعلن نتائجه الخميس، حيال "الطريقة الأفضل لمواجهة التهديد العسكري المحتمل من قبل التنظيمات الارهابية"، أن 38% من مستجيبي العينة الوطنية و36% من مستجيبي عينة قادة الرأي يرونها "من خلال توجيه ضربات جوية في مناطق تتواجد بها التنظيمات الارهابية".
فيما يراها 29% من مستجيبي العينة الوطنية و34% من مستجيبي عينة قادة الرأي "من خلال القيام بعمليات خاصة في مناطق تتواجد بها التنظيمات الارهابية".
ويرى 13% من أفراد العينة الوطنية و4% من أفراد عينة قادة الرأي "دخول الأردن في حرب برية في مناطق محددة تتواجد بها تنظيمات ارهابية لمواجهة التهديد العسكري".
وفي حال كان هنالك ضرورة لدخول المملكة في حرب برية، أفاد 40% من مستجيبي العينة الوطنية و22% من أفراد عينة قادة الرأي أن على الأردن القيام بذلك "بالتعاون مع تحالف عربي"، و37% من أفراد العينة الوطنية و49% من أفراد عينة قادة الرأي يرون ضرورة قيام الأردن بذلك "بالتعاون مع تحالف دولي".
الاستطلاع أقحم هذه المسألة إقحاما في استطلاع دوري على مدى شعبية حكومة هاني الملقي، مما يبرز رغبة رسمية في قياس الرأي العام حيال التدخل في سوريا.
ويرتبط بهذا الوضع السياسي المعقد، وضع اقتصادي خانق، زادته صعوبة أعباء استضافة مليون وأربعمئة ألف لاجىء سوري.
التحدي الثاني، كما يراه المحلل السياسي عريب الرنتاوي "الجماعات الجهادية المتطرفة" من "داعش" و"النصرة" وأتباعهما، وخصوصا "فصيل خالد بن الوليد" المتمركز شمال نهر اليرموك قرب الحدود مع الأردن.
ويؤكد الرنتاوي لـ"النهار" أن لا مناص عن مواجهة هؤلاء "بالحديد والنار" ضمن "حلف دولي واسع ومتعدد، تحت مظلة القطبين الروسي والأميركي، لاستئصالهم من جنوب سوريا".
في المقابل، يبرز التحدي الثالث، وفق الرنتاوي، وهو "الميليشيات الصديقة للنظام السوري والموالية لإيران، وخصوصا حزب الله" والميليشيات العراقية، والإيرانيون أنفسهم..
وهو ما لا يريده الأردن ولا يقبل به، كما يقول القيادي في "الجيش السوري الحر" العميد الركن أكرم خليف، الذي يلفت إلى أن "ميليشيا حزب الله أصبحت قريبة نوعا ما من الحدود الاردنية، وكذلك من إسرائيل. في الوقت الذي ترى أميركا واصدقاؤها الخليجيون أنه حان الوقت لقص أجنحة ايران في سوريا".
ويعتقد هنا الرنتاوي أنه يمكن "تحييد" هذه الميليشيات "عبر القناة الروسية، التي "أظهرت فاعلية في كل مرة قررت فيها موسكو الإلقاء بثقلها خلف موقف معين".
وهو، أي الرنتاوي، لا يحسب أن تصعيد الموقف بين إسرائيل أو الأردن وهذه الجماعات، أمرُ "يندرج على أجندة الكرملين، أو أن دمشق متحمسة لخيار من هذا النوع". كما أن الأردن لا يرى مصلحة له، في تصعيد أمني وعسكري إسرائيلي مع هذه الأطراف على مقربة من حدوده.
التحدي الرابع، الذي ينتظر الأردن جنوب سوريا، وهو "مضمر" وفق الرنتاوي" يتعلق بالدور الإسرائيلي في محيط القنيطرة وأطراف درعا."
ويعتقد الرنتاوي أن لإسرائيل مصلحة في "منطقة آمنة شبيهة بجيب سعد حداد وشريط أنطوان لحد الحدودي، وإسرائيل قد تقترح لنفسها أدواراً في مناطق بعينها، ترى فيها متطلباً ضرورياً لنظريتها الأمنية"
هنا يحذر الرنتاوي من أن "أي تداخل بين الأدوار، وأي اختلاط في الأجندات، سيعرض الأردن لما هو في غنى عنه، من اتهامات وحملات وتهديدات".
التحدي الأخير يكمن في مقدرة المملكة على التجاوب مع الضغوط الأميركية والخليجية للتورط، التي لا تتطابق أهدافها، إذ لا تتشدد واشنطن في الموقف حيال بقاء الرئيس السوري بشار الأسد بقدر ما تلح العواصم الخليجية على إطاحته.
هذ الضغوط مصحوبة بسياسة "العصا والجزرة" عبر بوابة الدعم الاقتصادي للبلد الذي يرزح تحت ضغط مديونية غير مسبوقة تجاوزت، وفق تقرير أخير لصندوق النقد الدولي "94% من الناتج المحلي الإجمالي (35 مليار دولار أميركي).
الخيارات
أمام هذه التحديات، وفي ظل التطورات المتتابعة ميدانيا وسياسيا، وفي انتظار نتائج لقاء وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون ونظيره الروسي سيرغي لافروف المزمع الأربعاء في واشنطن، ماذا يمتلك الأردن من خيارات؟
يتفق المحللون على أن الأردن لا يملك ترف رفض دور له في جنوب سوريا، خصوصا أنها إحدى مناطق "تخفيف التصعيد" أو "خفض التوتر" الأربع ، التي أقرتها "آستانا 4"، وقد لا يستطيع كذلك فرض شكل هذا الدور وكيفيته.
يذهب الفريق المتقاعد موسى العدوان إلى أنه "إذا كانت خطط التحالف للقيام بعمليات قتال برية ضد داعش على الأراضي السورية، فإن الأردن لا يستطيع التخلف عن المشاركة فيها انسجاما مع القرارات الدولية".
ويؤيده الرأي كل من الرنتاوي، والباحث السياسي جمال طاهات، الذي يؤكد لـ"النهار" أن الأردن أمام "إما أن يقوم بدوره بترتيبات، أو بمواجهة حالة أن تقوم الاطراف المركزية (روسيا وسوريا وإيران) بإلقاء عبء الجنوب السوري بأكمله على كاهل المنظومة الامنية والعسكرية الأردنية، ودون حاجة ليزعجوا أنفسهم بالتنسيق مع عمان".
ويعتقد العدوان أن مشاركة الأردن "لن تتم بقوات برية ثقيلة، لحساسية الموقف الداخلي شعبيا وأمنيا، وأنه سيقصر مشاركته على حماية حدوده، ومنع اختراقها من قبل أية قوة عسكرية أو عمليات تسلل".
لكنه لا يستبعد المساهمة بعمليات جوية، وبعمليات خاصة محدودة الأهداف، وتقديم القواعد الجوية البرية، والإسناد اللوجستي للقوات المهاجمة.
ويؤكد أن إشراك القوات البرية الأردنية بعمليات عسكرية برية داخل العمق السوري، إذا حصل، سيكون "بعيدا عن الحكمة"، لأنه، في نظره، "سيغرق الأردن في المستنقع السوري، ويتطلب استمرارية الدعم لمواصلة العمليات العسكرية، وهو أمر خارج قدرة البلاد وقواتها المسلحة، وسيتسبب في إضعافها والحد من قدراتها القتالية، فضلا عن رد الفعل الشعبي حيال وقوع الضحايا المحتمل".
ما يقوله العدوان يقترب كثيرا من تحليل الرنتاوي بأن المسألة بعد "أستانا 4" باتت مختلفة عمّا قبلها، إذ "لن يكون مطلوباً إرسال قوات كبيرة لآجال طويلة الأمد في جنوب سوريا، وليست وظيفة هذه القوات الاصطدام بالجيش السوي وحلفائه ولا بفصائل مسلحة جنوبية".
فالصورة، من منظور الرنتاوي "تختلف الآن، تماماً، من حيث طبيعة المهمة وتفويضها وآجالها وسياقاتها".
أما العميد السوري خليف فيكاد يجزم بأنه "ربما دقت ساعة الحقيقة لوضع النقاط على الحروف وبشكل يضمن الأمن الاسرائيلي بشكل نهائي من الجهة الشمالية لاسرائيل (أي الجبهة السورية)".
فبرأيه: "جاء الآن وقت الحصاد وتنظيف الحقل جيدا، فنرى التحرك الأردني على الجبهة الشمالية، بطلب أميركي بريطاني وتوافق اسرائيلي لتنظيف الجبهة الجنوبية من سوريا من دواعش ونصرة وما شابههما من ميليشيات ارهابية بحسب التصنيف الاميركي"
ويلفت خليف إلى أن التراشق الكلامي بين الحكومة الاردنية والنظام السوري وبتحريض معلن ورسمي، يأتي في خضم الضغط الاميركي الخليجي مع الاوروبي على روسيا، ويجب أن لاننسى أن ميليشيا حزب الله أصبحت قريبة نوعا ما من الحدود الاردنية".
وهو يربط ذلك بمناورات عملية "الأسد المتأهب" السنوية التي بدأت الأحد.
بدوره يؤشر الرنتاوي إلى أن الأردن استثمر الكثير من الجهد والوقت والموارد في خلق بيئة صديقة جنوباً، تشكل "وسادة" لحفظ أمنه واستقراره، بعد أن تحولت هذه المنطقة، إلى بؤرة جذب للجماعات الإسلامية المتطرفة المسلحة".
ويميل خليف إلى أن حسم المسألة باتت قريبة جدا، "فما نراه الآن على الواقع هو دراسة دقيقة وتنفيذ فعلي ضمن التفاهم الاميركي- الروسي. ولننتظر ما سيتمخض عنه لقاء تيلرسون لافروف المزمع في واشنطن فهو الوقت اللازم لتنفيذ الدخول الفعلي على الارض من مختلف الأطراف".
ويدعو لمراقبة ما سيجري في الأيام والأسابيع المقبلة على الجبهة الأردنية وفي الجنوب السوري، مؤكدا أن كل ما سيجري "يصب في مصلحة إسرائيل بالدرجة الأولى" فيما "الخاسر الوحيد هي الارض السورية والشعب السوري بأطيافه كافة".
غير أن الرنتاوي يرجح أنَّ المشاركة الأردنية في حفظ أمن منطقة "تخفيف التصعيد" الجنوبية، ستندرج في سياق إقليمي– دولي، يمكن أن يكون "عامل دفع كبير باتجاه حل سياسي مستدام للأزمة السورية".
الطاهات من جهته يرى أن تصورات القيادة الأردنية للمخاطر والفرص المتعلقة بالدور المطلوب أو المقترح ستحدد الخيارات التي ستلجأ إليها.
وفيما ينبه إلى أن الأردن "على مدى تاريخه الطويل لم يحتفظ بتصورات واضحة ومستقرة للمخاطر والفرص وكان يلجأ للضمانات والترتيبات لمواجهتها، لكنه يرى أن "هذه المرة مختلفة".
ويلفت إلى أن حجم الصراع وطبيعته قد تجعل من الضمانات الدولية التي سيطلبها الأردن مجرد كلمات لا معنى لها "فليس من المتوقع أن يطلب ضمانات لمخاطر غير محددة، لقاء دور هو ملزم على القيام به".
ولا يستبعد الطاهات أن يلجأ الأردن لمساومات مالية وأمنية، ولكن "حتى هذه قد تبدو بلا طائل وبلا أي قيمة، في حال انفلتت الأمور وقررت الأطراف، أن يكون الدور الأردني مظلة لانفتاحه الجغرافي على خيارات إعادة هيكلة الأزمة في جغرافيا الإقليم".
الاحتمالية الوحيدة، عند العدوان، لانخراط الأردن بحرب برية، هي: إذا واجه اعتداءا خارجيا، فإنه عندها سيتصدى له دفاعا عن الوطن والمواطنين مهما كان الثمن.
هنا، لا يستبعد العميد خليف، إذا مورست ضغوط قوية على الأردن، إمكان استثمار أي حدث على الحدود السورية لتبرير التدخل بشكل مباشر بالاشتراك مع الأميركيين والبريطانيين "لدخول درعا وريفها حتى حدود القنيطرة الجنوبية".
ويعتقد في إمكان استخدام هدف أو حجة "مكافحة الارهاب وتنظيف المنطقة من داعش والنصرة وما شاكلها من ميلشيات حزب الله والعراقيين، وتسليم المنطقة لمعتدلين من الثوار حتى وقت معين يرافق المحادثات السياسية في جنيف".
منطقة "تخفيف التصعيد" الجنوبية، برأي الرنتاوي "قد تشكل بوابة للأردن لفتح حدوده مع سوريا (واستتباعاً لبنان وأوروبا)، وربما تزامناً مع فتح حدوده مع العراق".
وبتقديره، ليس لدى الأردن سوى العمل على جعل "ترجمتها" العملية التوافقية، منسجمة أتم الانسجام مع أهدافه ومصالحه على هذا المحور، حتى وإن تطلب الأمر تطوير استراتيجية "الدفاع من العمق"، والانتقال من موقع المراقب إلى موقع الضامن لمسار أستانا.
لكن، يبقى السؤال الكبير العالق إقليمياً وعالمياً، الذي يطرحه الطاهات، وهو: ماذا بعد الهزيمة العسكرية المحققة لداعش؟ كيف سيكون المشهد الإقليمي من حيث جغرافيا الأزمة وديناميكياتها؟
المصدر: النهار اللبنانية