بقلم: أ.د. عدنان المساعده *
رحل سادن لغة الضاد شيخنا الجليل واستاذنا الكبير عبدالكريم خليفة وترجّل الى رحاب الله الأوسع من رحابنا...رحلت تلك القامة الفكرية الوطنية ذات الاطلالة التي تشّع ألقا وعلما وهيبة.... رحل الباحث العميق والأصيل الذي كرّس نهج الموضوعية وقوة البيان وسعة الثقافة وبحر المنطق، رحل استاذنا الذي رسّخ لغة أدب الحوار بأسلوب جذّاب تغلفه الهيبة والوقار، وهذه هي ميزات العالم الذي أتخذ من البحث عن الحقيقة وترسيخها توثيقا و مراجعة وتدقيقا وبيانا لتكون دامغة في قوتها رصينة في تجلياتها.
أي شيخنا الجليل، لقد كنتم بحق من دعاة تنقية لغتنا من الشوائب التي أخذت تغزو حروفها ونطقها ومنطقها وعمقها وبحرها الزاخر الذي يرفض كل تلوث يسهم في وهنها واضعافها. كما كنتم الحريص على أن نشرب جميعا من معينها ماء عذبا فراتا غير آسن، ونستنشق من سمائها هواء نقيّا صافيا ليبقى جسد هذه اللغة سليما معافى من كل مرض أو أذى عن قصد أو جهل، وليبقى قلبها نابضا بشرايين سدنتها وحراسها من القابضين على سبر أغوار بحرها العميق الزاخر بالمعرفة والعلم ونشرها للإنسانية جمعاء.
وكم كانت مرارة الألم تنتابكم أن ترى من ابناء جلدتنا من رموا هذه اللغة بعقم، فأصبحت لغتهم ضعيفة والسنتهم معوّجة فلا قراءة سليمة للنصوص، ولا مراعاة لقواعد اللغة، ولا حياء من ارتكاب الأخطاء اللغوية حتى في مؤسساتنا التربوية والتعليمية وفي المؤتمرات والمنتديات الثقافية.
وسعيت جاهدا ومؤمنا بأن لغتنا هي الوعاء الثقافي الزاخر والفكر الأصيل لهوية الامة، ولا أمر يتقدم عليها، وأن احترام مكانة لغتنا العربية هو احترام لذواتنا، كما هو احترام لماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، الأمر الذي يعتبر فريضة علينا لتكون البلاغة والبيان وفصل الخطاب حالة مستمرة نعيشها في بيوتنا وشوارعنا ومدارسنا وجامعاتنا وفي المؤتمرات والمنتديات الفكرية والثقافية.
عالمنا البهي النقي، عرفناك من ارثكم الثقافي والفكري الذي تزدان به رفوف المكتبة العربية، ويضاف الى ذلك سيرتكم العطرة ونهج حياتكم المبني على الاستقامة والصلاح والعطاء والانجاز بهمة عالية، وكنتم بحق تترسمون ونؤمنون بأن العلماء ورثة الانبياء.
واليوم ايها المغادر النبيل، تنعاكم لغة الضاد الذي نذرتم حياتكم مدافعا صلبا عنها بحضوركم البهي وفكركم الثري وصفاء ذهنكم النقي، وغرستم كلّ هذه القيم الأكاديمية في نفوس وعقول طلبتكم وعشاق لغتنا العربية من الماء الى الماء، وكنتم النبراس المضيء والوفي الأمين لهذه اللغة التي عاشت في شرايينكم ونبض قلبكم الطاهر النقي.
ينعاكم اليوم، مجمع اللغة العربية الأردني الذي واكبتم تأسيسه ورئاسته لمدة طويلة وكنتم العالم البار الوفي والقدوة في العطاء، والحريص على الانجاز الثقافي والفكري المتميّز مع مجموعة من علمائنا الاجلاء الذين ما بخلوا لحظة في رفد الحركة العلمية تجديدا ونهضة وأصالة.
تنعاكم اليوم، أم الجامعات الجامعة الأردنية التي قدمتم لها جلّ العطاء استاذا متميزا للغة الضاد فيها ورئيسا قائدا لمسيرتها العلمية بتواضع العلماء وقوة الأمناء الصادقين، مخلصا لوطنكم وأمتكم في مواقف عزّ نظيرها التي تحترم كرامة العلم والمعرفة، حيث آمنتم أن طلبة العلم هم قادة مستقبل الوطن والأمة وهم الامتداد الحقيقي لاساتذتهم في كل مكان وزمان.
وإكراما لروحكم الطاهرة شيخنا الجليل وسادن العربية والمتيّم في عشقها، فهل هناك من عودة إلى ثقافتنا الأصيلة التي بدأت بكلمة أقرأ بكل ما تحمله من مضمون شمولي التي تحترم الكلمة الرصينة البليغة، لأن اللغة الراقية السامية هي التي تسمو بنا نحو النهضة والتقدم، وهي وعاء الفكر الحقيقي والعلم النافع والثقافة الشاملة المستنيرة التي ترفض العبثية والميوعة والاستهتار، كما ترفض كل ما هو دخيل يحاول النيل من عظمة وشموخ لغة الضاد.
ورحم الله أستاذنا الكبير وعالمنا الجليل ذلك العلم الموسوعي قكرا وثقاقة وأصالة على ما قدّمتم للعربية مدافعا صلبا عنها وحارسا أمينا لها، ولتطمئن روحكم الطاهرة في رحاب الله على ما قدمّتم ايضا من عطاء زاخر بالايمان لأمتكم، وجهود مباركة مثمرة لوطنكم الذي أخلصتم له ولقيادتنا الهاشمية الحكيمة. وأنعم أيها الغائب الحاضر، قرير النقس في رحمة الله تعالى عند مليك مقتدر وعلى روحكم الطاهرة الأمن والسلام.