مدار الساعة - محافظ، راديكالي، فيدرالي، نخبوي، صوفي مسيحي، قومي أسود، إمبريالي مثقف.. ألقاب ومسميات أطلقت على المفكر ألكسندر كروميل، أمريكي الجنسية وليبيري الأصل، لكن من الصعب حصره في أي منها على حدة، كونه مزيجًا لكل تلك التيارات الفكرية رغم تناقض بعضها.
يُنظر لكروميل (1819-1898) على أنه أحد الرموز التاريخية في مناهضة العنصرية والعبودية في الولايات المتحدة، واستطاع من خلال إنجازاته في هذا المضمار الذي منحه عشرات السنين من عمره أن يحفر اسمه في سجلات محاربة الرق في القارة السمراء، حتى بات أحد القلائل الذين يشار لهم بالبنان في هذا المجال الفكري الواسع.
خبراته العملية وإنجازاته الفكرية ونشاطاته الحقوقية جعلت من الصعب تصنيف فكره ووضعه في قالب معين كما هو الحال مع معاصريه مثل فريدريك دوجلاس وإدوارد بلايدن، فحين يتحدث عن أوروبا تفوح المركزية البيضاء من بين ثنايا ثقافته، لكن في الجهة الأخرى يتخضب فكره بالنزعة السياسية القومية الإفريقية البحتة.
تغلغلت القومية السوداء في أعماقه مع أول معرفة له بالحياة العامة في أمريكا، حيث كان يعتقد أن أي شعب هو جزء من عائلة كبيرة وهي عائلة الله، ولذا لا بد لكل أمة أن تقوم بالتزاماتها تجاه عائلتها الكبرى، كما آمن أن الزنوج الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية أعضاء في عرق صاعد لم تتحقق عظمته بعد، وأن دوره أن يعيد تلك العظمة وأن يكشفها للإنسانية من جديد.. فمن هذا المفكر؟
نتيجة لتلك العنصرية الفجة، حُرم من الالتحاق بالمدرسة اللاهوتية العامة في نيويورك
ساعده يسر حال أسرته على الالتحاق بمدرينة نيويورك الخاصة بتعليم السود الأحرار، ورغم المصاريف الغالية لتلك المدرسة، فإنه عانى بداخلها من العديد من السلوكيات العنصرية ضده، سواء من مدرسيه أم من بعض العاملين بالمدرسة، وهو ما زرع في نفسه منذ الصغر بغض العبودية.
نتيجة لتلك العنصرية الفجة، حُرم من الالتحاق بالمدرسة اللاهوتية العامة في نيويورك، ونظرًا لمكانة البعد الديني في حياة أسرته (الوالد والوالدة ينتميان للديانة المسيحية) فقد تلقَّى تعليمه اللاهوتي في إبرشية ماساتشوستس، ليتم تعيينه بعد ذلك شمًاسًا بها عام 1842.
لم يُكمل كروميل في الإبريشية أكثر من 8 سنوات، حيث تم استبعاده منها بعدما ظهرت عليه الميول السياسية والدعوة للمساواة وإلغاء الرق، لينتقل بعدها إلى إكمال دراسته في إنجلترا، حيث التحق بجامعة كامبريدج عام 1848 وتخصص في دراسة الفلسفة الأخلاقية، ليحصل منها بعد ذلك على درجة البكالوريوس ليصبح أول خريج أسود في جامعة كامبريدج.
ولارتباطه العميق بالدين، حرص على تعليم الليبيريين الديانة المسيحية، اعتقادًا منه بأن ذوي البشرة السمراء بصورة عامة، سواء في الولايات المتحدة أم خارجها، بحاجة إلى إحياء أخلاقي وروحي، لذا كانت نقطة الانطلاق من بلده الإفريقي نحو تحقيق هذا الهدف.
أحلامه الدينية وصلت حد تفكيره في إنشاء جمهورية مسيحية نموذجية في ليبيريا، حيث يمكن للسود تجربة نهوض عرقي بمساعدة الكنيسة الأسقفية، لكن رغم مرور 16 عامًا هناك فشل في تحقيق هذا الحلم، الأمر الذي دفعه إلى العودة لأمريكا مرة أخرى في أعقاب الحرب الأهلية التي اندلعت في البلاد عام 1872.
وعقب عودته إلى واشنطن أسس كنيسة "القديس لوقا الأسقفية" وشغل منصب القس بها حتى عام 1894، ثم بدأ يتوجه إلى مشروعه الفكري الأكبر، مجابهة العنصرية ومحاربة الرق والعبودية، فشارك في تأسيس أكاديمية الزنوج الأمريكيين في واشنطن عام 1897، كما كان أحد أبرز الداعمين للعديد من المفكرين السود البارزين في أمريكا وعلى رأسهم وليم ديبوا.
وضع ألكسندر العديد من الثوابت والأسس التي يمكن من خلالها بناء مشروعه الفكري والحضاري للنهوض بالدولة الزنجية في إفريقيا
لكن مع مرور الوقت باتت الصورة أكثر قتامة بشأن تحسن أوضاع الزنوج، خاصة بعد تمرير العديد من القوانين والتشريعات التي تزيد من سوداوية المشهد وتعمق الانتهاكات بحق السود، وكان على رأسها مشروع قانون العبد الهارب في عام 1850، ثم تلاه قانون كانساس-نبراسكا في عام 1854.
في أثناء تلك الفترة توطدت علاقته بجمعية الاستعمار الأمريكية، وهي الجمعية المعنية بحقوق الزنوج والأقليات، وكان لذلك تأثيره الواضح على موقفه من الهجرة، حيث تحول من رفض العودة لإفريقيا إلى دعوة الزنوج من أجل الهجرة لوطنهم الأهم لبناء إمبراطورية زنجية في غرب إفريقيا.
وضع ألكسندر العديد من الثوابت والأسس التي يمكن من خلالها بناء مشروعه الفكري والحضاري للنهوض بالدولة الزنجية في إفريقيا، على رأسها الاهتمام بالتعليم لا سيما الفتيات وكبار السن، هذا بجانب وضع نظام صحي جيد يؤهل الجميع هناك للقيام بالأدوار المطالبين بها.
وتشجيعًا لهذه الفكرة حرص على التأكيد دومًا على توافر المقومات الحضارية اللازمة لبناء هذا المشروع في إفريقيا، متخذًا من ليبيريا نموذجًا أوليًا، ففي خطابٍ ألقاه في نيويورك عام 1861، أكَّد لجمهوره أنه "في كل منحى من مناحي الحياة والعمل في ليبيريا، توجد أدلة واضحة على النمو"، وأن "أي مؤسسة ستجني قيمة تكاليفها في غضون خمس سنوات".
وفي قراءة مشروعه الفكري يلاحظ أنه خصص جزءًا كبيرًا ومفصلًا عن الفكر القومي والعرقي، فكان يرى أن الزنوج سيكون لهم دور كبير في إخراج أجيال مثقفة من العرق الإفريقي، تلك الأجيال من المرجح أن يكون لها حضور على الساحة الدولة من خلال العديد من الأنشطة، بعضها اقتصادي، وعلى رأسه التجارة.
وكان من أبرز محاور هذا المشروع تكثيف انخراط السود في زراعة القطن وتجارته وتصديره إلى الأسواق الأوروبية والأمريكية، وهو ما سيضع القارة تحت ميكروسكوب الاهتمام الخارجي، ويحولها إلى قبلة ومقصد لاهتمامات رجال الأعمال والمثقفين في بلاد الغرب.
آمن المفكر الأمريكي الجنسية بأن الإصلاح أول مراحل التطور، وأن الطريق إلى الدولة النموذجية محفوف بالكثير من العقبات
اعتزازه بأصله الإفريقي كان علامةً مميزةً لهذا المشروع، فكثيرًا ما تحدث عن تجذر أصوله الإفريقية في عمق الحضارة والتاريخ مؤكدًا في أكثر من مناسبة أن "الرجل الأسود الحر في أمريكا أفضل من الروسي والبولندي والإيطالي".
كما قدم تصورًا مثاليًا للحكومة الفاضلة التي يسعى لتدشينها في ليبيريا ومنها إلى بلدان إفريقيا المختلفة، ففي مخيلته ستكون "جمهورية ديمقراطية، بنظام حكم يضمن الحرية الشخصية الشاملة، ويهدف إلى نشر المعرفة، ويسعى إلى الرقي الأخلاقي للمواطنين".
كما آمن المفكر الأمريكي الجنسية بأن الإصلاح هو أول مراحل التطور، وأن الطريق إلى الدولة النموذجية محفوف بالكثير من العقبات، أبرزها التحديات الاقتصادية والتعليمية والصحية، وعليه كان تدشين جامعة في بلاده أول نقطة في بحر النهوض بالقارة السمراء.
وهكذا استطاع ألكسندر كروميل الذي وافته المنية في 12 من سبتمبر/كانون الأول 1898 عن عمر ناهز الـ(79 سنة) أن يقدم نموجًا فذًا في مناهضة العنصرية الأمريكية، يقوم على أساس العقلانية المنظمة والإيمان بالقضية والتمسك بالجذور والربط بين الشعارات الوطنية ومقومات التقدم والنهوض، موثقًا خبراته في هذا المضمار من خلال العديد من المؤلفات التي تزخر بها المكتبة الإفريقية والأمريكية على حد سواء، أبرزها "إفريقيا وأمريكا" و"مستقبل إفريقيا".
نون بوست