د. خلف الطاهات
على غير العادة لم يتضمن كتاب التكليف السامي لتشكيل حكومة بشر الخصاونة أية اشارة لا صريحة ولا ضمنية بخصوص واحد من أهم الملفات التي تحظى باهتمام ورعاية ملكية مستمرة، وهو غياب أعاد ملف الإعلام المترنح أساسا داخليا تحت وطأة غياب ثقة المواطن بكل ما هو رسمي من جهة، وصراع محموم بين أطراف داخلية وخارجية على قيادة الرأي العام وتوجيهه وانتزاع اهتمام المتابع فيما نعيشه من قضايا ملحة وضاغطة!!!
فالمتتبع لكتب التكليف السامية للحكومات السابقة وتحديدا الرزاز والمُلقي يرصد أن كتاب التكليف السامي الأخير خلا من أية اشارة للإعلام وما له وما عليه كما كانت تتضمن كتبا سابقا عند تشكيل الحكومات، واكتفت وبطريقة غير مباشرة تضمين إشارات ملكية للحكومات -وتحديدا الرزاز والملقي- تدعوها الى تعزيز نهج المصارحة والمكاشفه والتواصل والإنفتاح والإستماع للمواطنين في الميدان وأهمية نقل هموم وتطلعاتهم والإقتراب منهم وخلق حوار فاعل وبنّاء في القضايا الملحة التي يعيشها الوطن.
لا نأتي بجديد اذا ما قلنا ان واقع الاعلام اليوم ليس مُرضيا لا مثقل بالمتاعب والهموم، وثمّة تحديات ذات خصوصية للإعلام تختلف عن بقية الملفات الأخرى في الدولة تمشي جنبا الى جنب مع موضوعات الإصلاح السياسي والضغوطات الإقتصادية والتحديات الوبائية التي فرضت حالة معيشية صعبة على المواطنين، وارتفاع المديونية وتزايد نسبة البطالة ومعدلات الفقر، وتراجع المساعدات والمنح الخارجية، ومحدودية فرص الإستثمار.
ومع ذلك يسعى الأردن بقيادة جلالة الملك جاهدا ورغم شح الإمكانيات وتواضع الموارد ان يعبرعبورا آمنا من مطبات وأزمات غير مسبوقة ناجمة عن اللجوء السوري وتخلي المجتمع الدولي عن دعم الأردن ومحاولة فرض تسويات خارجة عن إرادة الأردن تتعلق بتصفية القضية الفلسطينية وما يسمى بصفقة القرن وغيرها من موضوعات وأزمات وتحديات تستدعي ان يكون الإعلام دوما قويا وغير معزولا عن سياقه العام لا بل ورافعة حقيقية للجهد الكبير الذي تبذله القيادة الهاشمية داخليا وخارجيا، سيما ان الأردن يخوض معركة صناعة الرأي والموقف وايصالها للمجتمع الدولي!!
هذا الواقع غير المريح للإعلام رصدته مقالة جلالة الملك التي نشرت قبل عامين من الآن بعنوان " منصات التواصل أم التناحر الإجتماعي".
وكانت مؤشرا واضحا وصريحا لحجم "الغضبة" الملكية لمخرجات الإعلام والتي تطرقت الى أنماط جديدة لاستهلاك المعلومات وتداولها عبر أدوات لم نعتد عليها من قبل لخلخلة ثبات ووحدة واستقرار الأردن والتلاعب بقيمه المجتمعية وإنتاج مستوى غير مسبوق من العدائية والكراهية بين مكونات المجتمع!!
عدم الإرتياح الملكي الذي لمسناه في مقال جلالته منبعه غياب الإعلام المسؤول والجاد والرصين والموضوعي وعدم الإلتزام بمعايير المهنية في وقت أصبح الإعلام صناعة محتوى يقوم على العرض والطلب وخاصة تتضاعف مسؤولياته في الأزمات التي أُغرِق الأردن خلالها بالإشاعات وفوضى معلوماتية عشناها جميعا خلال أحداث العمليات الإرهابية المؤسفة في الركبان وماحص والسلط واربد والكرك وفاجعة سيول البحر الميت، الى أن استعاد الناس"مؤقتا" جزءا من ثقتهم بالإعلام خلال ازمة كورونا لجهد وانفتاح وحسن اداء الوزير السابق العضايلة، وهي جهود إاعلامية مخلصة حظيت بتحية وجهها سمو ولي العهد عبر اتصال هاتفي بقناة المملكة لكل إعلامي مهني اشتغل باخلاص وقاموا بواجباتهم في أزمة كورونا!!
ما يريده جلالة الملك من الإعلام بحسب خطابات العرش والأوراق النقاشية وكتب التكليف السامية ان يكون مهنيا وواقعيا، ان يكون فاعلا ومؤثرا، قادرا على إحداث التأثير، واختصرها جلالته في دعوته الحكومات الى "مصارحة المواطنين والرأي العام بما يمكن تحقيقه وما لا يمكن تحقيقه"، فجلالته في رؤيته للاعلام لا يطلب مستحيلا ولا أمرا فوق استطاعة المؤسسات الإعلامية ولا يريد إعلاما مثاليا في المحتوى، ما نريده إعلام يسمع للمواطنين ويصلهم في مناطقهم ويقترب من الآمهم وقضاياهم وهمومهم التي يعيشونها وينقلها بأمانة وصدق لصاحب القرار، إعلام يسمع بحرص واهتمام للإردنيين حيث اننا أولى بهم وبأصواتهم من ان يستمع اليهم اؤلئك الذين يتربصون الزلات ويفتحون المنصات العدائية لركوب موجة مطالب المواطنين في العدالة والإنصاف وخدمات!
فعدم الرضا الذي لمسناه من مقال جلالته عن المشهد الإعلامي جاء في سياق التغيّر الذي شهدته الساحة الإعلامية بفعل تغييرات عملية إنتاج المحتوى تقنيا، وحالة الفلتان الاعلامي لتنوع ادوات صناعته وتوزيعه، ومستوى متقدم في صناعة الاشاعة،وضخ ممنهج لمحتوى اعلامي يستهدف مواقف الدولة الاردنية وخاصة من فلسطين وقدسها، تزامن هذا كله بحالة إرهاق وتعب شديد تعيشها للحظة الصحافة الأردنية المطبوعة، والتي تخلت عنها حكومات سابقة، وتركتها ترزح تحت وطأة ضغوطات مالية واقتصادية غير مسبوقة، لا بل قدمت لها دعما لا يليق، وبعدها تخلت عنها هذه الحكومات حينما قررت إمتطاء منصات العالم الإفتراضي، لتترك هذه الحكومات الراي العام نهشا للدخلاء و ومختطفا يتنازعه من باتوا يطلقون على انفسهم نشطاء ومؤثري العالم الافتراضي واصحاب الاجندة المسمومة!!
قطعا الإعلام هو الحاضر الغائب في وجدان جلالة الملك حتى لو لم تتضمن كتب التكليف السامي أية اشارة له!! فجلالة الملك يعزز دوما جهازه الإستشاري في القصر بشخصيات لمتابعة الملف الإعلامي.
فمنذ عشر سنوات وحتى قبل أيام عيّن جلالته خمسة مستشارين للإعلام والإتصال وهم الذوات المقدرين (ايمن الصفدي، امجد العضايلة، ماجد القطارنة، كمال الناصر) و آخرهم رئيس الوزراء الحالي الدكتور بشر الخصاونه، لا بل ثلاثة منهم تم تعيينهم خلال السنة الماضية تحديدا وذلك تأكيدا لحجم حضور هذا الملف لدى جلالته! ليس هذا فحسب، ولإيمان جلالته بدور الإعلام ورسالته يحرص وبالرغم من جدول أعماله اليومي المزدحم أنشطة ومسؤوليات على إجراء مقابلات صحفية مع أهم وأكثر المؤسسات الإعلامية حضورا وتأثيرا في تشكيل وصناعة الرأي العالمي لضمان نقل رسالة وصوت وموقف الدولة الأردنية بكل وضوح ودقة من القضايا المطروحه محليا وإقليميا وعالميا.
وللتاكيد على ذلك، فقد أجرى جلالته خلال الشهور الخمسة الأولى من هذا العام ثلاث مقابلات مع أشهر المؤسسات الصحفية والإعلامية العالمية وبما تمثله هذه المؤسسات من سياسات دول مؤثرة عالميا وهي ( مجلة دير شبيغل الألمانية، CBS الأمريكية، وقناة فرنسا 24). كما أنه خلال عام 2019 أجريت مقابلة هامة لجلالته مع قناة MSNBC الأمريكية.
وهي لقاءات تؤكد حرص جلالة الملك وبصورة شخصية على ان يبقى صوت الأردن وموقفه حاضرا وبقوة في ساحة الرأي العام الدولي.
ليس هذا فحسب بل أن جلالته في كل لقاءاته بالديوان الملكي يحرص مكتب جلالته وإدارة الإعلام والإتصال ان يكون الصحفيين والإعلاميين ممثلين في هذه اللقاءات الملكية ليطرحوا ما يتعلق من مواقف ووجهات نظر تتعلق بالملف الإعلامي والشأن المحلي!!