مدار الساعة - إنّ بناء المفاهيم والقضايا في الجملة القرآنية يخضع لنَسَقٍ صارمٍ من التوجيه العقدي والتصويري والكوني العام، بحيث إنّ متابعةَ هذا النسقِ تُفضي- حتمًا- إلى استنباط القوانين العامة، التي تأسس عليها هذا الخطاب المُعجِز، وهو أمرٌ لا ينتهي ما دامت السماوات والأرض. هناك- دائمًا- منطقية يتخذها القرآن فيما يخص بناءَه المفاهيمي؛ حيث يحتفظ- بصورة مستمرة- بأسرار لا تنكشف إلا من خلال مسار الزمن، يفتح الله بها على عُلماءِ كُلِّ عصر وعُدُولِ كُلِّ زمن. وتتميز الجملةُ القرآنيةُ بفرائدَ منوّعةٍ اُختُصّ بها الذِّكرُ الحكيمُ، مُغايرًا كلامَ الإنسان الطبيعي، على الرغم من استخدام الوحدات اللسانية ذاتِها، وطرق التعبير عينِها، ليكون الإعجاز قائمًا إلى يوم الدين؛ إعجازٌ من حيث اللغةُ، وإعجازٌ بالبيان، وإعجازٌ بالأحكام … إلخ. وفي هذه المقالة أُقدّم بعض أمثلة من هذه المختارات القرآنية، لنرى من خلالها بعضَ صُورِ إعجازِ الدلالة في التعبير القرآني.
أما التصدير فهو أنْ تتقدّم لفظة الفاصلة بمادتها في أول صدر الآية، أو في أثنائها، أو في آخرها([6])؛ أي يصبح صدرُ الآية دالًّا على آخرِها، من مثل قوله تبارك وتعالى: “انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا.” (الإسراء 21)، وهو ما سمّاه البلاغيون المتقدمون بــــ (ردّ الأعجاز على الصدور). ومن ذلك نفهمُ أنّه في حال (التصدير) تكون الفاصلة مأخوذةً لفظًا من صدر الآية، أما (التوشيح) فهو نظير التصدير؛ حيث تكون الفاصلة مأخوذةً معنًى من صدر الآية. هذا بإيجاز شديد.
أما الإيغال فيما يخص الفاصلة القرآنية، فهو أنْ تتضمّن الفاصلة معنًى زائدًا على صدر الآية؛ حيث يتجاوز المتكلم المعنى الذي هو آخِذٌ فيه، بالغًا الزيادةَ على الحد الذي يصل به الفهم إلى إدراك المُراد، من مثل قوله سبحانه: “قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا.” (الإسراء 88)؛ فالمعنى قد تمّ عند قوله سبحانه (لا يأتون بمثله)، ثم جاء ختام الآية بمعنى زائدٍ مهم، يزداد به شرحُ الكلام ووضوحُه وحُسنُه وتوكيدُه، هو أنهم لا يستطيعون الإتيان بمثل القرآن، حتى لو اجتمعوا على ذلك وجنّدوا أنفسهم، على تباين جنسهم وألوانهم … إلخ.
أما قوله تعالى “عن نفسه”، فلم يسبق للعرب استعمالُ هذه الكناية الرائعة عن طلب المواقعة والجِماع، كما يقول “ابن عاشور”، فهو من أساليب التعبير الجديدة في القرآن الكريم، وتعدية الفعل بــ (عن) للدلالة على أنّ معنى المراودة هنا هو محاولة أن يُجاوز الفتى عفافه، وتمكينه إياها من نفسه؛ فكأنّها تراوده عن أنْ يُسْلِمَ إليها إرادَتَه وحُكْمَه في نفسه([10]).
وشبيه باستعمال الصلة على هذا المنوال استخدام ضمير الفصل، وهو كثير، ونكتفي بمثال واحد؛ قال تعالى: “قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ.” (الأعراف 115). فقد أكّد السّحَرةُ جملة الكلام المُعبّرَة عنهم بقولهم: (نكون نحن الملقين)؛ فأتَوا بضمير الفصل (نحن)، وجعلوا خبر (نكون) مُعرّفًا بــــ (أل): (الملقين)، ولم يؤكّدوا الضمير الراجع إلى موسى عليه السلام؛ فلم يقولوا: إما أنْ تلقي أنت، ومرَدُّ ذلك أنّ السّحَرة أحبّوا التقدم عليه بإلقاء سحرهم، ظَنًّا منهم أنهم سيأتون بشيء عظيم يسيطرون من خلاله على أذهان الحاضرين، من ثَم يملكون عقولهم، مما يتعذّر معه على موسى عليه السلام أنْ يرفعَ أثرَه عنهم([13]). وهنا يرى “الزمخشري” أنّه “قد سوّغ لهم موسى عليه السلام ما تراغبوا فيه ازدراءً لشأنهم وقلةَ مبالاةٍ بهم، وثقةً بما كانوا بصدده من التأييد السماوي، وأنّ المعجزة لن يغلبَها سحرٌ أبدًا “سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ” (الأعراف 116)، أروها بالحيل والشعوذة، وخيّلوا إليها ما الحقيقة بخلافه، كقوله تعالى: “… يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ” (طه 66).”([14])
أما كلمة (مُنْكَر) فقد وردت ستَّ عشرة مرة في الذكر الحكيم، ومعناها الأمر الشائن والتصرف القبيح والفعل المحرم والشيء الباطل … إلخ([19]). من ذلك قوله سبحانه: “وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.” (آل عمران 104). ونستطيع بذلك أنْ نقرر أنّ كُلّ (نُكْر) صواب في ميزان الله، وإن أنكره بعض الغافلين من البشر، وكل (مُنْكَر) خطأ في ميزان الله، وإن استحسنه وقَبِله بعض الناس، والعبرة في القبول والرفض تكون بشريعة المولى تعالى وعلمه وتوجيهه ومنهجه القويم، وليس بأعرافنا وأذواقنا وأمزجتنا!
4- الاستدلال العكسي في قضايا حِجاج الغيب:
وتلك قضية قرآنية كبرى، أكتفي في هذه المختارات بالإشارة إلى مثال واحد فقط حولها؛ قال تعالى: “كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.” (البقرة 28). هذه الآية تمثل الاستهلال العاصف لقضية البعث الجدلية، وهذا العصف قد تجلى في مَظهرين([20]):
أ- العصف الذهني: وينتج عن إيثار إيراد الآية الكريمة في أسلوب الاستفهام، بما يشتمل عليه من إثارةٍ لِذِهْنِ المُخَاطَب ووضعه مَوْضِعَ المُسَاءَلة، التي توجب عليه أن يُقدّم عليه حججًا قوية مُقنِعة للفعل أو المعتقد المسئول عنه؛ فالاستفهام من أنجع أنواع الأفعال اللسانية حِجَاجًا.
ب- “… على آثارهم مهتدون” / “… على آثارهم مقتدون”:
* المراجع: