أخبار الأردن اقتصاديات مغاربيات خليجيات دوليات جامعات وفيات برلمانيات رياضة وظائف للأردنيين أحزاب مقالات أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مختارة مناسبات مستثمرون جاهات واعراس الموقف شهادة مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم

محمد ابو رمان يكتب: الاقتصاد السياسي الأردني من نظرية الدور الإقليمي إلى مخاضات بناء الذات في ظل الأزمات

مدار الساعة,مقالات مختارة,جعفر حسان,رئيس الوزراء,الملك عبدالله الثاني,نسبة البطالة,وزارة التخطيط,الجامعة الأردنية,أسعار النفط,الأمم المتحدة
مدار الساعة ـ
حجم الخط

مدار الساعة - كتب: الوزير السابق محمد أبو رمان

في ورشة ضمت نخبة من المتخصصين الأكاديميين والخبراء الاقتصاديين والسياسيين، أقامها مركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية في 7 سبتمبر/أيلول 2020 نوقش فيها كتاب "الاقتصاد السياسي الأردني: بناء في رحم الأزمات" (صدر مؤخرا عن دار الآن ناشرون في عمّان)، للمؤلف د. جعفر حسان، وهو الكتاب الذي اشتبك مع إحدى النظريات الراسخة لدى نخب سياسية عريضة، تربط الاقتصاد الوطني بالمساعدات بالدور الإقليمي الأردني بصورة مباشرة، وبأسطورة "الكيان الوظيفي" بصورة غير مباشرة.

مما يزيد من قيمة الكتاب أن مؤلفه هو أحد المسؤولين البارزين سابقا، فقد عمل مديرا لمكتب الملك (2014-2018)، واستلم حقيبة وزارة التخطيط، وأصبح نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للشؤون الاقتصادية، بالإضافة إلى خبرته العملية فهو حاصل على أكثر من شهادة ماجستير ودكتوراه من جامعات مشهورة، مثل بوسطن وجنيف وهارفارد.

فالحديث ليس فقط عن رجل تنفيذي أو مسؤول مر مرور الكرام على موقع القرار بلا أثر؛ بل شخصية كانت "مؤثرة في المطبخ"، وفي صناعة السياسات الأردنية خاصة في المجال الاقتصادي، الذي يقترب منه الكتاب.

ولعل تلك المعطيات تجعل من مهمة المؤلف أكثر صعوبة وجدية؛ فهو يشرح الفلسفة والأفكار الثاوية وراء السياسات الاقتصادية والتحولات، التي حدثت -لا سيما في عهد الملك عبد الله- في ظرف صعب جدا ترتفع فيه معدلات البطالة وحالة الغضب والاحتقان من الظروف المالية والاقتصادية.

ومما يضاعف ويعقد مهمة الكتاب أن الآلة الإعلامية الرسمية عجزت، وربما لم تحاول بجدية، أن تقدم صورة جميلة عن مرحلة الملك عبدالله الثاني خلال عقدين من الزمن حكم فيهما الأردن، وللأمانة نجح الغاضبون والخصوم وآخرون في تصوير السياسات الاقتصادية في قالب من الفساد، أكثر من النظر إلى الجوانب الإيجابية التي تحققت خلال هذه المدة، أو القيام -في الحد الأدنى- بتقديم مقاربة موضوعية ونقدية للمسارات المختلفة.

إذن نحن أمام كتاب يحمل على كتفه مهمات كبيرة، ولعل المؤلف -نفسه- يعترف (في ندوة مركز الدراسات) أنه كتب هذا الكتاب بعدما شعر بالغضب الشديد على أثر خروجه مع حكومة هاني الملقي 2018، بعد احتجاجات شعبية في الدوار الرابع (وكان حينها نائبا لرئيس الوزراء)، لماذا كان غاضبا؟ لأن هنالك أحكاما عامة جاهزة معلبة وتأطيرا سلبيا لكثير من السياسات والإنجازات، لذلك كان هذا الشعور بمثابة عود الثقاب الذي أشعل شمعة التفكير والبحث والتأطير والخروج بهذا المنتج المعرفي والفكري المهم، الذي قد يعد الأول في مجال تأطير جدلية الاقتصاد والسياسة في الأردن.

يتناول الكتاب (كما هو واضح من عنوانه) الاقتصاد السياسي الأردني؛ والاقتصاد في العادة متداخل مع السياسة لا يمكن فك الترابط بينهما، لكنهما في الحالة الأردنية أكثر اشتباكا وارتباطا، لا على صعيد تأثير المصالح الاقتصادية على السياسة الخارجية فقط كما هي طبيعة صناعة القرار في سياسات دول العالم عموما؛ بل الصورة العكسية تماما أي تأثير السياسة على الاقتصاد، وهو الأمر الذي يصل أردنيا إلى مرتبة "العقيدة" لدى أغلبية النخبة السياسية الأردنية (ومنعا للالتباس فإن هذا المفهوم العقيدة والنظرية السياسية لي لا للمؤلف، الذي يتحدث عن الاتكالية بلغة الأرقام والموازنات والاقتصاد السياسي)، التي ترى أن الاقتصاد الوطني لا يمكنه الفكاك عن الدور الإقليمي الأردني والموقع الجيواستراتيجي، الذي يوفر للأردن مكانة في الإقليم تجلب له المساعدات الدولية والإقليمية، وأي أفكار عن الاعتماد على الذات وغيرها محض هراء، وفقا لهذه النظرية.

تلك "العقيدة" بمثابة مفتاح مهم لقراءة كتاب حسان؛ فهو يتحدث عن الاقتصاد السياسي من منظور هذه العقيدة وخلفيتها التاريخية والاقتصادية، التي شكلت -حرفيا- سمات الاقتصاد الأردني، فقد بدأ اقتصادا ريفيا بسيطا، حينما تأسست الدولة 1923، وانتقل في العقود التالية إلى الاعتماد على القطاع العام، الذي تضخم وأصبح يستوعب نسبة كبيرة من سوق العمل، يضاعف حجم النفقات الجارية، وترسيم معالم اقتصاد ريعي، كما يصفه سياسيون، ويصطلح عليه حسان في هذا الكتاب بـ"الاتكالية".

و"الاتكالية" -هنا- مركبة ليست فقط في اعتماد المواطنين على الدولة في توفير الفرص لحوالي نصف القوى العاملة في المملكة بالقطاع العام؛ بل كذلك في الاعتماد على الإنفاق الرأسمالي الذي وفر القاعدة للقطاع الخاص الناشئ، ثم الاعتماد على الأيدي العاملة الوافدة في أهم القطاعات الرئيسية، كالزراعة والإنشاءات والبناء وحتى الخدمات؛ بل أيضا اتكالية الدولة الأردنية على المساعدات الخارجية، التي كانت تمثل دائما منذ تأسيس المملكة إلى منتصف الثمانينيات بندا مهما وحيويا وأساسيا في بنود الموازنة، ومن دونه ثمة شكوك كبيرة في قدرة الدولة على تقديم الخدمات والالتزامات المالية المترتبة عليها.

ارتبطت "العقيدة الأردنية" (لدى شريحة من النخب) بالموقع الجيواستراتيجي للأردن، على أطول خط حدود مع القضية الفلسطينية، وتزاوجت -أي هذه العقيدة- مع مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة للدول العربية، وبالتالي ولأن الأردن دولة "على خط المواجهة" وبلا موارد نفطية، ونسبة كبيرة من مواطنيه من اللاجئين الفلسطينيين، فإن الدول العربية حرصت على تقديم الدعم له، الذي جاءه من دول الخليج العربي وليبيا لا سيما منذ منتصف السبعينيات إلى منتصف الثمانينيات.

يقول الكتاب (ص35) "وطوال الفترة 1967-1982 لم تغطِّ الإيرادات نصف النفقات الجارية؛ بل إن المساعدات الخارجية تجاوزت أحيانا مستويات الإيرادات المحلية أو قاربتها في القيمة. ففي عام 1975 مثلا بلغت قيمة المنح الخارجية أكثر من 100 مليون دينار، مقابل 82 مليون دينار قيمة الإيرادات المحلية؛ أي إن نسبة المنح للإيرادات وصلت إلى 122%، وفي عام 1979 وصلت إلى 112%، وللمقارنة فإنّ نسبة المنح للإيرادات المحلية في موازنة عام 2018 لم تتجاوز 12%.

لعل الجملة الأخيرة مناسبة لإعادة صياغة مشكلة البحث في الكتاب، كيف تعاملت الحكومات الأردنية المتتالية مع انخفاض نسبة المنح الخارجية للإيرادات من 122% إلى 12% خلال 4 عقود من 1980 إلى 2018؟

الاتكالية لم تؤثر على أرقام الموازنة والنفقات الجارية؛ بل صبغت كلا من الاقتصاد الأردني والسياسات والثقافات السائدة من أسواق العمل والثقافة المجتمعية -التي راهنت على التعليم والعمل في الوظائف الحكومية كسبيل للارتقاء الاجتماعي، ما أخل بالتوازن داخل السوق بين المهن التي سيطرت عليها العمالة الوافدة والوظيفة العامة والبحث عن فرص في الخليج العربي للعمالة المهنية الأردنية- وعلاقة الدولة بالمواطن. ماذا يتوقع منها وماذا تتوقع منه؟

يمكن القول إن الأعوام 1988-1991 كانت انعطافة كبيرة في التاريخ السياسي والاقتصادي الأردني، ما يجعل المرحلة التالية لها مختلفة تماما عما سبق؛ ففي العام 1988 ونتيجة لتراجع أسعار النفط انخفضت المساعدات الخارجية إلى الأردن، وتضخم العجز في الموازنة، وبدأت الأوضاع المالية بالتدهور، وتراجع معدل دخل الفرد من الناتج المحليي الإجمالي للفترة 1990-1999 ليعود أقل مما كان عليه خلال الفترة 1978-1989، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي من أكثر من 6 مليارات دولار في عام 1987 إلى 3.6 مليارات دولار في عام 1989، وانخفضت حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 2100 دولار في العام 1987 إلى 1480 دولارا في عام 1989، وارتفعت نسبة التضخم إلى 26%، وارتفعت نسبة البطالة من 4% في العام 1981 إلى 20% في عام 1991، ووصلت البطالة لدى الشباب إلى 59% (للفئة العمرية 20-29 عاما)، وارتفعت المديونية الخارجية إلى أكثر من 7 أضعاف لتصل إلى 8.5 مليارات دولار في عام 1989؛ أي حوالي 190% من الناتج المحلي الإجمالي.

ثم وقع غزو العراق للكويت 1990، وقطعت السعودية إمدادات النفط عن الأردن، ومنعت دخول الشاحنات الأردنية، وانخفضت الصادرات لدول الخليج، وعاد أكثر من 300 ألف مغترب من الكويت والسعودية، وانخفضت تحويلات المغتربين بأكثر من 60%، وانتهى مصير الصادرات للعراق (المستورد الأول) إلى قوائم الحصار لدى الأمم المتحدة، ووصلت المديونية إلى 189% عام 1990.

كان من الواضح منذ بدايات العهد الجديد للملك عبدالله الثاني أنّه يعطي الأولوية للملف الاقتصادي، وقدم رؤية تقوم على الانفتاح الاقتصادي والتحول نحو الاعتماد على الذات والاندماج في الاقتصاد العالمي، من خلال التركيز على فتح الأسواق أمام الصادرات كمحرك رئيس للنمو من خلال اتفاقيات التجارة الحرّة، والعمل على جذب الاستثمارات الداخلية والخارجية، وتحسين مستوى الخدمات والاهتمام بتطوير بيئة الاستثمار للانتقال نحو القطاع الخاص ليكون المشغل الرئيس في سوق العمل، والتركيز على القطاعات الاقتصادية المستقبلية المعرفية الناشئة، معطيا هذه السياسات أهمية مركزية في رؤيته لمستقبل البلاد.

يشير حسان إلى نتائج متميزة تحققت بين 2000-2010، وقد أنهى الأردن التزامه مع صندوق النقد الدولي عام 2004، وارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 153% خلال 10 أعوام من 1224 دينارا للفرد في العام 2000 إلى 3100 دينار خلال العام 2010، وارتفعت الصادرات بنسبة 200% محققة معدل نمو بلغ 22% سنويا.

يقدم لنا المؤلف أرقاما مدهشة تستحق النقاش عن تلك الفترة (2000-2010)، وكان من المفترض أن تكون مرحلة ذهبية لازدهار الاقتصاد الوطني الأردني، فحجم الصادرات والنمو في ارتفاع، والمديونية والبطالة في انخفاض، ويتحدث عن معالم ما يصفه بالنموذج التنموي الجديد خلال تلك الفترة؛ لكنه يضيف كذلك بأن تلك الإنجازات على أهميتها لم تواكب الرؤية الملكية وبقيت غير مكتملة، حيث لم تنعكس أثارها بالشكل المطلوب على مستويات الفقر والتنمية في المحافظات.

لكن الأمور تغيرت في العام نفسه 2010، إذ لم نقل إنها انقلبت رأسا على عقب، فما كان يمثل إنجازا وتحولا مهما في المجال الاقتصادي، إذا به مع تداعيات الأزمة المالية العالمية، التي بدأت في العام 2009 ووصلت شظاياها إلى الاقتصاد الأردني لاحقا، ثم أحداث الربيع العربي 2011، التي انبثقت عنها نتائج كارثية على الاقتصاد الوطني؛ في مقدمتها ارتفاع كلف وأسعار الطاقة حتى وصلت إلى معدلات قياسية، فكانت نتيجتها كارثية في الوقت الذي لم يتمكن المسؤولون من التعامل مع ذلك نظرا لظروف الربيع العربي، فتم اعتماد "سياسات الاسترضاء"، مثل إبقاء الدعم والمزيد من الديون والتوظيف في مؤسسات الدولة لعبور تلك المرحلة الصعبة، ومزيد من الإنفاق الحكومي الذي ارتبط بالمساعدات، وكان تراجع المساعدات لا يعني بالضرورة القدرة مرة أخرى على ضبط الإنفاق الحكومي.

وصل الأمر إلى العودة مرة أخرى إلى برنامج صندوق النقد الدولي مع مديونية مرتفعة وبطالة مرتفعة، وتعامل مع أزمات إقليمية ومحلية أرهقت الاقتصاد، الذي تعايش وتكيف مع الأزمات؛ لكن عندما كان يتخلص من تداعياتها وذيولها، يجد نفسه مرة أخرى بسبب الظروف المحيطة أيضا في داخلها، فكأنه -أي الاقتصاد- يمشي دوما على الحافة.

يشير حسّان إلى مشكلة جوهرية حالت دون بروز الإيجابيات واستمرارها بالقول "الإنجازات ظلت أقل مما تاقت إليه الرؤية الملكية رغم النجاحات الملموسة خلال تلك الفترة القصيرة، لأسباب أهمها حالة التجاذب بين أقطاب متنافرة داخل الدولة ومؤسساتها، والتي غالبا ما كانت خلافات شخصية أو صراعا على النفوذ.."

هذه القراءة (ومسؤوليتها على كاتب المقال لا على المؤلف) لا تغني عن قراءة الكتاب، الذي يقدم للمرة الأولى تأطيرا لعلاقة الاقتصادي بالسياسي، ويضيف إلى المكتبة الأردنية مرجعا مهما؛ لكن المسكوت عنه في النص وأثاره أكاديميون وباحثون في ندوة مركز الدراسات الاستراتيجية عندما تحدثوا عن الفساد في الإدارة المحلية، هو أنّ الإصلاح المالي والاقتصادي الذي حدث كان يتطلب بالضرورة توافقا وطنيا شعبيا، يمر عبر بوابة اسمها "الإصلاح السياسي"، فكان بمثابة الثقب الأسود، ما سمح بصعود الصوت الغاضب والمحتقن وتعظيم الأخطاء وتحجيم الإيجابيات. الجزيرة

مدار الساعة ـ